«الفرات»… إلى رفوف دارها الواسعة
اعتدال صادق شومان
وهكذا، اختفى آخر تفصيل جميل في مبنى «رسامني» في شارع الحمرا، بإقفال «مكتبة الفرات»، الحيّز الثقافيّ الأخير في المبنى المشهور، وما تبقّى من مربّع الألفة فيه يحدق به خطر «الإخلاء» في ظلّ قانون إيجار مجحف وسياسة تهجير ممنهجة تعتمدها إدارة المبنى بإحكام مطلق. ليبقى «المعلّم فارس» يصول ويجول في المبنى العريق، لصاحبه رجل الأعمال المعطاء الراحل رشيد رسامني.
أمّا الإيجابيّ في القضية، أنه صار بإمكان قاصدي «مكتبة الفرات»، أنّ يتوجّهوا إلى مركزها الثاني، حيث تدور رحى النشر، وذلك في أقصى شارع الحمرا، وحيث الأعداد الكبيرة من الكتب والصحف والمجلات والآفيشات السينمائية التي جمعها صاحب «الفرات» عبودي أبو جودة بجهد وإلحاح، وكدّسها في صناديق على مدى عقود، وأنفق في سبيلها كلّ ما حَوَت يمينه، حتى تراكمت وتزاحمت وصارت واقعاً شديد الحضور وقطعت أشواطاً في مواكبة عصر الرقمنة، وحقوقها محفوظة على موقعٍ إلكترونيّ مستحدث.
المهنة التي بدأت هواية، وصارت اليوم مؤسّسة ذات إمكانيات كاملة، ارتفعت فيها كلّ تلك الطرود عمودياً وتأطّرت على رفوف خشبية في متاهة من خطوط مستقيمة، فأضافت هيبة ومكانة مضافة. ومع التفاصيل تصبح أكثر جمالاً، يرصفها بإتقان وينضدها مروان، جندي المكتبة المجهول، بما يمتلك من «قابلية» في الترتيب والفهرسة، فتتدرج بين يديه الكتب بإحداثيات دقيقة البناء على ممرّات الرفوف. إصدرات متنوّعة، بدءاً من الأزمنة الغابرة، إلى القافز حالاً من المطبعة، ويعّزّز الناقص منها على الوافر، ويفسح حيّزاً للوافدة حديثاً، وهو على هذا المنوال حتى تستقيم «مملكة النظام» ويتنفّس الجميع الصعداء، لتدبّ الحركة في السراي ومجلسها العسكري بقيادة جمال والمساعد مازن الشاب الجامعي، وهو على خطى أخواله من آل أبو جودة، ورِثَ عنهم شغف الكتاب.
أمّا وقد وصلت «سيدة المكتبة» ماري تيريز، وجلست على كرسيّها، فنتظّم المكان، ويسعد صباح الجميع.
وماري تيريز، كما عرفناها نحن «شلّة الصباح» طوال سنوات في المكتبة الصغيرة، نجحت في إرساء سياسة شديدة «البشاشة»، ميثاقها الكتاب، فرضتها على المكان والأصحاب. تاركة لمروان الظنّ أنّه الآمر الناهي مع لائحة ضوابطه الطويلة ولازمة «أهلاً وسهلاً فيكن». ولكن في حقيقة الواقع، هي من كانت تضبط زمام الأمور بلباقة عالية، يشوبها شيء من الحدّة على المشاغبين من أمثالي، الزبونة «الدوّيمة» منذ أكثر من عشر سنوات، حتى صرت أدعي أني «شريكة النصّ» وكُدت أصدّق.
وهنا، مع ماري تيريز، الزبون ضيف عزيز للمكتبة، وليس زبوناً يشتري الكتاب ويغادر. وأصحاب المكتبة أصدقاء وليسوا باعة أو تجّاراً. وهذه حقيقة مدار إجماع للمكتبة وأصحابها من القاصي والدّاني على حدٍّ سواء، خصوصاً من أولئك الزوّار نخبة المثقفين والباحثين وطلاب المعرفة والمهتمين بالشأن العام، من العابرين على عجل أو أصحاب المواعيد الثابتة، الذين اعتادوا المرور إلى المكتبة، من العالم العربي أو الاغتراب، «تأخرتوا علينا هالسنة»، ولا مغالاة في القول عند حضورهم يبادرون بالسؤال عن ماري تيريز التي سمعوا عنها الكثير، مديرة المكتبة اللطيفة التي تتمتّع بنمطيّة مختلفة عن أمينة المكتبات العبوس التي تقدّمها الأفلام لنا. والأكيد، أنّها لا تشبه «مكتبجية آخر زمان» الذين لا يكلّفون أنفسهم النظر إلى محدّثهم من الزوّار. وحكماً، ماري تيريز لم تكسب هذه الشعبية أو السمعة الحسنة فقط بحفاوة الاستقبال، التي تحيط بها البقيّة الباقية من المستأنسين بخير جليس.
وهي على ذلك، لم تحظَ بكلّ هذا الاحترام وبهذه المهابة عبثاً، من الذين تبادرهم الودّ بالودّ، فحفظت وجوههم، أسماءهم، أذواقهم، والإصدارات التي تجذب ميولهم الأدبية. وهي أيضاً المرشدة في قراءاتهم، «ضروري تقراه الكتاب، أكيد رح يعجبك». و«هذا كتاب يلقى رواجاً». وهي في الكتب مرجعيّة تثير الإعجاب، ولطالما أدهشت الزبائن بدقّة ذاكرتها، تصوّب لهم عنوان الكتاب واسم المؤلّف واسم الدار، وسنة صدروه، وعدد الإصدارات، وهل هو نافد أم متوفّر… نستطيع القول إنّ ماري تيريز «موسوعة» بحدّ ذاتها!
وهناك المهام الإضافية التي تتولّاها ماري تيريز، فلا تترك، شؤون أصدقاء الكتاب بغير متابعة أو ملاحقة حتى يحطّ الكتاب في رعايتهم عن طريق الطرود البريدية داخل البلد أو خارجه. تدير صندوف أمانتهم، وهي أيضاً المؤتمنة على تلبية طلباتهم الصعبة: «غبلك ساعة وطلّ»، وتتواصل مع شركاء المهنة، من دور النشر، الذين يبادلونها الثقة التامّة: «جايي لعندكن شخص من قبلنا»، ليأتي الصوت: «بتأمري ستّ ماري… دارنا دارك».
وهي «store» للأمانات، تحفظها لأصحابها: «هذه المجموعة للدكتور «زياد منى»، «يومين وبطلّ»، وتلك أمانة تخصّ سمر حداد، وهذه المغلّفات تركها صديق للقاضي جهاد فاضل، ولائحة الأسماء تطول، تبدأ مع الأب الوقور سهيل قاشا وتمرّ بسليمان بختي وسركيس أبو زيد، إلهام بكداش، فاطمة رسلان، حسن شمص، خالد المعالي، الدكتور جورج كتورة، والدكتور محمود زيباوي، وأكيد «المكتبجية» السابقة فاديا جحا، وعدد من أسماء ووجوه سياسية وحزبيّة وفكريّة، لا تتسع لذكرهم جميعاً هذه الصفحة.
يبقى القول إنّ أرقى ما في «الفرات»، فسحة النقاش المتواصل، في الصالون الأدبي، يفيض بالهمّ الفكري والثقافي والمعرفيّ، يديره في الموعد المسائي مع مروان، الباحث جان داية، وهيئة مختلفة.
أودّ أن أختم بالتحية إلى الصديقين ماري تيريز ومروان، ونبارك لهما المحور الجديد للمكتبة. على أن تبقى «الفرات» منتظمة الخطى نهجاً نوعيّاً وإيجابياً، ورافداً من روافد العلم والمطالعة وكسب وعي الأجيال. ونحن على قناعة تامة بأنه سيكون لـ«الفرات» اسم كبير في عيون الكتّاب.