الأديبة والإعلامية السودانية إشراقة حامد لـ«البناء»: لا أعرف الوسط كموقف ورؤية… ولم أزل متعطّشة لفضول المعرفة
حاورها: طلال مرتضى
عنيدة مثل نخلة صامت عن فتنة الماء ألف حول، إلى درجة لو لمستها بكلمة، تبكي من رهافتها نهراً يروي ظمأ واحة. جُبلت سُمرتها من ملح الصبر الذي كوّن كينونتها، لم تقم من رماد انكساراتها كعنقاء، لأنّها لم تقبل لروحها الذوبان.
على قسطاس العلم توقفت، لتطير بهويتها المزدوجة شرقاً وغرباً، وبعيداً عنها كأديبة وناشطة وأستاذة جامعية، يتباهى من يعرف «السمراء» ببياض كفّها وروحها.
هي الأديبة والإعلامية السودانية، الناشطة في مجال حقوق الإنسان، والمقيمة في فيينا، إشراقة حامد، ضيفة منبر «البناء» في هذا الحوار.
ماذا لو توقفتِ الآن على مفترق قرائيّ، في الصورة الأعلى تتجلّى لي واجهة مكتبة أبو إدريس ومصطفى صالح، في الصورة التالية أقف منبهراً أمام عراقة مكتبات المدينة الباردة «فيينا». إلى أيّ الصورتين تنتمي إشراقة ولماذا؟
ـ أنتمي إلى الإثنتين معاً، أنتمي إلى الصورة الأولى، إلى بداياتي ومرح غزالة الاكتشاف والمعرفة. هناك حيث تنتفض المدينة التي تعلّمت فيها المشي والركض في التظاهرات وفيها نبض قلبي بالحبّ الأول. الصورة الأولى التاريخ والحنين والذاكرة وزهرات الجهنمية التي رافقت مسيرتي. هذا الزخم كلّه في الصورة الأولى قرب المكتبة المنزلية لأسرة «أبو إدريس» والمكتبة العامة بِاسم «مصطفى محمود» وأضيف مكتبة «رحمي» ومن قبل مكتبة أبي في البيت التي ورّطتني بالإهداء إليّ، هناك على ضفاف النيل الأبيض عرفت سرّ المعرفة، وهناك كان غرسها الأول. في مكتبات فيينا العريقة امتدّ أمامي الفضاء، الفضاء المحروس بالحرّية، حرّية الاطّلاع، حرّية التعبير، حرّيتك الذاتية، هنا تشعّبت معارفي التي أعادتني إلى هناك حيث يتلو جدّي بصوته الرخيم: «وما أوتيتم من العلم إلّا قليلاً». انتمائي إلى المعارف أزليّ ولا يرتبط إلّا بأمكنة الانتماء نفسها، ويمتدّ ما امتدّ عمري مظلّلاً بالمعاني التي نهلتها هنا وهناك. الفضاء الممتدّ وسراب ارتواء ظمأ المعرفة، بين هنا وهناك الكتب، كتب في الذاكرة وروايات قرأتها وأشعار حفظتها وتصحيح الخطأ بين الجماهير، والرواية الأولى التي كتبت باللغة العربية للسودانية ملكة الدار محمد «الفراغ العريض»، كلّها قابعة في مكان بعيد في القلب مثلها مثل كتب كثيرة رافقتني في ليالي الشتاء الباردة، الشتاء الذي أحبّ لأنه يعيدني إلى هناك حيث الانتماء الأول.
حين قرأت كتابَي السيرة خاصتك، ترسّخ لديّ يقين بأنّ الثقافة والمعرفة هما المعمار الفنّي للإنسان، تجلّى ذلك في هيكلية إشراقة التي وصلت هنا وهي مكتظّة معرفيّاً بأدبيات الشرق وهذا كأس أوّليّ، ثم دلفت العالم المنفتح من بوابته العريضة. هلّا حدّثتِني عن العلامات الفارغة بين المرحلتين، التأسيس والإكساء؟
ـ التأسيس بدأ من هناك، من المكان الذي احتشد بصرختي الأولى يوم الميلاد، بمسؤولية أنّ يكون لي من اسمي نصيب. الأساس الأول في العمل العام بدأ من الحركتين الطلّابية والنسائية، و لاحقاً الحزبية إبان دراستي الجامعية. المرحلة الأولى في السودان مهمة ولولاها لما كان هناك إكساء ولا إعادة بناء ولا ترميم.
المهمّ الاستفادة من المكتسبات الأولى في تكوين الذات، فهي المعين الذي ساعدني لأدلف إلى العوالم المنفتحة، ولأن أدخل براحاته رغم كلّ الحواجز وكان أهمها حاجز اللغة.
الإكساء ليس أمراً سهلاً، فهو يتطلّب الكثير من التحدّي، الإصرار، العناد والعزيمة. هذه الصفات من مكتسبات المرحلة الأولى. من كان يظنّ أن جدّي الذي لم يحالفه الحظّ بالدخول إلى المدرسة، أن يكون ملمّاً بتاريخ الحرب العالمية وله معلومات ثرّة عن النمسا، وكيف أنه بلّغني تحياته إلى برونوكرايسكي. من كان يعتقد أن أحد الدروس التي تلقيتها ضمن آخرين وأخريات في المدرسة الأولية عن البنت الشجاعة، وهي بنت نمسوية حرست أرضها وأنقذتها من الغزاة؟ وذلك الكتاب الذي أهداني إياه أبي ضمن ما أهداني من كتب وكنت حينذاك طفلة مهداة إلى ابنتي إشراقة .
كان كتاب «السيف والنار» الذي كتبه النمسوي سلاطين رودلف سلاطين باشا حين كان يعمل مع المستعمر البريطاني أيام الاستعمار في السودان، كلّ هذه الثراء كان الأساس الذي مهّد الطريق أمامي لأمضي في طريق مهّدته خطوات مهاجرات ومهاجرين منذ تاريخ بعيد.
على سيرة البلاد، هل برّت إشراقة بوعدها لرابحة حمّاد، حنان الطاهر، أميرة صادق، وحنان بابكر، أم بقي الوعد افتراضاً بافتراض أو مجرّد تفصيل عابر لسرير الذكرى؟
ـ أظن أنّي فعلت وما زلت، لم أنقطع من السودان حتى قبل أن تتمدّد وسائل الميديا الاجتماعية وتتعدّد. مرتبطة بسيرة النيل والنخيل والتبلدي. وبقى حلم في القلب أنام وأصحو عليه منذ أن تركت حقيبة في ركن قصيّ في البطين، بأن أعود يوماً إلى ضفاف النيل الأبيض أرقب السفن المبحرة نحو جنوب البلاد والقادمة نحو الشمال، أن أعود ويلتئم جرح البلاد. لم تزل إشراقة حامد متعطشة لفضول المعرفة، كثيرة الأسئلة.
وماذا عن أجوبة الصمت؟ وهل حدّ المعرفة الصين؟
ـ كلّما نهلت من المعارف أصابني ظمأ جسيم وعدت إلى المبتدأ، فلا نهاية لدروب المعارف. المعارف حدّها السراب، فهل يمكن غزل خيوطه لنصل إلى بدايات المعرفة؟ الصمت يجيب ولكنه يسأل أيضاً، مولعة منذ صغري بالأسئلة والعصف الذهنيّ.
في الصغر كان السؤال، حين أكبر ماذا سأصير؟ هل كبرت؟ ماذا صرت؟
ـ كبرت تجاربي الحياتية بكلّ تناقضاتها ومحاولاتي المستمرة للاتساق، كبرت ولكنّني ما زلت طفلة عمرها خمسة آلاف سنة، عمر السودان، عمر الأرض، فأنا ابنتها التي منها أتت وإليها في سلام تعود. ماذا صرت؟ صرت كما رغبت ونتجت عنه تجاربي ومحاولاتي للإبحار في البحار التي رغبت. ماذا صرت؟ صرتُ إنسانة، إنسانة لا تهادن في مواقفها ومبادئها، أتعثّر، أقع واقفة وأنهض شجرة كنتها في البدء، صرت ما أردت.
مقارنة مع ما قرأتُ في سيرتك، هل انطفأت شعلة طموح إشراقة؟ إذا كان الجواب «لا» سأذهب بك نحو البعيد. بعد هذا الحضور المعرفي والسياسي والاجتماعي والإنساني، بالمختصر المفيد، لديك رصيد يرفعك نحو نواصّ فاعلة أكثر، على سبيل المثال «البرلمان». من وجهة نظري الخاصة، لديّ دافع كبير كي آخذك إلى هناك، سأفضي به بعد إجابتك.
ـ كيف تنطفئ وما زلت حيّة؟ ما قمت وما أقوم به سياسي في الأساس ولكنّني أمارسه بشكل مختلف، مارست السياسة منذ سنّ صغيرة في السودان وانخرطت فيها بكلّياتي في الجامعة وكنت قيادية في الجبهة الديمقراطية في الجامعة الإسلامية. أعرف أني إنّ أردت سأترشح للبرلمان النمسوي ولكن المرحلة الحالية تتطلّب التركيز على قضايا تشدّ اهتمامي أكثر. الفنون ودورها في التفاعل والحوار الثقافي. نحن نعيش في أزمنة الحروب والعنصرية والإرهاب، أزمنة إفقار بلاد وثراء أخرى، تدهور البيئية والتحوّلات المناخية التي ستحلّ عبرها كوارث لن تسلم منها الأرض. كلّ هذا يحتاج إلى مساهماتي في العمل المباشر مع الفئات التي تشكّل وعي المجتمعات. السياسة هي الحبّ الذي أتنفسه.
الطهور، أو ما يطلق عليه «ختان الأنثى»، في ظلّ القانون أليس ذلك جريمة؟ أليس في ذلك قتل للأنوثة وانعكاس الأمر من الناحيتين النفسيّة والإنسانية؟
ـ مؤكد جريمة، لكنها أيضاً لا تنفصل عن جرائم أخرى تستهدف الطفولة في مهدها. معالجة هذا الأمر لا يتم بعيداً عن حقوق المرأة تحديداً والتي لا تنفصل عن حقوق الإنسان. النظر للختان بمعزل عن قضايا الإفقار والتجويع والديكتاتوريات والداعمين لها لا يضيء كلّ الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. هناك خطأ كبير يقع فيه كثيرون في تناول هذه القضية بمعزل عن قضايا الجسد وسياسته. أسوق هنا مثلاً لامرأة تعمل تحت الشمس لساعات طويلة لتطعم صغارها في مكان يفتقر لأبسط مقوّمات الحياة. لا تعليم ولا صحة ولا ماء نظيفاً. كيف تطالبها بألّا تختن بناتها، لا بل يتم استخدام مصطلحات لأتفهمها، وقد تُدهش حين تقول لها إنّ هذا تشويه للأعضاء التناسلية، لأنها ببساطة لا ترى ذلك تشويهاً بل تراه أمراً طبيعياً. المهم أن ننطلق من أرضيتها للتحاور معها، في سبيل مشوار طويل ومؤلم من الوعي. قتل الأنوثة، للإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نعرف الأنوثة.
بعيداً عن حكاية المجتمعات المتحرّرة والمنفتحة، حضور الفتاة السمراء وهالة التفاعل التي تدور في فلكها لم يأتيا من فراغ؟
ـ أتيا من الفراغ العريض، من الإرث النسوي والإنساني بالسودان، من حراك حقوق الإنسان وحماية البيئة وبواحات واسعة طرقتها خطواتي الأولى وهي تتلمس طريقها نجو مجد إنساني مشترك. «الفراغ العريض» أول رواية لامرأة في المنطقة العربية، هي ملكة الدار محمد. لم تأتي من فراغ بل أتت من نضالات المرأة السودانية ورفاقها عبر تاريخ طويل من الصبر والصمود ودروب الاستنارة. بكل هذا الإرث وتاريخ طويل من المعاناة والمثابرة كان هذا التفاعل و… وثمة تميمة من جدّتي، أمي حليمة التي قالت لي منذ أمد بعيد: «طريقكن المعرفة، المعرفة بصيرتكن». الحراك الذي عايشته في النمسا وثمرة الديمقراطية كنعمة أضافت لي الكثير وجعلتني أكثر انفتاحاً على العالم متجاوزة ما أمكن «عقدة» اللون، الأصل، اللغة، النوع والدين. العقدة التي أورثتها طرق تفكير المركزية الأوروبية في الآخر.
هل من تميمة روحية تلد مع الإنسان ليبقى أسيرها، وكأنني قبضت على هذا في روحك القائمة على وريدين «النيل والدانوب» كمسمّى «ابنة الأنهار»؟
ـ تميمتي الأنهار، رمز الخصب والحياة. الأنهار التي لا تعرف الحدود ولا تؤمن بها، الأنهار التي تسوقني أمواجها للأمام وتهدر بأحلام من غرقوا وغرقن في البحار التي تصبّ فيها، غرقوا في سبيل الخلاص، الحقّ المشروع في جنّة «الجحيم» الأوروبي.
هل لأن خير الأمور أوسطها، كان الجواب: أنا من وسط السودان؟
ـ لا. أنا لا أعرف الوسط كموقف ورؤية، أميل كلّية ناحية القلب اليسار. الإجابة إنّي من وسط السودان، هي إجابة مقصودة لتحميني من التنميط. شمال السودان أم جنوبه، ووفقاً لاختياري الإجابة أكون جاهزة للتعليب والتنميط.
هامش مباح للثرثرة خارج دائرة الحوار، أتركه لـ«إشراقة» لتترك لي شيئاً من روحها!
ـ هي العاصفةُ
تسرجُ خيولَ عنادِها نحو جبالِها
تضيء حزنَها
امرأةُ الجبلِ العنيدِ
وطيورِ الشتاءِ
والبحيراتِ الصغيرةِ
والأقمارُ دثارُها قطنُ السماءِ
تقرعُ طبولَها
وترقصُ حتى هزيعِ الروحِ
تغني
تبكي
تضحك
تقرأ
تكتب
ترقص
حتى ينسَلّ حبيبُها من عتمتِها
وعلى درب التبريزي تسير
سراباً أخّاذاً
يضيءُ منْ قُبةِ قلبِها
وفي أنهارِ روحهِ مصبُّها الأخير.
بطاقة
إشراقة حامد، أديبة وكاتبة سودانية، أستاذة العلوم السياسية في جامعة فيينا، ناشطة في المنظّمات الدولية لحقوق الإنسان، ممثلة الأدب العربي بالقلم النمسوي، وسفيرة فوق العادة لـ«مؤسسة ناجي نعمان» الأدبية اللبنانية.
كاتب وصحافيّ سوريّ