جثمان إميلي نصر الله في ثرى زحلة… وإرثها خالد خلود الوطن
هكذا هم العظماء في هذه البلاد الولّادة، يموتون جسداً ويُخلّدون بأعمالهم وإرثهم. نبكيهم لحظة الفراق، ونتذكّرهم دائماً لأنهم استطنوا القلوب.
وكباقي العظماء، ها هي إميلي نصر الله تترجل عن صهوة الحياة، راحلة إلى عالم الخلود، لكنّها تدرك جيداً، أنّ أمثالها ـ وإن ماتوا ـ لا ينتهون بمأتم.
لبنان أمس كان حزيناً رغم الصخب السياسي الذي يعصف به بسبب المعارك الحامية في الانتخابات النيابية. كان حزيناً لأنه كان على موعد فراق، إنه موعد وداع الأديبة والروائية الكبيرة إميلي نصر الله.
ففي زحلة، عروس البقاع والمصايف، كان الوداع بعد ظهر أمس في مأتم مهيب، شارك فيه المئات من الزحليين ومحبّي الأديبة الراحلة.
وقد أقيمت الصلاة لراحة نفسها في كاتدرائية القديس نيقولاوس، بحضور وزير العدل سليم جريصاتي ممثّلاً رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، والنائب قاسم هاشم ممثّلاً رئيس مجلس النواب نبيه برّي، فيما حضر النائب عاصم عراجي ممثّلاً رئيس الحكومة سعد الحريري، إضافةً إلى عائلة الراحلة.
وترأس الصلاة راعي أبرشية صيدا وصور وتوابعهما للروم الأرثوذوكس المتروبوليت جورج كفوري، وشارك فيها كل من راعي أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما المتروبوليت أنطونيوس الصوري، والمعتمد البطريركي لدى موسكو المتروبوليت نيفن صيقلي.
وفي عظته، تحدّث المتروبوليت كفوري عن الأديبة والكاتبة، الروائية والصحافية، عن ابنة الأرض الجنوبية المقدّسة، عن المناضلة لحقوق المرأة والأمّ التي اتّصلت، في ساعاتها الأخيرة، بكلّ ولد من أولادها لتطمئن إليهم. وعن المُحسنة التي لا تعرف يسارها ما أعطته يمناها.
زحلة، وإن اتشّحت أمس بالسواد، إلا أنّها شعّت بنورانية إميلي نصر الله، التي لها في قلب كل عاشق للقراءة، مكان محفوظ ومحفور في الأعماق.
«البناء» التي استقبلت أمس مرثيّات من كتّاب وإعلاميين وشعراء، تواصل اليوم نشر مقالات من أصدقاء أبوا إلا أن يرثوا الأديبة الكبيرة.
صاحبة العنفوان والسموّ
ليلى الداهوك
التقيت بها منذ سنوات بعيدة وأنا يافعة أنطلق بدراستي الجامعية وأحلم بتسلّق أدراج الشهرة . وكم بلغت سعادتي مداها عندما علمت بلقائنا معها في والذي سيكون موضوعه الأدب عموماً وأدبها خصوصاً وأنا التي ترعرعت على كتابات كبّار الأدباء وتأثّرت بحبرها العنفوان وقلمها الثورة تشهره في وجه الظلم .
انتظرت صاحبة العنفوان والسمو والشموخ وترقبت معاينة وجهها ولو من بعيد. وإذ بي أتفاجأ ببناء حضاري إنساني وهامة شامخة مزدانة بالتواضع والمحبة وابتسامة حنونة وصوت يفيض بالطفولة.
وكم كانت مسرورة وهي ترشدنا وتسلّمنا أسرار تجربتها وتجيب على أسئلتنا بكلّ رحابة صدر لنعبّ من نهر ثقافتها وننهل من مدرستها الينبوع.
تحلّقنا حولها في آخر اللقاء للصورة التذكارية وبقيت روحاً تدفعني إلى الأمام .
إميلي نصر الله، حين بلغني نبأ الرحيل، لم أصدق، صوتك، وصورتك ومحبّتك وما تركته من حبر مضيء، كلّها قناديل تؤكّد أنّك الباقية.
إعلامية وشاعرة لبنانية
ضمير المؤنث الذي لا يُكسر
محمد كوراني
هل أنّك أرّختِ لهذا اليوم في روايتك تلك؟
هل أن شخصياتها هي تقسيم زمانيّ سرديّ لحياتك المعذّبة وأمواج الاضطراب الرهيب في بحور الزمان؟
هل أنّك عبرت جسور الوقت هناك في «فواز ومريم»؟
هل تغرّبت كما «راجي» وكسرت كما «مرسال» وامتلكت جنون «أنجلينا» الرائع؟ ما أحوجنا إلى «أنجلينا» واعترافها فكلّ منّا يخفيها تحت قناعه.
ها هي اليوم شجرة الدفلى تحمل تلك الذكريات وتقلع عكس الزمن، فهؤلاء العظماء تبدأ حياتهم هنا بعد أن عاشوا حيوات في قلوب قرّائهم وعشّاقهم.
لك يا ضمير المؤنث الذي لا يكسر حتى في اللغة أعطيت مثالاً لكلّ امرأة رائدة أنّها لم تخلق للكسر بل قادرة أن تكون مرفوعة إلى مصاف التاريخ، إلى سطوح الخلود إلى أفق الأبد.
إميلي نصر الله… هنيئًا لك غفوتك على وسادة التاريخ.
شاعر لبنانيّ
أمّ القرّاء
فاطمة إسماعيل
لم أكن أتخيّل وأنا أقرأ للكاتبة والأديبة إميلي نصر الله على مقاعد الدراسة الثانوية بأنه سيتاح لي المجال أن أكتب عنها وأن أعبّر ألف هالة عظيمة أحسستها وأنا أقرأ لها.
عندما ننشأ وبين أيدينا كتب عظيمة لعظماء نعاصرهم، نحسّ بالمسؤولية إزاء البصمة التي قدّموها، إزاء الطهر الملائكي الذي يجبرنا على البحث عن الكلمة التي تحتوي هذا الكون وتحتوينا لننشرها ونعطي هذا الكون ما يستحق.
إميلي نصر الله استطاعت أن تحضنني وأنا في مرحلة المراهقة، كذلك هي تحتضن طفلي اليوم بالكتب التي تركتها للأطفال.
رحلت في شهر الأمومة والمرأة والطفل والأرض، لتجمع كلّ ذلك تحت البصمة التي تركتها.
المرأة التي تكتب عن الحياة تكون أمّاً لكلّ قرائها، هي الشجرة الخضراء التي يتفيأ تحتها لبنان، ونأخذ منها البراعم لنكبر منها نحن أيضاً.
لبنان أنجب كثيرين، وأنجبوه هم أيضاً، فالرواية هي حياة، وكلّ حياة أضيفت إلى مكتباتنا أنجبت في قلوب قارئيها حياة جديدة ونظرة مختلفة إلى جوهر الأشياء من حولنا.
إميلي نصر الله التي كتبت عن الحياة والإنسان، عن الإحساس العميق الذي ينتشلنا من الكثير من المتاعب التي نواجهها يومياً، رسمت لنا حياة خاصة، عميقة ومرفرفة وفعّالة ومؤثرة.
والراحلون الذين يتركون أثراً لا يرحلون أبداً، لهذا إميلي نصر الله موجودة في ذاكرتي، في مكتبتي ومكتبة الأجيال الجديدة. قد تكون رحلت، و لكن أثرها سيبقى نابضاً بالحياة طالما هناك قراء على هذه الأرض.
فنانة تشكيليّة
كلماتها خبز يوميّ
ريمة راعي
هي الأنثى التي أطلق والدها الأعيرة النارية من بندقيته يوم ولادتها ليحتفي بقدومها. الفلّاحة التي تجرّحت يداها وهي تعمل في الحقول. الفتاة التي حاربت لتدرس، والمرأة التي حملت معها جذورها القروية لتزرعها في كلّ أرض حلّت بها.
إميلي نصر الله الكاتبة التي كانت تصنع من الكلمات خبزاً يومياً، تنثر فُتاته خلفها، كي تحفظ الطريق، بينما تسير نحو حلمها بعالم أكثر اتّساعاًً وجمالاًً وإنصافاًً.
خبز تآمرت معها العصافير، ولم تأكل فتاته كما في القصّة الخرافية، ليبقى الطريق الذي رسمته خلفها تنمو على أطرافه دهشة الأسئلة والفطرة الأولى، وأربعة وستون كتاباًً ولقب عصيّ على غيرها «أمّ الرواية اللبنانية».
ليست مصادفة أن ترحل بعد يوم من إصدار مؤلّفها الأخير «الزمن الجميل»، لعلّها اطمأنت أنها تركت وراءها ما يصفها ويصف العالم كما رأته بكلّ ما فيه من حكايات وكفاح وجمال.
وداعاً أيتها الجميلة.
كاتبة وصحافيّة سوريّة
السنديانة الطيّبة
د. محمود أبو فروة الرجبي
ثمّة مفارقة كبيرة في موت أي أديب، فهو يغادر الحياة، ليسكن في الراحة الأبدية، وتبقى كلماته حية، تقارع الحياة، وتعركها، وتتصارع معها، فتنتقل روحه إلى كلماته، وكأنه يتحول من الحياة الفانية إلى جنة الكلمات التي لا موت فيها، فكيف الحال مع أم الرواية اللبنانية إميلي نصر الله، التي تفوح من رواياتها رائحة الفلاحة الأصيلة المخلوطة برائحة خبز الضيعة، فهي كما وصفت نفسها في أحد لقاءاتها «لا أزال فلاحة تكتب بالقلم، ولا استخدم التقنيات العصرية». ومن قال إن هذا القلم النابض بالحياة والساكن بالروح يحتاج إلى أي تقنية ليصل إلى القلوب؟
ماتت إميلي في آذار، ولكن «طيور أيلول» ستنتظرها هذه السنة، كما لم تنتظرها من قبل، وسينتظرها عشاقها، من خلال كلماتها المحلقة الّتي لن تجد لها مطاراً تهبط فيه سوى قلوبهم.
طوبى لك أيتها السنديانة الطيّبة، ستبقين في الذاكرة تعطّرينها برائحة كلماتك الجميلة، ولتبقي مثل لبنان الصامد الرافع رأسه دوماً كما أشجار الأرز.
يحقّ لنا أن نحزن لرحيل روحك الطيّبة. وعلى النقيض، لنا أن نفرح لأن كلماتك ستبقى معلقة بين الأرض والسماء مثل الشمس التي نحضنها في كل يوم.
أديب وإعلامي أردنيّ
طيور أيلول
تغادر في رحلتها الأخيرة
داود مهنا
شمس الحكايات الجميلة تنزوي في صمتها الأبديّ،
تتبعها الفصول!
وطيور هذي الأرض تطلق صرخة الآفاق،
تعلو، ثمّ تهبط، ثمّ تعلو، ثمّ…
ماذا؟
كيف يدرك رقصةَ الآفاق إيقاعُ الأفول؟!
شمس الحكايات الجميلة،
لملمت صخب الكلام،
وغادرت،
لكنّها تركت خيوطاً من شعاعٍ نستضيء بنورها
إذ يعتري أحلامنا الموج البتول!
حدّقت، أبصرت ابتساماتٍ على شفة الكلام،
برقاً على وجه الغمام،
قمراً يدور ملوّحاً بيديه،
يبعد عن مدار الحلم أجنحة الظلام…
ورأيتها تاجاً على هام الحقول
ثلجاً على جبل الكلام،
فراشةً تهتزّ فوق الزّهر،
تطلق في حنايا الروح أغنية الذهول!
تمشي الجبال، كأنّ هذي الأرض ما عادت تلائمها،
وتتبعها السهول
وعلى انكسار الموج نوحٌ…
صمت هذا البحر قتّالٌ
يردّ الصوت تلويحاً
كأن في باله أن يستقيل
شمس الحكايات الجميلة
حدّثت، قالت، وأسرجت الكلام نبؤةً،
رحلت،
وما زالت تقول!
شاعر لبنانيّ
نرحل لكي نبقى
مكرم غصوب
«تحبّ العصافير
اِزرع شجرة
ولو في قلبك»…
إميلي نصر الله التي زرعت الغابات الملوّنة في قلبها وفي قلوب الأجيال رحلت وتركت عصافير لكلّ الفصول وأجنحة للعقول التي لا تخشى التحليق والحرّية…
رحلت؟!
أحياناً نحبّ أن نبقى ونرحل لكي نبقى.
غابت؟!
من يصنع غيابه لا يغيب…
في حديقتي شجرة غار زرعها جدّي منذ مئة حول وأكثر، وما زالت رائحته تفوح من أوراقها وفي فيئها يرتسم ظلّه. وكم تشكره من دون أن تدري في أناشيدها العصافير…
هذه شجرة جدّي فما بالك بامرأة زرعت هذا الكمّ العظيم من غابات الغار؟
شاعر لبنانيّ
مالئةُ خيالنا
محمود عثمان
فُتِنتُ بنصّها وأنا تلميذ على مقعد الدراسة حيث يبدأ الكتاب المدرسيّ بنصّ مقتبس من مطلع روايتها الحلوة «طيور أيلول». وملأت خيالي صورة فلّاح يرتدي الشروال الأسود ويمسح طرف شاربه بيده، وهو ينظر بحكمة وعمق إلى تلك الطيور الراحلة في السماء. وهكذا أصبحتُ أرقب أيلول في كلّ سنة لأراقب هذا المشهد الساحر للطيور التي تجوب فضاء قرانا.
كان هذا الاتصال الروحي بالكاتبة اللبنانية التي تدغدغ فينا الحنين إلى عالم مضى وطفولة نفقد سحر براءتها يوماً بعد يومٍ.
شاعر لبنانيّ