اشتباك السرياليّة والواقعية في أعمال التشكيليّ اليمنيّ عبد الفتّاح عبد الوليّ
أحمد الأغبري
يبقى عبد الفتاح عبد الوليّ 1949 لوحة تشكيليّة يمنيّة مختلفة تقنياً وموضوعياً مقارنةً بالجيل الثاني من التشكيليّين في بلاده الذين انضمّ إليهم قادماً من مجال مختلف، وهو القانون، علاوة على أنّه قاصّ وصدرت له مجموعتان قصصيتان. وهنا لن نغفل الإشارة إلى روح سرديّة تطغى على علاقته بلوحاته المرتبطة بواقع الحال في مجتمعه، وهي روح تهتم بالتفاصيل، لكن هذه التفاصيل تبقى عسيرة القراءة ظاهرياً. ولعلّ عُسر القراءة الظاهرية مبعثه الحكائية العالية التي يصبغ بها عبد الوليّ المعالجة الموضوعية للوحاته، فتأتي المعالجة التكوينية واللونية تعبيراً مختلفاً لتجربته السرديّة في علاقته بالموضوع التشكيليّ.
التلقائية
على بساطة وتواضع حديثه، وهو يصفّ نفسه هاوياً للتشكيل، إلّا أنّ لوحته، بلا شكّ، تعبّر عن فنان يتعامل مع لوحته بفطرة فنّية لافتة، معبّراً عن هموم الواقع من حوله، ولهذا فإن كان لا يعترف بخصوصية لوحته فإن لوحته تعترف بتجربته، وهو ما يمكن قراءته في حديث لوحاته الشعريّ والسرديّ في آن. إضافة إلى ذلك نقول إنه لو أعطى لوحته مزيداً من الوقت والحوار مع مكوّناتها مع كبح جماح التدفّق العاطفي التلقائي في تعبيره عن الواقع من خلالها، لكان قد وصل معها إلى حال من الوفاق الذي يرتضيه المشاهد، وإن كان رضا المشاهد تشكيليّاً ليس في مقام الاهتمام لدى الفنان أو هكذا يفترض.
نظّم عبد الولي، وهو شقيق أحد روّاد الرواية اليمنيّة الراحل محمد عبد الوليّ، عدداً من المعارض في «اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيّين» و«مؤسسة العفيف الثقافية» في صنعاء، و«مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة» في تعز وآخرها كان في «مؤسسة بسمنت الثقافية» في صنعاء نهاية العام 2016.
ما يميّز تجربة عبد الفتاح، اشتغاله التقنّي المختلف على التجريد في اشتباكه مع السيرياليّة من ناحية والواقعيّة من ناحية ثانية، ومعالجاته اللونية والشكليّة التي لا تنسجم مع المقاسات والمعارف المدرسية للتشكيل إلّا أنّها توحي بأنّها استجابة لحالة روحية وشعورية يقرأ فيها الفنان باطن منظوره من واقع رؤيته الداخلية لواقعه، والتي نجدها تحلّق حلماً عندما يقترب من السيريالية ورؤى استشرافية عندما يقترب مع الواقعية، فيما تأتي الألوان تعبيراً شعورياً لما يجيش في وجدان الفرشاة لحظات التكوين الشكليّ للوحة.
الأحلام والرؤى
موضوعياً، يهتمّ الفنان بمظاهر الحياة من حوله في ترجمته أحلامه ورؤاه، فتأتي شخوصه بملامح مبهمة ويغلب عليها السكون، وهنا تحضر المرأة كثيراً، وتختلف العلاقة معها من لوحة إلى أخرى، وهنا لا يمكن أن نقول إن علاقة الفنان بشخوصه في لوحته هي انعكاس لعلاقته بالناس بالواقع، فثمة تردّد في تشكيل الفنان لملامح شخوصه ما يجعلنا نشعر أن ثمة خوفاً وتوجّساً طاغياً على التشكيل الشخوصي لدى هذا الفنان. لكن ما يمكن قوله إن ازدحام التفاصيل وانغلاق الملامح لا يمكن أن يكون هدفاً للفنان بقدر ما هو وسيلة وجزء من رؤيته الفنّية التي تمنح اللوحة الكثير من الرسائل وتجعل من كلّ جزئية فيها نافذة لأكثر من قراءة وأكثر من إيحاء، بل أنّها تبدو في وجه من وجوه سرديّتها أكثر شعريّة في قراءتها للمحيط بعين وروح الفنان.
لكلّ لوحة حكاية… هكذا تبدو للمشاهد وهو يقف أمامها منذ الوهلة الأولى بينما قد نجدها حكاية لحالة شعورية عاشها الفنان وترجمها شكليّاً ولونيّاً في لوحة، وأحياناً قد لا يقول لنا ما هي حكايتها، وهو ما يفسّر لنا انتقاله في بعض اللوحات من التجريدية إلى عوالم سيرياليّة، حيث تحضر أحلام الفنان ومخاوفه في تعبيراته التكوينية واللونية على سطوح اللوحة. وهنا نجده لا يهتم، أحياناً، بالخطوط الفاصلة بين التجريد والسرياليّة، لكن ما يمكن قوله عن بعض الأعمال التي يقترب فيها من الواقعية، والتي يفترض أن تكون أكثر وضوحاً. أنّها تحمل الكثير من الغموض، ما يجعلنا نقرأها في المنوال السابق ذاته الذي أطرنا فيه لوحاته التجريدية والسريالية، فلوحة عبد الفتاح عبد الوليّ هي أحاسيسه مسكوبة هنا تعبيراً عن رؤيته تجاه الواقع وليست أكثر من ذلك، وعلى المشاهد أن يؤطرها فكرياً وموضوعياً كيفما يشاء، كما أن معرفة الفنان بلوحته تنتهي بالانتهاء من تكوينها وتلوينها وعرضها… لأن اللوحة هي حالة الفنان لحظة تكوينها.
الحزن
ثمة إشارة أخيرة إلى كمّية الحزن والبؤس الحاضرة في لوحاته لونياً وشكلياً، حيث نجد مساحتها أكثر من المتاحة للبهجة، فذلك تعبير آخر عمّا يعيشه الفنان ويرى من خلاله الواقع ويترجمه لونياَ، فالواقع اليمنيّ من حوله كثير الحزن قليل الفرح، هكذا يراه كفنان مهموم بالمجتمع والناس والبلد، وبالتالي لا تخرج اللوحة، كما سبقت الإشارة، عن دائرة التعبير عن حالته إزاء الواقع. وهنا لا بدّ من التنويه لخصوصية علاقة الفنان باللون الأصفر تعبيراً عن مدى ما يشعر به من ألم إزاء المحيط من حوله مستحضراً الأسود في دلالة عن حزنه إزاء ذلك البؤس. وهنا يبقى الأمل حاضراً في علاقته ببقية الألوان كالأزرق والأحمر وغيرهما بدرجات يُجيد من خلالها استنطاق ما يريد قوله عبر سطوح لوحاته وشخوصها وحكاياتها.