عرية نُثار الذاكرة في زجليات أحمد لمسيح

أحمد الشيخاوي

سيرة ظلال موازية وأجمل وألذّ من ذلك، هي أبرز متون ما يُطالعنا به المبدع المرموق ذائع الصّيت المغربي أحمد لمسيح، كما عايشناهُ على امتداد زمني قصير نسبياً، إذا ما قيس بحجم نوعية خارطته الإبداعية المستفتحة بقفزة فارقة سجّلت لانفصال ذكي عن الشفهي المهيمن لقرون خلت قبل أن ترخي القصيدة الزجلية المطبوعة بثقلها على بدايات تشكّل ملامح مشهد تورُّد ودسَامة أدبياتنا الحديثة، وفي سياقات تجريبية محضة، عطّرت طياتها روح الفردية المتسربلة بقناعة مناهضة لكلّ ما هو كلاسيكي باعث على التحجّر والصّنعة والجمود، مذ أول الغيث سنة 1976، ديوان رياح ..التي ستأتي مرورا بمجاميع جاذبة سواء من حيث العتبات أو المضامين / شكون اطرز الماً، ظل الرّوح، توحّشت راسي، حال وأحوال، نجمة، كلام ضاوي، بلادي، إلخ… وحتّى أحدث إصدار ثمّ توقيعه سنة 2013 بسمة .

وهو لعمري، نضال طويل جدّا وشاقّ، أثمر انتهاء شتّى ما في حوزتنا من فلذات ضّاجة بشعرية النّص الدّارج المغربي المقروء، ومقحمة بكلّ وعي وأناقة وانخطاف، لـ«نُثار الذاكرة»، في دوامة لعبة كلامية، تنزع من خلالها الذات إلى شعْرنة الموروث على نحو انقلابي يلملم تيماته من تفاصيل اليومي، و ينزع صوب كواليس استنبات معاني البكارة الوارفة بكتابة جديدة نافرة، تحاول أن تتجاوز عنف الراهن وقبحه بجماليات المحكي المنقوع في أريج النرجسيّ.

ولأنّ الزجل عصب الثقافة الشعبية، استحق هذا العناء والإخلاص أيضا والتماهي مع سائر ما يشقّ له في قلوب وأذهان عشاّقه ومريديه، آفاقا للخلق وابتكار رؤى قادرة على إجلاء عمى البصيرة، وناجعة في احتواء معاناة الإنسان المعاصر.

بينما عندنا ارتبط بالأغنية، وتفاقمت حمّاه، منذ السبعينيات تحديداً، مدشّنا بذلك تجارب رواد و لربّما حساسيات، ليكتسي فيما بعد صبغة مفهوم الأجيال.

فيما تمتدّ جذوره حسب زعم بعض الدّارسين، إلى القرن الثالث للهجرة، في تدشينه لحقبة زيغ عن سكّة فصاحة ديوان العرب، وإن بتجليات أدنى نضجا واختمارا، ممّا كانت عليه في زمن الشاعر الأندلسي ابن قزمان 556 هـ فما بعده.

وممّا يجدر التأكيد عليه أيضاً، كون أولى شفهيات الزجل، بوصفه فنّا تعبيريا تفتّق داخل هويتنا، ارتبط بالمركزية في جنينيته، دون الهوامش وباقي بادية العرب.مثلما ظلّ محافظا على استقلاليته داخل خلطة من أشكال تواصلية شعبية أخرى.

عودة إلى عوالم الخفي من تجربة زجّالنا الألمعي، أحمد لمسيح والذي آثرنا أن نفرد له هذه الورقة في أسطرها المعدودة التي قد لا تفيه حقّه كرائد، آمن بقدراته، فأفلح إلى حدّ بعيد في الإتيان بما هو ملامس للصّميم الإنساني ودالّ على الرّغبة في التغيير، عبر الذود عن الحرية والكرامة وما على شاكلة ذلك من قيم ومبادئ سامية ونبيلة، فغرّد خارج سربه و ملء حنجرة الثورة الهادئة والعصيان، ينشد توكّلا على بنات حلقه المغريات، درب الخلاص ليس إلّا… خلاص الذات والغيرية والعالم.

بذلك تمّ له ما أراد، ضمن تخوم تبنّي آليات نيوكلاسيكية، جدّفت وبنشاز داخل لغة صافية، تبعاً لمعجم فوّار باحتكاكه مع حقول فنية أخرى يتقاطع فيها ويتداخل الموشّح و الفلكلور والعيطة وغيرها، وتتلاقح ثقافات المكوّن الهوياتي الوطني: الحسّاني والأمازيغي والملحون.

باعتبار الفعل الزجلي ضمن حدودها ينطلق من واقعية مهيمنة الملامح وحيية التمرد وتتلمظ معسول هلاميتها من المراوحة بين القطيعة مع الضاغط باتجاه استنساخ هيأة شفهية مثقلة بالحمولات الوجدانية والوجودية المتقادمة، والتوليدات الذهنية الاستشرافية المتسربلة بنزعة الفلسفة الآنية.

تلكم معاناة الاسترسال في امتصاص صدمة زخم من تأويلات التيار المضاد أو النقيض لما يحصر ويحشر صراع الألسن في خندق خذلان لغة الضاد والاصطفاف مع المهجن أو الدخيل مع الكثير من تغافل حتمية التنوع والتكامل وضرورة المواكبة.

إنها حمية ومطبّ اجتراح معيارية ليست تراعي سوى الهذيانات الأنوية داخل جغرافية هامسة لا رابع لأبعادها/قلم وبياض وعزلة، شأن المنطبق على مناخات صاحبنا هذا و المترنم بشعرية انطلقت من قلب المنازعات الإيديولوجية أنذاك في السبعينات، آخذاً تسارعها بالتضوّع، لتُكلَّل وحتى يومنا هذا بباقة من إضمامات لشافية ووافية وباسقة بنبضها الطرفاوي وموغلة في خلخلة السائد والشاذ.

من عناوينه في جودها العفوي، وتبرّعها لعطشى متون الكلام، بغلّة جمالية مضاعفة نقرأ الطقوس الآتية:

ها صدري أرا ما تْحفرو وتْشقُّو

ما تلْقاو ف قلبي غير شعبي

مْعنْقو

وْغير نور الحرية اللي تْعشْقو

… ولْمحْبوس فدْواخلْنا

ليه، ملْزوم نْعتْقو

وظلام اليأس، بأملنا ليه، نطوْقو

لكلّ طويّر ف لقفص

خصْنا نطلْقو…

يمكن أنا حلمة

حلم بها شي حد… وطاحت فـ«الما»

يمكن شي حاجة

تخيّلها شي حد،

يمكن ظل سحابة

يمكن مويْهَة وتبخرت

يمكن متبوع ـ هربان

وتخبِّبتْ فكانش الإحصاء.

تغْضب المْرايَة

يهِيج ماها

تفيضْ

وهو يتّردم

وتّقْلبْ الدواية عليه،

يتّطمس

يتخلخل

يتْخاصمْ مع خيالو

يذبال

جذورو يْتلفو عليه،

أو يولّي جرْبة طالية لمعاني

ما حمْلاه… عايْفاه

بالنار تسوس فيه.

يا السّاكنِّي بلا هوايَ

اكْشف مظْنوني

وطْفِ لكيّة،

لا تخلّ الذات خربة

كلذ ذات عامرة

فيها نشْبة وبليّة.

يا السّايْل: هاد الضْباب، حتّى لاين؟

عل الضّحك، لاش قل

والهمْ علْ لوجوه باين:

نْواجْبك:

التّخْمام ف لقلوب، احتل،

الخير كثير، وشيماكاين

شي يْديرها، وشي يوْحل،

واحد قضى الغرض، خفّ من تيتسويت

لاخُرْ شكى، قالو ليه، اوْقَفْ تْساين

هذا سابقك

واخّا جا مْعطّل.

ما فيها باس تعْصَاي مولاك

مرّة مرّة

تْزوْلي الحجاب

وتْخرجي قْصيدة عرْيانة.

حطّتْ على قبري وردة

ظلها مشا حشْمان ـ غريب بين الطيور

خبّات صوتها بين اصباعي ـ أمانة في دموعي

جابت لي غيمة

قْراتْ لي قْصَايد ما مرقْعاش.

بسْمتها رجْمت سهوتي

لعلّ نهْجر قبْري

لعلّ نسكر

نتْشتّت خيوط

بيَ تْكفّن حْماقتي.

وعموما يمكننا الجزم أن نزراً قليلاً فقط، من التجارب الزجلية داخل حدود الوطن وحتّى خارجها من حيث نيله حظاً لا بأس به من الترجمة إلى الفرنسية والاسبانية بالخصوص، كما هو الحاصل مع أحمد لمسيح الذي لاقى منجزه استحساناً فاق التوقّعات، واستعذبته الذائقة الشعبية على أثمّ وجه في الأوساط الأكاديمية والمثقفة ولدى العامة، نظرا لغوصه في خلفية «كناوية» تثري المعجم وتسعف في استدعاءات الصور الشعرية المستفزّة للتعاطف الإنساني مع ظواهر كبرى وإشكاليات عالمية أكثر تعقيداً، من قبيل عبودية واضطهاد سلالات السّود، تبعاً لعددٍ من روايات التاريخ بهذا الشأن.

إنّ هذا الخطاب في نهله الجشِع من طقوسيات وغيببات لها رمزيتها ودلالاتها الغائرة في الجرح الإنساني، من حيث تكرّر مثالب فتّاكة كالعنصرية والمفاضلات المحتكمة إلى الأعراق واللون والملل، من حيث معاودتها الظهور في مجتمعات تتشدّق بالقيم والحضارة والديمقراطية وانتماءها إلى شجرة الإنسانية إجمالاً، بما فيه الكثير من التّجني على وجودنا وتاريخيتنا وسائر ما يمكن للرأس المال البشري بناءه وصناعته باعتماد هوية إنسانية مشتركة محرّضة على التآخي والتعايش والسّلم.

نصّانية تطّرد وتسري أنأى ما يكون، في أدغال الذاكرة، تلامس شغاف حالات استسلامنا لمحطّات الرّوح وما تنطوي عليه من أسرار وكنوز مغرية بفضّ الأقنعة عنها، ومضاجعتها بأنجع أدوات الاستكشاف.

كذلك هي شعرية زجليات أحمد لمسيح في مخملية اصطدام الذائقة بكنوزها، تمتاح من سلطتها على الذاكرة، وطاقتها الهائلة فيما يلتحم بإيقاع مسْرحة التعاطي مع الرّموز والموروث.

كأن تنزع إلى المعالجات التي تتيح لترعرع ونضج الهاجس الأنوي، ما بين الأزمنة والمسافات.

تُقولب على سبيل المثال لا الحصر، طقس «لْحضرة» أو «لْجذبة»، وتحاصره برؤى مغرقة في حداثة الوعي، لا لتنبّهنا إلى ثمرات رفع العُطْل عن مخزون ما، من زاوية إبداعية منتصفة لمنظومة ما يحول دون الهجر والقطيعة بالتمام والكمال مع تراثنا الأدبي، وإنّما أيضا لتلهمنا معنى الولادات الثانية لنثار الذاكرة، ضمن دورة حلزونية سرمدية تناسل دوال الانفتاح على التراث الإنساني ضرورة لا ترفاً، والتزاما بما يغذي أنساق جدلية في انكبابها على استنطاق الهوة المضروبة بين المبدع وأناه، بغية فهم حقيقي للذات أولاً والتصالح معها، قبل أن يشمل كذلك مكسب، الغيرية والعالم.

شاعر وناقد مغربيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى