محمود الزيباوي يستدعي بفخامة: «نجمات الغناء في الأربعينات اللبنانية»

اعتدال صادق شومان

يواصل محمود الزيباوي الفنان والصحافي والباحث والكاتب الأكاديمي شغفه بفنون الزمن الجميل مترصّداً كلّ شاردة وواردة، ويفشي ما توارى خلف الحجب، يلملم تلك الصور وملامحها، والشذرات الجميلة من ذات مسيرة، من زمن الوصل في «الأربعينات اللبنانية».

لاحق الزيباوي هذه المرة في عمله التوثيقي الجديد «نجمات الغناء في الأربعينات اللبنانية» من إنتاج «جمعية عرب للموسيقى» وتوزيع «دار الفرات للنشر»، من أتحفنا الغناء العربي ببعض روائع النغم البلدي إلى جانب مقطوعات طربية خالدة مستعيداً فيه تفاصيل ثريّة تلقي الضوء على لفيف من نجمات تلك الحقبة على الأخصّ التي لمعت منهن في فضاءات مصر الفنّية في لحظة من الزمن انطلاقاً من أواخر الثلاثينات إلى أواخر الخمسينات، على اعتبار أنّ ظهورهم شكّل المدماك الخصب لبداية لما عرف في ما بعد بـ«الزمن الجميل»، واللواتي بلغ عددهن في الكتاب 12 فنانة، وهم بحسب توارد أسمائهن في الكتاب: نور الهدى أولى تلك الأصوات التي برزت في الغناء والسينما التي اختطفها يوسف بك وهبي في الأربعينيات من حلب إلى مصر حيث عاشت عصرها الذهبي، وصباح تتعهدها النجمة آسيا داغر اللبنانية الأصل، سعاد محمد بصوتها الكلثومي صاحبة الحنجرة الذهبية تتألّق بكنف شاعر الأغنية محمد علي فتوح، والأقل حظاّ سهام رفقي، نورهان، نهوند ونجاح سلام التي صادف دخولها المستشفى مع صدور الكتاب، نازك، زكية حمدان، حنان، أوديت كعدو، بهية وهبي، والأخيرة هي المعروفة بِاسم وداد.

يحوم حولهن الزيباوي انطلاقاّ من «إذاعة بيروت» أقدم الإذاعات في العالم العربي، و«إذاعة دمشق» و«صوت إذاعة الشرق الأدنى» معيداً إلى الذاكرة الأماكن التي كانت مسرح ظهورهن الفنّي. بين دمشق وحلب وبيروت وطبعاً مصر، القاهرة تحديداً التي كانت منذ طليعة النصف الأول من القرن العشرين قبلة لكلّ فنان راغب في ولوج عالم الفنّ والحصول على شهادة اعتراف من عاصمة الفنّ التي كانت تعجّ بكبّار المغنيّن والموسيقيّين والملحّنين الذين كان مجرد الاقتراب منهم مغامرة لا يقوى عليها الكثيرون، ومخرجين سينمائيين أصحاب الدور المفصلي في مسيرة تلك الفنانات في صعودهن على سلم الفنّ أو حتى في تراجعهن.

اختيار تسمية الكتاب «نجمات الغناء في الأربعينات اللبنانية» لا «النجمات اللبنانيات» ذاك لأنّ اثنتين منهن من أصول سورية هُمَا زكية حمدان ونورهان، ولقد عملتا في لبنان وتوظفتا في الإذاعة اللبنانية في زمن كان اسمها «إذاعة الشرق».

تتبع محمود الزيباوي سيرتهن من ريعان أسمائهن الأولى، وبشائر المحاولات الأولى، إلى عزّ شهرتهم، وبدء انحسار بريق الضوء عنهن وأفوله. فلطالما كان تسلّق هرم النجومية صعباً، وقلّة قليلة من وصل إلى نهايته أو حتى منتصفه، رغم أنّ أصوات مهمة ظهرت كصوت نور الهدى وسعاد محمد ونازك ولكن لسوء حظهن أنهن جئن في عصر تربّعت فيه أمّ كلثوم على عرش الغناء العربي، ولم يفسح المجال ليأخذن أماكن لهن في ذلك الوقت، فقط أسمهان كادت أنّ تهدّد أسطورة الستّ.

غير أن فنّانات سلكن دروباً تعتمد على مواهبهن وعلى إمكانيات أصواتهن، فكنّ الاستثناء الوحيد، أبرزهن الفنانة الكبيرة صباح بحضورها الاستثنائي حتى الرمق الأخير حيث وضعت صوتها خارج إطار المنافسة القاسية واختارت خطّاً فنّياً خاصّاً بها لا يشبهه أيّ خطّ آخر. وبذلك أمّنت نجاحها واستمرارها الطويل، وأيضاً إلى حدّ ما الفنانة نجاح سلام التي اتخذت ذائقة فنّية خاصة بها بنهكة مختلفة.

ولم يغفل الكتاب عن تسليط الضوء عن أسماء «السنّيدة» من الفنانين الرجال، وهذا ورد في الجزء الثاني من الكتاب، الذي لا يقلّ تميّزاّ عن الجزء الأول منه، من إنجاز «الوله» الآخر بالفنّ العميد أسعد مخول خصّ فيه أصحاب الوتر الموسيقيّ، نجوم التلحين بأسماء مبدعين لبنانيين، بعضهم لا يزال نتاجهم الفنّي نابضاً في ذاكرتنا، وآخرون يقبعون في خبايا مقتنيات موسيقيّة تنتظر أن تكتشف، والمرجّح أنّه في غالبيته اندثر خلف رياح النسيان والإهمال، ومن هؤلأء نقولا المني، سامي الصيداوي، فيلمون وهبي، خالد أبو النصر، عبد الغني طليس ومحمد محسن.

«نجمات الغناء في الأربعينيات اللبنانية» إصدار شيّق تفوح منه عبق تلك الأماكن بحلّتها العتيقة وسحرها الآتي من زمن كان صعب المراس يحضر صوراّ وأصوتاّ نثرها الزمن على خشبة «التياتر الكبير»، و«سينما كريستال»، و«كازينو البيسين»، و«سينما البريمو»، و«الماجستيك ورويال»، و«صالة منصور»، و«ملهى الكوكب الدمشقي» و«صالة عجرم». وصور وآفيشات أفلام كلّما اشتدّ اصفرارها فاض رونقها أكثر وزهت ألوانها على صفحات مجلات الكواكب والفنّ واستديو صباح الخير والإذاعة مستعيناّ الزيباوي بما طاب من منشورات وملصقات «هذا المساء» لصديقه ونديم الهواية والولع صاحب «دار الفرات» عبودي أبو جودة.

ويتضمّن الكتاب أيضاً أرشيفاً صحافياً لمقالات وأقلام صحافية ذاك الزمن من مرتبة إحسان عبد القدوس ومحمد التابعي، وقد رصدنا حركة الفنانات الفنّية والشخصية، وتناولتهم أقلامهم مدحاً وثناءاً، كما لم ترحهم في كثير من حين الأحيان حتى الشدّة في القول.

والحقّ يقال إنّ محمود الزيباوي لم يحقّق مبتغاه من هذا الكتاب في رصده مسار «نجمات الغناء في الأربعينات اللبنانية» فحسب، بل استحضر لنا كامل المشهد الفنّي في مسح شامل لتلك الفترة بكلّ رموزها ودلالتها، في عالم تضجّ كواليسه بالأسرار والخبايا لا يسلم فيه بالنهاية إلّا أصحاب الموهبة الحقيقية، والآخرون يصحّ فيهم القول: «سبع صنايع والبخت ضايع»!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى