السودانيّ محمد الطيّب: مهمّة الرواية طرح الأسئلة التي تثير قلق العالم!
حاورته: منى حسن
يرى الروائيّ والكاتبّ السوداني محمد الطيّب أن النقد في المشهد الثقافي العربي هو نقد قراءات في المقام الأول، ولا يقوم بمهمته الأساسية وهي طرح الأسئلة التي تؤدّي إلى انتقال النص من مرحلة الإسقاط الرمزي إلى فهم أقرب لذهنية المتلقي!
ومحمد الطيّب روائيّ وكاتب سودانيّ شاب يمتهن الصيدلة، ويكتب الرواية والمقالات، صدرت له رواية «الحبل السرّي» عن «دار ثقافة للنشر» 2016، و«روحسد» عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» في 2017، وينتظر صدور روايته الثالثة «في بلاد السين أولاد الخونة»، مؤسّساً لمشروع روائيّ يحمل بصمته الخاصة، ويستمدّ أخيلته من واقع سودانيّ النكهة، مضمّخٍ بحكايات الريف وأساطيره، وموشّحٍ بوجع التغرّب وقسوته.
حول تصوّراته للكتابة وتجربته في الإبداع الروائيّ، وقضايا أدبية أخرى جاء الحوار التالي:
كيف تنظر للعلاقة القائمة بين الروائي وبيئته، هل هي علاقة تقاطع أم علاقة بنيوية؟
ـ هناك ثلاثة محاور رئيسة تشكّل الروائيّ المحور الأوّل البيئة المجتمعية التي نشأ وترعرع فيها واكتسب خبراته الحياتية والمعرفية الأولى في عملية التحوّل من الغريزي التلقائي إلى الاجتماعي المكتسب، ثم تأتي الخبرات المكتسبة من القراءة للآخر، وهنا يطل الكاتب على العالم من نافذة واسعة تتيح له الرؤية بمنظار جديد، بعيداً عن أحكامه الخاصة التي شكلتها البيئة الأمّ في بنائها المعرفي الأول، ثم أخيراً المخيلة التي تمزج بين المحورين الأولين في انسجام فاعل من أجل نتاج معرفي يحمل ملامح البيئة الأمّ ويحلق بجناحَي المعرفة الكونية.
من أين جاءت خصوصية الرواية السودانية؟
ـ للرواية أثنيتها الخاصة التي تربطها ببيئتها، فلكل بلد في العالم خصوصيته الاجتماعية، التي تفضي إلى نتاج أدبي فني مختلف، رغم العولمة التي اجتاحت العالم منذ تسعينيات القرن الماضي، فأضحى الاعتزاز بالتمايز الثقافي مطلباً مهماً لدى الكل وليست الرواية بمعزل عن هذا الحراك العالمي، الرواية السودانية تتميز بخصوصيتها بسبب الموروث الإفرو عربي الذي يخص هذا البلد القارة، ففي السودان خلق التمازج الإثني والديني إنساناً مميزاً بموروث ثقافي مختلف أدى إلى إنتاج أدبي مغاير، الرواية السودانية لها السمات ذاتها ولا تشذّ عنها. فالسودان أرض الأساطير والتصوّف والغرائبية التي تدهش العالم من عاديات أرض السودان. الحكايات الشعبية التي يتداولها عامة الناس تصلح كبذرة لروايات لا حصر لها وكذلك كان، فالرواية السودانية دارت في فلك الأسطورة والواقعية السحرية موجودة في التراث الشعبي، قبل أن يقدّمها الرواة اللاتينيون للعالم، وإن كان هناك القليل من الرواة خرجوا من فلك الواقعية السحرية وحلقوا في سماوات أخرى كنتيجة حتمية للاحتكاك بثقافة الآخر والتأثر بها.
كيف تنظر للعلاقة القائمة بين الرواية والنقد في المشهد الأدبي العربي؟
ـ النقد في المشهد الثقافي العربي هو نقد قراءات في المقام الأول ولا يقوم بمهمته الأساسية وهي طرح الأسئلة التي تؤدي إلى انتقال النص من مرحلة الإسقاط الرمزي إلى فهم أقرب لذهنية المتلقي، وربما يعود هذا للحراك الروائي الفاعل في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة، ما جعل النقد في حالة لهاث دائم للحاق به، ما أدى إلى سقوط عدد كبير من النصوص الجيدة من عين النقد، في حين وجدت نصوص ذات جودة أقل حظاً جيداً من النقد الموجه بسبب عوامل أخرى يضيق المجال عن ذكرها في هذه العجالة.
هل تؤيد أن الرواية بما تثيره من أسئلة، مطالبة هي الأخرى بطرح لأجوبة لتحقق فعليا ما يريده الكاتب من شخصياته في واقع الحياة؟
ـ مهمة الرواية الأساسية هي طرح الأسئلة التي تثير قلق العالم، أما الإجابات فهي من اختصاص الآخر، ما الذي يريده الكاتب فعلياً من شخصياته الروائية التخيلية؟ يقع الفعل الكتابي نفسه على مستوى تخيّلي، ولكن يفترض التعامل معه كواقع محض وهذا يعدّ مأزقاً كبيراً للكاتب، هنا أعني الالتقاط الخاطئ للإشارات التي يبثها الروائي، بل إن كان التقاطاً صحيحاً ولكن غير موافق لثوابت المتلقي، فتتلقى الشخصية الروائية الكثير من الهجوم عن الروائي، أظن أن الشخصيات الروائية هي الدرع الذي يقي الروائي من تلقي الضربات لما يثيره من قلق لضمير هذا العالم.
قرأت كتباً في علم النفس قبل أن تقدم على كتابة «روحسد»، ما الذي دفعك إلى هذا؟ وإلى أي مدى أثر هذا في تجسيدك لشخصيات سليم الصوفي وخيري الروائي؟
ـ نعم قرأت «الأنا والهو» لفرويد قراءة أكاديمية، سعياً لمحاولة فهم أعمق وأكبر للنفس البشرية ولـ«هو» بالذات وأثر السنوات الأولى من العمر في تشكيل الأنا والأنا الأعلى، وفق رؤية فرويد لتأثير الغرائز الموروثة واللاشعور في بناء التركيبة النفسية للإنسان، ثم أتبعته بكتاب «جنون من طراز رفيع» لناصر قائمي الذي يتهم معظم العظماء في التأريخ الحديث والمعاصر بمرض اضطراب ثنائية القطب، الكتاب كان مسلياً وهو يمزج بين العلم والطرفة مزجاً غير مخل، ولكن ما حاولت التقاطه هو التعارض الحاد في مواقف معينة لمرضى اضطراب ثنائية القطب وساهمت تلك القراءة في البناء النفسي لشخوص الرواية، خاصة خيري وسليم الصوفي، أحسب أن بناءهما النفسي كان علمياً من أجل خدمة أغراض الرواية.
سليم الصوفي الذي قتل أمه في ثورة غضب، هنالك من سينظر إليه كضحية، وهناك من لن يقبل سوى رؤيته مجرماً، ألا ترى في سياق الرواية ميلاً لتبرير جريمته؟
ـ استعنت في «روحسد» بالريشة أكثر من القلم، بعد الانتهاء من رسم الشخوص بشكل دقيق تركتها تتفاعل في ما بينها، من دون تدخل حقيقي منّي، وصولاً إلى مصيرها النهائي. لم يؤرّقني الحكم الأخلاقي على أبطال النص لأني لست مقاتلاً يذود عن أبنائه، قد يرى البعض أن سليم مجرد قاتل، وهذه حقيقة لا جدال فيها، وقد يراه البعض ضحية، وهذا قول فيه أخذ وردّ. ما سعيت له كان بعيداً عن هذا كلّياً، والقارئ المتمعن اللماح سيلتقط ما أردت قوله، ما سيدفعني إلإلى إيماءة رضا وسرور. ولكن غياب الالتقاط الذكي ليس سيئاً على الإطلاق، فهو يجعل النص يقرأ على عدة مستويات، ما سيضفي ثراء على الرواية والشخوص، وهذا من أهداف الكتابة والقراءة المرصودة من أجل اقتناصها.
«الحبل السرّي»، هل توافقني على تصنيفها ضمن أدب الغربة، وأنها جاءت من واقع نظرة شخصية وتجربة حقيقية؟
ـ نعم أوافقك تماماً، «الحبل السرّي» ملهمها الحنين، كُتبت في الغربة بعيداً عن الأهل والأصدقاء والأزقة التي تنبض بالدفء والحياة، الروح تحمل طينتها الأولى تميمة مهما نأى الجسد وبعد فهي تحلق بأجنحتها في سماء الوطن، بزرقتها المتفردة عن باقي السماوات ليل نهار، إن من المبهج حقاً أن يسيل هذا الحنين حبراً على الورق، فيقرأ من الآخر لتتلقى الروح تربيت عزاء يحيل قلقها إلى طمأنينة، لست قلقاً من الرأي السائد بأن الرواية الأولى أقرب إلى التجربة الحقيقية، فهذا لن يضيف للنص ثراء وغيابه لن ينقص من ثرائه أيضاً، هناك عدة شخوص في الرواية حقيقية تماماً، ولكن السياق القصصي تخيلي بشكل مطلق، وإن كانت الذاكرة هي البذرة التي نمت منها شجرة التخيل حتى استحالت غابة من الحكايات.
في ظل كثافة النشر الروائي، وغياب المقاييس والضوابط للنشر والجودة، كيف يستطيع الروائي أن يحفر لاسمه مكاناً راسخاً في ذاكرة المتلقي، من دون أن يضطر لمجاراة هذا الواقع المتخم بالبهرجة وحفلات التوقيع؟
ـ لا مفر، الروائي في عصرنا يقع ضمن منظومة التفاهة، حسبما يقول الفيلسوف الكندي ألان دونو، فالقراء عادة لا يقتنون الكتاب الجيد، ولكن يقتنون الكتاب الذي يقال لهم إنه كتاب جيد. الآلة الإعلامية العالمية الضخمة تسوق للتفاهة دعماً للنمط الاستهلاكي، فنحن نستمع لأردأ أنواع الموسيقى، ونفتتن بأجساد عارضات الأزياء، وننساق خلف نجوم كرة القدم، ونقرأ لأنصاف الكتاب والجهلة، الروائي يقف حائراً أمام تلك الآلة الضخمة، فهو مضطر للانسياق لها مرغماً، أو المخاطرة بالوقوف في وجهها، وهنا يبرز السؤال عن ماهية الكتابة ودوافعها، فالبحث عن الشهرة يدفع الروائي للانسياق مع التيار الجامح، ولكن من يبحث عن كتابة رواية جيدة سيجد طريقاً للوصول، فالجيد يبقى وينافح ويجد طريقه لعيني القارئ وعقله مهما طال الزمن.
إلى أيّ مدى يتقمص الروائي شخصية ما ليكتبها، وهل يستطيع النجاة من فخّ كتابة نفسه، والوصول إلى برّ موت المؤلف؟
ـ لا يملك الروائي إلا أن يتقمص شخوصه، وفي هذا تشظ للذات يخلف عذاباً مقيماً، لا يلزم ذلك الكاتب المرور بتجربة معينة من أجل كتابتها، ولكن لابد من الإحاطة والإحساس بها، وهذا هو التشظي الذي أعنيه، حين يسأل الروائي نفسه وهو يكتب ماذا كنت سأفعل لو كنت مكانه فقد وقع في فخ الصنعة، لأنك حين تكتب ينبغي أن تتقمص الشخصية، فتكون أنت ولست أنت في الوقت ذاته، بالطبع كتابة الروائي لنفسه في الرواية بعيداً عن أدب السيرة الذاتية ليس فخاً أو جرماً، ولكن يجب أن يكتبها بحرفية عالية بحيث يصعب التقاطها، في هذه المساحة الصغيرة من المناورة تتجلى متعة الكتابة وتزدهر، أما نظرية قتل المؤلف فهي تدعو القارئ الذي يبحث عن المؤلف بين سطور النص، سعياً للقبض عليه بالجرم المشهود، إلى عدم التركيز مع الكاتب لأن العمل يصبح كياناً منفصلاً عن الكاتب حال صدوره، هذه الدعوة تحولت الآن إلى العديد من الفنون التي تنادي بموت الفنان والتعامل مع العمل الفني ككائن منفصل قام بذاته بعيداً عن الفنان.