«أحضان مالحة» للكاتبة ريمة راعي… إطلاقٌ للنفس والروح

رنا صادق

«أنا هويته وانتهيت… وليه بقى لوم العذول، يحبّ إنّي أقول يا ريت الحبّ ده عنّي يزول».

بكلمات أغنية مصرية شاءت الكاتبة والإعلامية السورية ريمة راعي أن تبدأ روايتها العاطفية، التي تسرد قصة «سوار»، الفتاة الدمشقية التي تعشق الموضة وتصميم الأزياء.

البداية في رواية «أحضان مالحة» للكاتبة ريمة راعي الصادرة عن «دار ومكتبة بيسان»، هي كلمات أغنية على الراديو في الباص حيث كانت «سوار» البطلة مغادرة فرع الأمن بعد استجواب مرهق للأعصاب. «سوار» الشابة الحالمة، التي تختطف أنفسها ما بين حين وآخر، تبعثر مشاعرها من كلّ زواية ومَيل، حتى تصل إلى راحتها الأبدية في الحضن الذي تحلم أن تكون فيه وفي البيت الدافئ.

هناك، في الباص تتجّه أنظار «سوار» إلى الجبال العارية والأودية السحيقة، وخلال تأمّلها الطبيعة، وبين شال الرجل الذي كان يلفّ عنقها إلى ذكريات وذكريات ما بينها وبين صديقها «ميرابو» والشلّة.

عشرينيّة تائهة… وأخريات

هي المهووسة بالروائح، كانت رائحته على رقبتها تأخذها تارةً إلى الحبّ والحنين وتارةً ترجعها إلى الألم والوجع، وما بين ذلك حافة الهاوية لا ترضى الرحيل. أشعل الشال لهيب الذاكرة في أعماق عقلها، سبحت معه حتى الغرق آخذةً معها القارئ إلى ماضٍ ليس ببعيد، لكنّه ماضٍ تعذّر أن يتكرّر في حياة «سوار» البطلة.

بطلة الرواية «سوار» فتاة عشرينية، تبحث عن البيت، لا بمفهومه المجرد كمكان له جدران وسقف، بل الآخر القادر على منحها جذوراً تمتد في مكان ما، وتجعلها تترك خلفها كوابيس الفقدان واليتم التي خلّفها موت أبيها الافتراضي وعودته التراجيدية إلى حياتها ليموت مرة أخرى تاركاً إياها يتيمة مرّتين. «سوار» تملك أكثر من غصّة أبيها في حياتها، إذ إن أمها تكون بدورها ضربة مخلب في قلبها، تتناوب مشاعرها تجاهها ما بين الألم كونها لم ترتدِ يوماً عباءة الأمّهات الطيّبات، ولم تنتظر طفلتها خلف النافذة كما يفعلن، وما بين الحسد تجاه تلك المرأة الجميلة المزواج العصيّة على العمر والعصيّة على اليأس. وبين تلك الغصّات تتوه «سوار» في بحثها عن البيت المشتهى، وتخلط بين بحثها الدائم عن الأب وبين الحبّ، وتعجز عن رؤية الحبّ الذي كان يحتضنها طوال الوقت، وتختار حضناً لم يمنحها إلّا الملح.

أما «جفرا» الطبيبة العلمانية المثقفة التي أنهت دراستها في الخارج وعادت إلى دمشق تاركة وراءها ظلال قصص الحبّ والجموح التي عاشتها من دون تروٍّ، فتصبح عودتها إلى جذورها جحيماً أرضياً خالصاً، يعاقبها على كلّ جنّة سبق ودخلتها وكلّ ناموس تجرّأت عليه وخرقته.

وهناك أيضاً «جليلة» الأربعينية الغاوية التي تفتن الرجال بجمالها وأنوثتها الوحشية التي عجزت الأيام عن قصّ مخالبها.

اتجاه الرواية التسلسليّ

خلال تصفّح الرواية، يتلمّس القارئ مزيج الحبّ والصداقة ما بين «سوار» و«ميرايو» ذلك الرسام والفنان التشكيلي، المعروف بكثرة علاقاته مع النساء التي لا تعدّ. أمّا «سوار» فكان عالمها يقوم على أقمشتها الملوّنة وإبَرها وخيطانها، عالم الأزياء…

وفي مشهد يجمع الصديقين، تبرز حالة عشق مخبّأة خائفة الظهور لأسباب يتعذّر على القارئ معرفتها في بداية الرواية ويبرز حبّ «ميرابو» لـ«سوار» حين تقول له: «ما الذي يمنعك من رسمي كاملة؟» أجابها وهو يبتسم: «لا أريد تحويلك إلى لوحة كما فعلت مع نسائي كلّهن، هي حماقة لا أنوي تكرارها معك، أنت حالة لا تشبه شيئاً ممّا عبر ومضى».

وفي الصفحات اللاحقة، يأتي المشهد على الشكل التالي: «يومها ابتسمت سوار ومدّت يدها لتعبث بشعر ميرابو، واكتشفت فيه طفلاً صغيراً لم تره قبلاً حين أغمض عينيه وهو يبتسم». ثم ينضمّ إلى حياة «سوار»، «غسان»، رفيق «ميرابو» الذي يبلغ عمره ضعفَي عمرها، كي تنشأ بينهما علاقة حبّ، بين الوجع والألم والانكسارات.

وفي الصفحات الأخيرة من الرواية لقاء ما بين «ميرابو» و«سوار»، وأثناء المشهد: «ميرابو، لطالما أوجعه الجفاف في عينَيّ سوار، الشبيهتين ببُحيرتين جفّ ماؤهما، شعر بالهلع حين رآهما تفيضان وتغرقان يديه اللتين كانتا تحيطان بوجهها».

«سوار» لم تعرف حنان الأب لأنه توفّي قبل أن تستشفّ منه خلاصات الحياة، ولم تعِ دفء والدتها تلك الأمّ القاسية التي لم تهتم يوماً سوى بنفسها، بقلبها القاسي الأعمى.

رأي الكاتبة

لم تتقصّد الكاتبة ريمة راعي طريقة الخطف خلفاً في تسلسل الأحداث، الفكرة جاءت هكذا، امرأة في الحافلة، تستعيد ماضيها، ويمكنها أن تنبش في ذاكرتها عن حكايات عدّة لها ولأشخاص عبروا في حياتها.

وخلال حديث إلى «البناء»، أشارت الكاتبة ريمة راعي إلى أن روايتها منبثقة إلى حدٍّ ما من قصة حبّ، وتقول: لا تتصوّر أن ثمة رواية متخيّلة بالمطلق، وفي الوقت ذاته تعتقد أن اختيار شخص ما كما هو في الواقع ووضعه في سياق رواية، لا يصنع رواية جيدة. فأبطال الروايات هم دائماً أكثر بريقاً وحساسية وتأثيراً مما يبدون في الواقع، وبالتالي أبطال رواية «أحضان مالحة» قد يكونون موجودين في الحياة فعلاً، لكنهم اكتملوا وباتت لهم ظلال تتّسع لحكايات أكثر بكثير ممّا هو متاح لهم في الحياة العادية، والرتيبة وقليلة الاحتمالات.

وتقول: قد أكون قد انتقيت شخصيات عدّة عبرت في حياتي وجمعتها في إحدى الشخصيات.

وفي نهاية المطاف، نترك حرّية التجول في صفحات الرواية علّ القرّاء يجدون في فصلها الأخير شيئاً من النصح.

أمّا عن سؤالها عن سبب العنونة، أجابت: العنوان هو خلاصة ما آلت إليه محاولات الحياة التي سعى إليها أبطال الرواية، الذين يمثل كلّ منهم الإنسان بهشاشة أحلامه وتناقضاته وبحثه الدائم عن الآخر الذي يجسّد الوعد بالخلاص من الوحدة ومرآة تعكس الحياة بكل ما فيها من جمال واحتمالات، وإن كان كل منهم قد حظي بحكاية، إلّا أنّها لم تشبه الحكاية التي كان يحيك بداياتها، وبينما كانوا يتوقون إلى احتواء يعيدهم إلى ذاكرة الرحم الأولى بدفئها ولا نهائية أمانها، حصلوا على الملح، حيث، لا تنمو زهرة ولا يمتد جذر.

استخدمت الراعي أسلوب «الفلاش باك» حيث كانت «سوار» تتذكر أيامها، وذلك بحسب قولها يشبه أن يجالس الواحد منا صديقاً حميماً، ويسرد عليه ما فاته من الحكاية، بكل ما تمنحه هذه المسافة من الأحداث من حكمة وقدرة على فهم ما جرى، ورؤيته بعين الراوي العليم بما سيحدث وتجاوز فكرة المظلومية لفكرة أخرى وهي أن كل شيء كان واضحاً منذ البداية، وكان متاحاً دائماً سلوك درب مختلف.

الحب، العشق، التضحية، الألم، عرفت الرواية كل هذه الصفات، إلى حدٍّ ما يرجع ذلك إلى صفات شخصية الكاتبة، حيث تقول عن ذلك: كثيراً ما يتمّ الخلط بين الكاتب وأبطاله، على سبيل المثال روايتي الثانية «بائعة الكلمات»، تتحدّث عن امرأة مصابة بالسرطان ويتوفى طفلها التوحدي نتيجة رصاصة طائشة، هناك من اعتقد أني بطلة روايتي وأعيش مثلها أيامي الأخيرة، حتى أن فقداني بعض الوزن، جعل الأمر مؤكداً بالنسبة للبعض، وثمة من سألني عن ابني، رغم أني لست متزوجة، والأمر ذاته حدث مع «أحضان مالحة»، حيث تصوّر كثيرون أني البطلة «سوار»، وأنّي أعيش حالة اليتم والبحث عن البيت. وبالمناسبة هذا ليس بالأمر السيء، بل ربّما يسعدني أن تبدو حكايتي حقيقية إلى حدّ أن يقتنع القراء بأن أبطالها موجودون في الواقع. علماً أنه لا توجد رواية لا ظلال لأبطالها في الحياة، فالواقع هو المكان الذي ينتقي منه الكاتب شخصياته، وربّما يضيف إليهم شيئا منه، لكن كي يتحولوا إلى أبطال حكاية يحتاجون حكماً إلى غبار الحكايات السحري.

فصل الرواية الأخير يوحي كأنه انبعاث تتمة ورواية جديدة، وفعلياً تعمل الكاتبة ريمة الراعي على رواية تجري أحداثها بين الأربعينيات والستينيات من القرن الماضي، وتستند إلى قصة حقيقية، بطلتها كاتبة تربطها علاقة حب بأحد الضباط الأحرار.

استخدمت الكاتبة الأسلوب القريب من القلب لكنه واقعي حقيقي، لأنها تؤمن بأنّ الرواية تسرد نفسها بنفسها، وتفرض أسلوبها دون إرادة من الكاتب حتى وإن تصوّر غير ذلك.

تجربة الكتاب المسافر

أطلقت الكاتبة رواية «أحضان مالحة» لتخوض تجربة الكتاب المسافر، وذلك بتركها في مكان ما، ومن يعثر عليها يقرأها ثم يطلق سراحها من جديد ليعثر عليها قارئ آخر وهكذا، ولمتابعة رحلة الرواية، يطلب من كل من يصل الكتاب إلى يده، بعد قراءته، أن يكتب مكان وتاريخ وساعة إطلاقه للكتاب، وتصويره حيث تركه، وإرسال المعلومات إلى الكاتبة.

وتقول عن ذلك: ما دفعني إلى خوض تلك التجربة، هو من جهة شاعرية الفكرة، إذ أن القارئ يترك شيئاً من روحه وعواطفه في كلّ كتاب يقرأه، ومع طواف الكتاب بين أيدي أشخاص كثيرين، سيضاف الكثير إلى روح الكتاب، ومن جهة ثانية فإن الوضع الاقتصادي لا يسمح للجميع بشراء الكتب للقراءة، وبالتالي قد يكون الكتاب المسافر، فرصة لأولئك القراء الذين أنهكتهم الحرب والمتاعب المادية وجعلتهم غير قادرين على شراء كتاب، وأنا بدأت بكتابي الآن، لكن إن نجحت التجربة، سأتابعها بإطلاق سراح كتب أخرى لمؤلّفين آخرين.

سيرة ذاتية

الكاتبة السورية ريمة راعي، حائزة على بكالوريوس هندسة تصميم وإنتاج من «جامعة تشرين». عملت في عدد من القنوات السورية والمواقع الإلكترونية. تنقلت بين «قناة سما» السورية، وتلفزيون «الدنيا»، كما عملت في جريدة «الوطن» السورية بين عامَي 2010 و2013، وعملت كمحرّرة في كل من موقع «دام برس» الإلكتروني وجريدة «الوحدة» السورية. وهي حالياً محرّرة ومراسلة في جريدة «الأخبار» اللبنانية.

صدر لها: «وأخيراً ابتسم العالم» مجموعة قصصية، إصدار خاص 1999، ورواية «القمر لا يكتمل» إصدار وزارة الثقافة السورية 2006. ورواية «بائعة الكلمات». كما ستصدر لها هذه السنة رواية «أنا والقمريات والحبّ».

شاركت في معرض فرانكفورت للكتاب، عبر خمسة أعمال لكتّاب سوريين تم اختيارهم لتمثيل الأدب السوري، في سياق مشروع «رواة المدن»، لمعاهد «غوته» في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى