هنا العقل الشرقي
نسرين بلوط
لوحةٌ في إطارٍ مذهَّب استرعت نظري لمحتها يوماً في معرضٍ من معارض الرسم… منحتها شخصيّاً لقب «هنا الشرق».. تضمُّ رجالاً ونساءً في «برستيج» منغلق على ذاته بمثابة الرئة البلورية للتباهي، منهم مَن يغلو في التبجّح ومنهم مَن يعلو على الجميع وهو يكظم غيظه من إثارات تبالغ في التمهل لطريقها إليه، يتفاهم مع الآخرين بالهمس والجمجمة ويرنو للحديث المرتجل بعين الصابر على ما هو عليه.
واسمحوا لي بأن أقول بأني وضعت «السيناريو» وعلّقتُ ستائر المسرح لعرض تلك اللوحة بشكل مسرحي بحت، يتوافق مع حياة الشرق من «فئة» الذين يتزاحمون بالمناكب على عرض مآثرهم وحسناتهم الفائضة في نظرهم . وفي احتكامٍ مرتعش للتقاليد تتخبّطُ المفاهيم في دائرةٍ فولكلوريّةٍ موروثة، يتقدّمُ الرجال مبارزة في الكلام ليحتكر كل منهم منبر الكلام ويتباهى بعلاقاته المثيرة و»الكثيرة»….
منهم مَن يُصرّ على التعتيم على مواصفات معشوقته أو صديقته، ومنهم من يسترسل ممعناً في وصفها مشدّداً على كلمة «رشيقة»، لأنها تختزل مفاهيم الجمال بنظرهم جميعاً، وتجذف في مركب الزهو الذكوري الحاكم.. وأول ما يتبادر إلى أذهانهم عند الحديث عن المرأة أو معها هو «الجنس»، كهاجس الكبت الذي يدّخره الكثيرون منذ شبابهم، في مجتمعٍ متحفّظ يدسّها ضمن دائرة المحرّمات دينيّاً فقط، وليس موضوعياً، أي لا يذكر من الخطيئة إلا ظلامها الحالك ولا يتلطف بذكر التوبة التي تطهّرها، بسبب تقلّص المحيط الدائري للحرية المباحة، فيؤدي هذا إلى زرع هاجس النشوة في ذاكرتهم الباطنية. وطبعاً السيجار ضروري في تلك اللوحة المعبّرة، ليتحف بنفائث سحابه الفضاءَ برائحة الترف والاختيال المدويّ لعاصفة لفت النظر، ولجذب السيدات خاصة بشكلٍ ميلوكوميدي مثير.
في مكان آخر من اللوحة تجتمع سيدات مسرفات في التبرج.. منهن مَن تحنّطت كصنمٍ إغريقي مازوشي يهوى تعذيب نفسه بوقفته المتسمِّرة تحت لظى لفحات الشمس الحانقة… لتستعرض طلاء أظافرها، وتبرز الغالي والنفيس من أزيائها… ومنهنّ مَن تراخت أهدابها في انسدالٍ مغرٍ جاذب المعنى، للدلالة على أنوثتها، وارتفقت ساعد المقعد تحتبس أنفاسها، باحثة عن كوّة تنفذ منها مطالبها للنور… فقد عقدت العزم على اجتذاب مشاعر النساء الأخريات طمعاً في ارتقاء ناصية الإعجاب المتفرد.. بحثتُ عن الكتاب مليّاً في تلك اللوحة فلم أجد له أثراً.. دقّقت وتمعّنت كثيراً.. وكأنَّ الرسام أراد أن يفهمنا بأن المترفين لا يحسنون اقتناء الكتب بل التحف الغالية النفيسة، والأثاث المترف، والقلوب المتحجّرة.
في الركن القصي للوحة، يقف بعض من الخدم من الذين يمثلون عامة الشعب، وفي عيونهم سكينة حالمة ورهبة مجفلة، وكأنهم يلوذون من أنفسهم بتلك النظرة الكسيرة الموجعة. يقف بينهم رجلٌ مشرئب العنق يسترق النظر من النافذة إلى مشاهد تمتد للأفق من الجبال والتلال، ويبدو من منظره أنه شاعرٌ أو فيلسوف، رأى أن يودع أحزانه في صمت المدى المتجاذب الأطراف.. ففهمت بأنّ الرسام أراد بأن يظهر هذا الشاعر كرمزٍ للثورة التي لم تأتِ بعد.
طبعاً هذه اللوحة لا تمثل الشرق بأسره، فبين الأغنياء والفقراء دائماً يوجد أناسٌ يستحقون الاحترام، ويمتازون بحسن التقدير وصواب الضمير. فلا يجب أن ننقاد لفئة أخذت من الشرق أسوأ ظلاله المبهمة، وعكست أحلك ساجيات ليله، ولكنّنا نعالج الأمراض النفسية التي تنطوي عليها الذين وجدتهم في لوحة الرسام المجهول الهوية في ذاكرتي بسبب النسيان، ويمثلون شخوص الكثير من مجتمعنا الشرقي الباهت المعالم ببصيرته التي لا تتطفل للتبصّر، كما يفعل الغرب.
تبادرت إلى ذهني لوحة أخرى، لم ألمحها في معرض أو متحف مخصص للرسم، ولكني عايشتها وتعايشت معها، في كندا، وأميركا، عندما وقع بصري في القطار على سيدات ورجال يحملون كتبهم ويجلسون بشكلٍ مستقيم على مقاعدهم، يطلقون العنان لخيالهم الخصب لمعايشة أحداث الرواية، للوصول إلى باطن التجانس بين العين والفكر، ثيابهم بسيطة، منهم مَن يقرأ ومنهم مَن يدرس ومنهم مَن يشرد بنظره بروح فلسفية نحو البعيد حيث اللاشيء.. وقد جلس عاشقان على مقعد جانبي ليتأملا معاً عبر النافذة الثلج المنهمر البارد يدفئانه بإحساسهما الفائض بالحب.
المظاهر هناك لا تعني شيئاً، والغني لا تميّزه عن الفقير، فهو لا يقوم باستعراض أمواله وما أنعم عليه الله من نعم، الودُّ سائد ولو ظاهريّاً، حتى تسير الحياة العملية على وجهٍ من الاستقرار والموازنة. ورغم الحرية الزائدة التي لا أقرّ بها شخصيّاً والسائدة هناك، إلا أنّ الرجل الغربي لا يزدهي بمصاحبة هذه المرأة أو تلك، ولا يتباهى بمغامراته النسائية الشيّقة، فالحياة شديدة العقم بالنسبة لهم إن فكّروا في تلك الأمور الزائلة السريعة.. والحبّ يتّخذ أشكال التقديس لديهم.. فلا المرأة «الرشيقة» الضامرة الخصر تشكّل لهم هاجس الأنوثة، ولا «المكتنزة» تدعوهم لهجرها كما يحصل في بعض الحالات في شرقنا العزيز. وما يعنيهم هو روحها التي تعكس ظلال أهدافهم الروحية وتقرع نواقيس حياتهم معها. لأنّ جمال الجسد يُمسي هشيماً من النيران المتوقدة شرّاً إنْ فاضت الروح بشرّها وغلّها فتمحو كلّ معالم الحسن وتحلّ مكانها لعنة القبح الروحي.. والليل البهيم فيها إذا سجى ولّى بكلّ تقاطيع فياضة بالبهاء.. ولكن معظم رجالنا الشرقيين مهووسون بالوزن والطول والشكل والحجم.
بين شرقنا والغرب تقاطيع من الأفكار البالية التي لم نستطع أن ننفض غبارها، فالمنوال الذي نحيك عليه أفكارنا أكله الصدأ ولم يتغيّر، والخيط الذي نستخدمه للحياكة واهٍ ينضح بعبق عاداتٍ قديمة ومعتقدات خاطئة، والحائك الذي نسلمه زمام أمرنا هو المجتمع المهمِّش لنا والذي يصطفي الغني بمظاهره، ويتجاهل الفقير مهما دحرج بثقافته الحجر عن رحى الظلام وبرهن عن معرفته.. ما همّنا نحن وماذا يعود علينا بالنفع ذلك السيجار المتوهج والمرأة الفاتنة والسحر المعتق بعطرها النفيس؟..
لماذا لا نبرز العادات الجميلة من تراثنا، والفكر النيّر الذي سبقنا إليه عظماؤنا، والكتب التي لا تُحصى بكنوز والتي تكدّست كالدرر منذ أيام الجاهلية في مكتبتنا العربية الحافلة، وندرك بأنّ جذوة الإيمان ليست في الكبت ولا في التفاخر، بل في إيماننا بأنفسنا أوّلاً، وتقديس إرادتنا، فالشحارير المغرّدة تشدو بحلمها وليس بالبساتين التي تطوف فوقها، فتخضلّ الروح قبل الأرض، ولا نُجرح أو نَجرح أحداً؟
هنا العقل الشرقي العنيد المتشبّث بأدرانه، يتزيّد بحسناته ويرفض أن يقرّ بسيّئاته.. ويجعل على باب تاريخه أقفالاً من العناد الغريب..
قال الأديب محمد الماغوط: «يبدو أنّ تحرير العقل العربي أصعب من تحرير فلسطين».. فألا توافقه الرأي؟
روائية وشاعرة