عتيق رحيمي يسحن نون النسوة بـ«حجر الصبر»!
محمد رستم
يذهب عتيق رحيمي من خلال معنونه الجديد «حجر الصبر» الذي استحوذ بجدارة جائزة «غونكور» الفرنسية، إلى الإيهام الرمزي منذ المعنون الأعلى للمروية «حجر الصبر». والحجر هنا مادة جامدة، بينما يحيلنا الصبر إلى مدلول معنوي حسّي، وبهذا التضايف الإخباري الذي يشير إلى مبتدأ أودع طي الكتمان والتقدير «هو». فالبوصلة هنا تشير إلى الرجل، والمعنون كدالّ إخباري تمّ الارتكاز إليه كمنظومة إشارية لعتبة المرويّة وذلك ليشي بالمحاور الدلالية التالية:
محور إيماني يتكئ على سيطرة خرافة الهلام الديني والتسليم فقط للموروث الديني «الزوج» هنا مثال. بينما تبرز ضحالة تأثير هذا الموروث لدى الكثيرين حيث يكتفون بالطقوس الظاهرية ويمارسون عكس ذلك، والخرافات التي تعشّش في هذه الذهنية «تلبس الشيطان ومسّه… الثلاثاء يوم دام».
ومحور اجتماعي نفسيّ يصوّر أحادية تسلّط الذكر في المجتمع الذكوري وما ينجم عنه من تهميش للأنثى وتحويلها إلى متاع. مجرد شيء تشييئها وتحميلها الوزر منذ حكاية التفاحة، ما يسبّب لها الاضطراب والعقد النفسيّة، المرأة هنا مثال، وكذلك الولد عندما حوّل إلى ما يشبه المرأة، فتشوه نفسيّاً صار يتأتئ.
وهناك محور علماني، يؤكّد أنّ الجسد هو الحقيقة الموضوعية والروح مجرد وهم، ولعلّ هذه إحدى أهمّ مقولات المرويّة من الجسد وبالجسد. والرجل في الرواية نموذج، هو جسد لا غير، «جثة حيّة» وعبارة «حجر الصبر»، هي إشارة إلى حالة من تعظيم الرجل، وذلك تشبيها له بالحجر الأسود. ولا ننكر أننا منذ شهقة أول حرف في المرويّة وقعنا تحت سطوة الإغواء وعلى مفارق أحداثها تلبسنا مس الحكاية.
شخصيات المرويّة وإن كانت تأتزر بالدين المرأة التي صارت السُّبَّحة موقّتاً لها، وتردّد أسماء الله الحسنى، لكنها تمارس البغاء، المسلّحون الذين يتظاهرون بالتديّن، ويسرقون الخاتم والساعة والقرآن، أخوة الزوج يتلصّصون على زوجة أخيهم وهي تستحم، ويتمنون مضاجعتها، عمّتها التي يغتصبها حموها، ولا يفوتهم جميعاً وقت صلاة.
فالدين لديهم مجرّد قناع، وكأن الدين والعبادة شيء، والانحراف في الحياة شيء آخر، فالدين هنا من وجهة نظر الكاتب لا يمنع فساد الأخلاق، البطل يسكر ويجاهد في سبيل الله. والمرويّة ترى في النهاية أنّ الدين ليس أكثر من كشف، هو آخر مفرزات الحياة وما استنبطه العقل كجسر لعبور اللحظة، «الدين هو كشف… حقيقة حكايتنا هي دين أيضاً، نعم الجسد هو كشفنا»، والجسد هو الأهم لدى المرأة، «جسدك هو الذي يقاضيك يقاضي روحك، هذا ما أوصلتك إليه روحك، جثة حيّة»، «روحه هنا تعني أفكاره وما يؤمن به»، وهي تدعو إلى سماع صوت الجسد وليس الروح «الصوت الكامن منذ آلاف السنين». ونلحظ الشكّ بالدين يظهر في خطاب المرأة لربها بلهجة العاتب والغاضب بل والمشكك لأنّه لم شفّ زوجها «برهن لنا أنّك موجود».
المحور الاجتماعي النفسيّ، وأوّل ما يبرز هنا هو ذمّ للحرب والسلاح فبلادهم تناهشتها أنياب حرب الأخوة العبثيّة، «البطل أصيب في شجار مع آخر من معسكره»، وهناك أكثر من عبارة تذمّ الحرب والمتحاربين، «لا ينبغي أبداً الاعتماد على من عرف لذّة السلاح».
ولأنّ الحرب بذاتها ليست إنسانيّة فإنّها تنجب المشوهين إنسانياً والوحوش البشرية، «أولئك الذين قطعوا رؤوس العائلة المجاورة». فأشخاص الرواية هم أبناء الحرب «البندقيّة أمّك» والحرب تحيل الإنسان إلى مجرّد جثة، وأحياناً طعاماً للكلاب، «الكلاب تعوي وما من جثث هذا المساء»، وبسبب ضغط العادات الاجتماعيّة وكي لا تصبح زوجة ثانية اضطرت المرأة لممارسة الزنا، كي تنّجب مع أنّ العقيم هو زوجها فكان الزنا مفاز خلاصها… وغدت تأكل من عرق جسدها، إذ لا معيل وليس لها إلّا أنّ تكرز الآه بمعمودية الدمع، تعاني ألماً غير قابل للصدأ.
واستخدم الكاتب كلمة «رجل وامرأة» بدل «زوج وزوجة» لينفي صفة العلاقة الزوجية التكاملية بينهما، وهما يقيمان في بيت عوارض السقف فيه متعفّنة والسقف هنا سقف العلاقة الأسريّة، والقيم الباليّة التي تحكمهما، وتعرّي الرواية المجتمع الذكوري الذي يختزل المرأة في عضوها التناسلي، فتغدو مجرد متاع يستعملها الرجل متى شاء لإطفاء شهوته، وهنا يدقّ الكاتب أوتاد خيمته في صحراء العلاقة بين الرجل والمرأة التي تدحرجها أقدام الريح في حياة تفتقر إلى ألف باء التفاهم والتناغم والانسجام والتكامل، فتفتقر المرأة إلى الجذور التي تربطها بالحياة وتغدو حافية تعمل باللحم الحي من دون سند.
لذا فقد جعل الكاتب حياتها على وقع أنفاس رجلها، فأنّى لها أن تسند قلبها بثمر الدفء الإنساني القائم على الاحترام المتبادل في مجتمع تكتظ سماؤه بغيوم خرافات الموروث الديني التي تعنكبت على مفارق الذهنية الهشّة. وبذا يسجل الكاتب هدفه الذهبي في مرمى هذه الذهنية المتخلّفة بعد أن سدّد ضرباته من زوايا متعددة، ولعلّ تكرار «القطرة وضبط السيروم» يؤكّد على روتين الحياة ومشهد العنكبوت والذبابة يشي بمساواة هذه الكائنات البشرية بالحشرات التي لا قيمة لها وخطاب هذه المرأة «التي تستحم بالقهر» لزوجها، هو نوع من الثأر منه فهي ترى فيه وحشاً، وحين تخثر حقد غضبها فدغدغ رغبتها بالانتقام كي تغسل عن روحها تبقّع الطاعون الأسود تخبره بأنّها، خانته، «فالطفلتان ليستا منه لأنّه عقيم» وهي تطالبه بأن يحترم أفكارها وأسرارها.
والأنثى مقموعة من الأب والأخ والزوج أختها 12 سنة، ذهبت إلى زوج كهل بسبب خسارة الوالد في الرهان، حتى أنّ غياب البنتين الدائم عن لوحة الحدث يشي بانسداد آفاق المستقبل في مجتمع يعلّق الرجل فيه مشاكله على مشجب المرأة، بأعذار واهية لا ظلال لها.
لذا بدأت المرأة تمارس وجودها في حالة غياب السلطة الذكورية، لقد حانت فرصتها لكي تردم مستنقع القهر الذي تخوض فيه، لقد حكمت ثنائية المرأة والقهر الفضاء الإبداعي للمرويّة وغدت الأبعاد السيكولوجية للمرأة نافرة إذ تعاني من كتل هائلة من الانزياح القهري فهي محرومة حتى من اللّذة الجنسية، أنتم الرجال تتلذذون ونحن النساء نسر بتلذذكم، لذا تبقى في عطش دائم، «كنت أشعر بأنّي فارغة»، وتؤّكد الطيور المهاجرة على الستارة أن ليس لهذه الكائنات من جذور في الحياة.
لقد حقّق الكاتب التساوق بين بنية النصّ الداخلية والمرجعيّة الاجتماعية الثقافية ووضع مبضع التشخيص فوق آه الوجع ضمن سيرورة تطور الحدث الدرامي تبدأ المواجهة بين المرأة ورجلها مع بداية المرويّة، لكنّها تأتي على خلفيّات تراكمية من سوء العلاقة بينهما، كنوع من الاسترجاع أو الخطف خلفاً، لقد ولج الكاتب ذائقتنا القرائية من باب التعاطف وهدفه الترميزي، لفت النظر إلى وضع المرأة المزري، ممّا جعلها تشعر بالعدمية والتلاشي وهي تجرجر خيباتها.
والمرويّة تقوم بمسح تاريخي وتراثي واجتماعي ونفسيّ وعاطفي لشخصية المرأة التي جاءت بطولتها انسحابية، فتثأر لنفسها في الوقت الضائع ولحظة انتهاء زمن المرويّة، ولاهثاً مضى سياقها السرديّ بين لوحة وأخرى متسارعاً صوب القفلة التي جاءت مفبركة مصطنعة نافرة عن السياق العام ولم تفلح تأرجحات مشاعر المرأة بين الحبّ والكراهية والإشفاق والحقد نحو رجلها ولا الحالة النفسيّة الهستيرية الجنونية التي تلبّستهاـ كما تزعم ـ أن تقنعنا بملائمة النهاية، لسير الأحداث.
هذا وقد أجاد الكاتب في دقّة التصوير وكأنّه يحمل كاميرا «ص 10» وكان الراوي يطلّ من خارج المشهد وكأنّه معلّق رياضي أو مراسل حربي.
أخيراً، أقول هي رواية إشكالية تضرب في سهوب التأويل.
كاتب سوري