شعريّة الحديث اليوميّ

علي جعفر العلاق

يعلن كلامنا اليوميّ عن شعريته في غفلةٍ منّا أحياناً. هكذا ومن دون أن ندري. ولا أعني بذلك شعرية اللغة اليومية داخل النصوص، بل شعرية الكلام العادي حين يتجلّى في محيط حركتنا اليومية. قد نكون في جلسةٍ ما، غارقين في ركامٍ من الكلام الذي يشبه بعضه، والذي لا نجد له تعريفاً، أو الكلام الذي قد نعجز عن تأكيد انتمائه إلى نمطٍ بذاته من أنماط القول. وفجأة ننتبه إلى ما كنّا غافلين عنه. إنها دفقةٌ من الكلام الممتع، الطافر من سياقه، تستولي علينا تماماً.

وحين نستيقظ من ذلك الغياب المؤقت الجميل نعاود تجميعَ ما ضاع من وعينا لأنفسنا. والعودة مرة أخرى إلى ذواتنا وقد عادت إلينا من سفرها المفاجئ. ونتساءل: ما الذي حدث؟ جملةٌ يتيمةٌ، تفر من بين ذلك الركام لتؤكد تفرّدَها، أو نفورَها، هكذا مثل حمامةٍ عزلاءَ، تندسُّ بين النسيم وحفيف الشجر. لتشكل نغمةً ما، أو إيقاعاً دائخاً يمنع رتابةَ الجلسة أو سكونَها.

قد نرى أو نصغي، رغماً عنا، إلى جلسةٍ مجاورة، يستمر المتحدثون فيها في تكرار ما يقولون. وقد يستمر هذا التكرار حتى يُجْهِزَ على تلك الجلسة، وتصبحَ أحاديث الجلساء مثل النكات الميّتة لا تبعث ضحكة من القلب، ولا مرحاً حقيقياً. يستمرون في تكرار أنفسهم بدون أن يفطن أحدٌ منهم إلى أن وقود الكلام لم يعد صالحاً لإثارة شهية النار، أو إيقاظ حنينها إلى اللهب الحميم الصافي.

ثمة جلسة تعلو فيها أصوات المتحدثين مثل صراخ الباعة في الأسواق الشعبية. فهي نصّ لا تجانس فيه، أو لوحة نهشتها مخالب متسخة. أصوات حادة جارحة لا ماء فيها ولا شجن، حتى أن الصوت الهامس الخفيض يجد نفسه غريباً وربما فائضاً عن الحاجة. ثمة جلسةٌ أخرى على مقربةٍ من قلبك. في مقهىً ما، في قطارٍ يسيل في سهولٍ نسجتها الطبيعة بأصابع ثملة، أو ربما على رصيفٍ هيّأهُ لك الغيمُ ذات صباحٍ يصعب تكراره. وبغض النظر عن مكان الجلسة أو زمانها، فإن نسيانَها أمرٌ تعجز عنه الذاكرة تماما. فهي توقظك من استسلامك للعاديّ والمألوف من الكلام، الذي يفر من الذاكرة كالدخان، خفيفاً ومفتقراً إلى المعنى الجميل. قد تكمن شعريةُ جلسةٍ كهذه في تموّجات أحاديثها، وفي تداخلاتها الرهيفة المحبَّبة بدون استئثارٍ بدورٍ ما، دور المصغي أو دور المتحدث. فطول الإصغاء، في الغالب، دلالةٌ على شراهة المتحدث، أو على جهله بفضيلة الإصغاء التي هي من ذهبِ الكلام لا فضّته. عناصر القصيدة هنا مزهوّةٌ، كلها، بدورها الذي تؤديه بكفاءةٍ وشاعريةٍ نقيتين وخاليتين من الزيادات وفضول القول.

لأنّ الترهّل في مقطعٍ من مقاطع القصيدة، أعني في الشكل الشفاهيّ للجلسة، قد يؤدي إلى ميلانها حتى تغرق في ركام من القول لا لمعة فيه. وإذا كان متحدث ما يرفع من مستوى الجلسة ويرتقي بمنسوب الجمال فيها باختصاراته الفيّاضة بالفطنة، ولغته الحسية المفعمة بالوجد، أو مرحه الذكيّ المشوب بالألم، أو من خلال انتقالاته الدالة، التي تجدّدُ بهجةَ الحديثِ وتُطَوِّرُه. فإن متحدثاً آخر، بتظارفه الثقيل أو إيقاعه الخامل، لا يذكّرك إلاّ بمشهدٍ مسرحيّ رتيبٍ وبالغ الركاكة.

قد يضيء الجلسة حديث عن قصيدة، أو أغنية، أو فيلم، أو كتاب، وقد تجرحه نميمة عن صديق يحتل طاولة مجاورة، وإذا كان لكل متحدثٍ طريقتُه الدالة في الحديث، فإن له طريقته الأكثر دلالة في الإصغاء وفي الجلوس أيضاً. وهكذا، يمكننا النظر إلى الجلسة الاجتماعية باعتبارها نصّاً شفاهياً، قد يكون الجسد فيها سيد المعنى، مع أن اللغة حاضرة فيها بقوة. وفي كلتا الحالتين، ثمة من ينغمر في الحديث بجسده كله، وثمة من يصغي بتحضّرٍ ولباقة. ومع ذلك هناك من يحدق بهاتفه المحمول بين جملة وأخرى، وهناك، بين هؤلاء جميعاً، من يصغي إلى داخله المكتظّ بالدمع أو الشظايا.

شاعر وكاتب من العراق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى