تداعيات اجتماعية للاقتصاد السياسي النيوليبرالي في مصر
د. محمد أشرف البيومي
ملخص
تلازم مسار «الانفتاح الاقتصادي» في مصر مع اتفاقيات «كامب دايفيد» ما جعلهما وجهان للعملة نفسها. وبالتإلى عندما نرصد التداعيات الاجتماعية والثقافية والسلوكية لهذا «الانفتاح» نجد أنّ من الصعوبة الفصل بين النهج الاقتصادي والسياسي بل إنّ من الضروري الالتزام بالمنهج الشامل في التحليل وتجنُّب المعالجات الجزئية التي تؤدي إلى استنتاجات قاصرة. إنّ تبني منهج «الانفتاح» أو «الانفراج» الاقتصادي هو دعوة إلى الوقوع في هوّة التبعية السياسية والاقتصادية والتي من الصعب الفكاك منها.
تسعى هذه الدراسة إلى رصد التداعيات المدمِّرة للنهج النيوليبرإلى على المجتمع المصري، ما يستدعي ضرورة العمل على تغيير المسار الاقتصادي في مصر. الدراسة تشكل أيضاً تحذيراً للذين يراودهم تبني نهج الانفتاح النيوليبرإلى الذي يؤدي من دون شك إلى نتائج وخيمة، اقتصادياً واجتماعياً، وتفاقم المعاناة لغالبية الشعب. فالحالة المصرية تمثل نموذجاً عملياً استمرّ أربعة عقود ووجبت الاستفادة من دلالاته.
شكر واجب
أقدم شكري لدعوتي للمشاركة في المؤتمر الاقتصادي الأول الذي ينظمه «تجمُّع سورية الأم»، خصوصاً أنني لست متخصصاً أكاديمياً في مجال الدراسات الاقتصادية. إنّ إشراك متخصِّصين في مجالات أخرى لهم اهتمامات بدور الاقتصاد المحوري في المجتمع قد يثري النقاش ويضيف أبعاداً جديدة.
أعتمد في هذه الدراسة على قراءتي العامة والاطلاع على تقارير ودراسات اقتصادية عربية وأميركية وعلى مشاهداتي وملاحظاتي في الدول العربية، وبالأخصّ في مصر وأيضاً في الولايات المتحدة الأميركية.
أقدّم الشكر للدكتورة سهير مرسي لتقديمها عدداً من الدراسات الهامة ولمراجعة الدراسة.
أهمية الموضوع
يأخذ موضوع الانفتاح الاقتصادي واتباع نهج الاعتماد على آليات السوق أهمية خاصة بالنسبة لسورية التي هي الآن على مشارف انتصار كبير على الإرهاب والمعارضة المسلحة المدعومة من قوى الإمبريالية والكيان الصهيوني وأتباعهم المحليين دام حوإلى سبع سنوات. إنّ صمود سورية العظيم يؤهلها لانطلاقة جديدة نحو نهضة مستقبلية. من الطبيعي إذاً أن يأخذ الحوار حول نوعية هذه النهضة وركائزها ومنهجها أهمية فائقة. من هذا المنطلق، وجدتُ من الضروري نقل صورة حول تداعيات الانفتاح التي حلّت بمصر في مجالات متعدّدة ولمدة تفوق أربعة عقود، والهدف من ذلك هو تجنُّب تلك التجربة المريرة والتي يصعب الفكاك منها رغم ضرورة ذلك. سورية إذاً على مشارف انتصار كبير ضدّ التآمر الغربي والصهيوني والعربي الرجعي وضدّ الإرهاب وهي الآن على أهبة شقّ طريقها من أجل نهضة جديدة لا بدّ أن تكون مرتكزة على الاستقلال والاعتماد على الذات والاستفادة بشكل خاص من الإبداع المحلي.
إنّ المعالجة الشاملة للموضوع تلزمنا بالتأكيد على الارتباط الوثيق بين سياسة الانفتاح الاقتصادي ومسار «السلام» مع العدو الصهيوني وما تبع ذلك من وقوع في فلك التبعية للغرب. ورغم أنّ الانفتاح الاقتصادي في مصر لعب دوراً أساسياً في الظواهر الاجتماعية والسلوكيات التي صاحبته، فإنّ من الضروري أن نؤكد تواجد عوامل أخرى تضافرت مع الانفتاح الاقتصادي لتنتج هذه الظواهر وتلك الممارسات. من هذه العوامل ظاهرة هجرة العمالة إلى الدول الخليجية والهجرة من الريف إلى أطراف المدن، ما أدى إلى التوسُّع في العشوائيات. هذا بالإضافة إلى دور القيادة السياسية في ضرب القوى التقدمية والوطنية وحصارها وإطلاق العنان للإخوان المسلمين وتيارات الإسلام السياسي. ومع تراجع دور الدولة في مجال الخدمات الاجتماعية، سارعت هذه التيارات إلى ملء الفراغ الناجم عن ذلك من خلال تقديم العديد من الخدمات المفتقدة، ما زاد من شعبيتها ورصيدها السياسي. 1 كما تزامن انحسار دور الدولة أيضاً مع تعاظم غزو المؤسّسات الأجنبية، بما فيها مؤسّسة «فورد» غير الحكومية! وكما كتب ديلوين روي، الذي عمل مستشاراً لهذه المؤسّسة في مصر، فقد عملت «فورد» على «إعادة بناء الاقتصاد السياسي في مصر» 2 وفتح الباب على مصراعيه إعلامياً لما يشبه الغزو الثقافي العارم لقوى الإسلام السياسي والسماح بشركات توظيف أموال بشعارات دينية وكشوف بركتها. هناك تشابك وتلاقٍ بين نهج الانفتاح الاقتصادي ومسار «السلام» وتبعاته مع عوامل أخرى لإنتاج الأوضاع الحالية في مصر.
«الانفتاح» و«السلام» توأمان متلازمان
جاء في خطاب الرئيس أنور السادات في لقائه 500 رجل أعمال أميركي في الغرفة التجارية الأميركية نصّ الخطاب منشور في جريدة الأهرام في 29 آذار/ مارس 1979 : «إنكم مسؤولون أمامي وأمام الرئيس كارتر لنعمل معاً من أجل تحقيق الرخاء لمصر. إنّ مصر بعد توقيع معاهدة السلام ستحول اقتصادها من اقتصاد حرب إلى اقتصاد سلام، وقد بدأت سياسة الانفتاح الاقتصادي في أعقاب حرب أكتوبر مباشرة جنباً إلى جنب مع عملية إقرار السلام في المنطقة». 3
مقارنة بين ثلاث حقبات مصرية
لقد عاصرت في مصر ثلاث حقبات مورست فيها نماذج اقتصادية وسياسية مختلفة، بل متناقضة في الأهداف والنتائج. هذه التوجهات المتباينة أدت إلى تغيرات اجتماعية هائلة وتبعتها سلوكيات وممارسات مختلفة. وبالتالي أمامنا تجربة عملية طبقت من خلالها مضامين نظرية. وبذلك يمكننا أن نقوم بدراسة مقارنة عملية فنحن نتعامل مع البيئة المجتمع عينهما من حيث التاريخ والجغرافيا.
عصر الملكية والاستعمار البريطاني
في الحقبة الأولى، وهي عصر الملكية والاستعمار البريطاني التي َلمَست بعض سنواتها، خصوصاً أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت هيمنة الاستعمار المباشر تحدّد الأولويات الاقتصادية من حيث المحاصيل الزراعية ودور رأس المال المحلي وتوجُّهاته. ورغم الشكل الديمقراطي الذي ميّز تلك الفترة، فإنّ حزب الأغلبية، الوفد لم يحكم إلا فترات قصيرة وكانت الغلبة لأحزاب الأقلية التي كانت عموماً موالية للقصر وللإنكليز. كانت الأوضاع الاقتصادية لعموم الشعب متردّية وشاع «الفقر والجهل والمرض». كانت السيادة للإنكليز أساساً، ومحلياً كان القصر وطبقة كبار الملاك هم الحاكمين تحت رداء الاستعمار والديمقراطية الزائفة. لذلك، من العبث التباكي على هذه الديمقراطية أو الحديث عن النعيم الذي ساد في تلك الحقبة والذي كان محصوراً بالأغنياء وبدرجة أقلّ في شرائح من الطبقة الوسطى. ليس غريباً إذاً أنّ المعارضة تصاعدت واندلعت المظاهرات الطلابية وتشابكت مع الإضرابات العمّالية ما أدّى في النهاية إلى انقلاب الجيش عام 1952 وإزاحة فاروق والملكية ثم الاستعمار نفسه وسرعان ما تحول الانقلاب إلى ثورة اجتماعية لصالح غالبية الشعب.
نبذة عن تجربة طلعت حرب الخلاقة
ورغم مساوئ فترة الملكية، فقد برز نموذج اقتصادي فريد تمثّل في تجربة خلاقة قادها المبدع الوطني طلعت حرب تستدعي ذكر بعض معالمها والظروف الصعبة التي صاحبتها. هناك من يظن أنّ البدائل الاقتصادية مُنعدِمة ولا مناصَ من اتّباع نموذج الخضوع لآلية السوق أو لبيروقراطية الدولة ولهذا أسوق نموذجاً ناجحاً انبثق من تجربة طلعت حرب في مصر أوائل القرن الماضي. هدفنا هنا هو التأكيد على أنّ الإبداع المحلي جدير بتقديم تجارب ناجحة خارج إطار العولمة الرأسمالية التي أثبتت ممارستها في مصر، ليس الفشل فحسب، بل العديد من التداعيات السلبية المستمرة وأحياناً الخطيرة على المجتمع.
من الأركان الأساسية الواضحة لفكر طلعت حرب في مؤلفاته عداؤه لمقرضي الأموال من الأجانب لامتصاصهم دماء الفلاحين، والهجوم على الاستعمار وضرورة إنشاء بنك وطني للمصريين. كان المناخ العام في ذلك الوقت هو إلقاء اللوم على الأتراك والإمبراطورية العثمانية…. «لتخلف الشرق المسلم». في ذلك الوقت كان الأتراك يتحكّمون بدرجة كبيرة في السلطة والثروة و«كانوا ينظرون بدونية إلى العامّة من المصريين» ويلقبونهم بـ«الفلاحين». كما تأثر طلعت حرب بقوة بالثورة العرابية عام 1882 وبالرموز الوطنية المصرية مثل مصطفى كامل ومحمد فريد الذين ناديا بالاستقلال وإنهاء الاحتلال البريطاني في مصر ورفض تمديد امتياز قناة السويس من 1968 حتى 2008. وفي نفس الوقت برزت فئة أخرى من البرجوازية المصرية التابعة للإنكليز ممثلة في اسماعيل صدقي وأحمد عبود وحافظ عفيفي.
اتّسم طلعت حرب بالذكاء والرؤية الواضحة بعيدة المدى والمرونة، ما مكّنه من تأسيس علاقات متينة مع بعض العائلات القوية. «كانت غالبية رأس مال بنك مصر الذي أسّسه عام 1920 من كبار ملاك الأراضي كما ساهمت الأنشطة الطلابية في تعظيم حجم رأس مال بنك مصر» عن طريق بيع أسهم البنك… ومن خلال لجان مقاطعة البضائع الإنكليزية وتشجيع المنتجات المصرية وسحب ودائع المصريين من البنوك البريطانية وإيداعها ببنك مصر» 4 ، وذلك في أعقاب ثورة 1919 التي قدم فيها 313 طالباً أرواحهم في مارس1919 كان أولهم عمي محمد عزت البيومي 5 .
توسّعت مجموعة شركات بنك مصر فشملت، على سبيل المثال وليس الحصر، «شركة مصر للغزل» بالمحلة وسط الدلتا، و«شركة صباغي البيضا» بكفر الدوار بالقرب من الإسكندرية، و«ستوديو مصر»، و«شركة بيع المصنوعات المصرية»، و«شركة مصر للملاحة البحرية»، و«شركة مصر للطيران». والجدير بالذكر أنّ حافزاً قوياً تولّد لدى أعضاء البرجوازية المصرية من استثماراتهم من الزراعة إلى الصناعة». كما اهتم طلعت حرب بتوسيع نشاطه في البلاد العربية، ما يعكس قناعته بضرورة الوحدة العربية وأهمية دور الاقتصاد في دعم الوحدة، ومن الدول العربية التي كانت محط اهتمام طلعت حرب فلسطين وسورية ولبنان، وبحسب المؤلف دافيز، فقد»حقق بنك مصر ـ سورية ـ لبنان نجاحاً كبيراً». 4
تربّص أعداء طلعت حرب، وعلى رأسهم أحمد عبود وحافظ عفيفي الذي وصفه دافيز بأنه «كان معروفاً بانه إنكليزي أكثر من الإنكليز أنفسهم» والذي أصبح رئيس الديوان الملكي لفاروق بعد ذلك ، كما كان من ورائهما الاستعمار البريطاني «وقد أصبحت المجموعة شركات مصر هدفاً لعدد من المؤامرات» 5 «وانتهى الأمر باستقالة طلعت حرب مضطراً، في مقابل موافقة وزير المالية حسين سري وهو أيضاً إنكليزي الهوى على الضغط على البنك الأهلي المصري للموافقة على قرض لإنقاذ بنك مصر من الانهيار المالي. وانتهي الأمر بتولي أحمد عبود رئاسة «بنك مصر» خلفاً لطلعت حرب.
حقبة المشروع الناصري والتخطيط الاقتصادي 18 عاماً
يمكن تسمية الحقبة الثانية بحقبة المشروع الناصري ومحورية تخطيط الدولة للاقتصاد والتي استمرت أقلّ من عقدين من عام 1952 حتى 1970. إنّ أهم إنجاز هذه الفترة، في تقديري، هو تقديم مشروع نهضوي أثبتت نتائجه فعاليته وانعكاساته الإيجابية على الملايين من الشعب المصري، وترسيخ قيم العمل والعدالة لجموع الشعب والاعتماد على الذات. وصاحب ذلك تغيير مجتمعي هائل من توسع الطبقة المتوسطة وخروج مئات الألوف، وربما الملايين، من دائرة الفقر والمهانة والجهل. بدأ جمال عبد الناصر، في اتجاه جديد للدولة، نحو السيطرة على مصادر الإنتاج ووسائله من خلال التوسُّع و تأميم البنوك الخاصة والأجنبية، والشركات والمصانع الكبرى. كان بنك «باركليز» الإنكليزي يسيطر وحده على 56 في المئة من الودائع، وكان «بنك مصر» قد تمت السيطرة عليه من جانب رؤوس الأموال الإنكليزية والأميركية كان هناك 960 شخصاً فقط يسيطرون على كلّ الوظائف الأساسية في مجالس إدارات الشركات الصناعية. من بين هؤلاء نجد 265 مصري فقط، الأمر الذي دعا الاقتصادي المصري الدكتور عبد الجليل العمري أن يصف الاقتصاد المصري كبقرة ترعى في أرض مصر، ولكنّ ضروعها كلها كانت تحلب خارج مصر.
يمكن إعطاء لمحات عن إنجازات عبد الناصر في النقاط التالية: الاستقلال الوطني بجلاء قوات الاستعمار البريطانية عن مصر في 19 أكتوبر1954- تأميم قناه السويس 1956 وجعلها مصدراً هاماً للدخل القومى ـ إنشاء السدّ العالي الذي جنَّب مصر الفيضانات والجفاف وحوّل ري الحياض إلى ريّ دائم وأوجد بحيرة ناصر الغنية بالأسماك، أكبر بحيرة صناعية في العالم. مكّن السدّ من استصلاح حوالى 2 مليون فدان ووفر طاقة كهربائية ضخمة حققت هدف كهربة الريف. بناء قلعة صناعية شمل مشروعات للصناعات الثقيلة كالحديد والصلب، مصانع الألومنيوم، شركة الأسمدة كيما ، مصانع إطارات السيارات الكاوتشوك، مصانع عربات السكك الحديدية سيماف، مصانع الكابلات الكهربائية، شركة النصر للسيارات. وبمشاركة يوغسلافيا والهند في الستينيات تأسّس مشروع لتصنيع الطائرات والصواريخ والمحركات النفاثة والأسلحة.
صدر قانون الإصلاح الزراعي بعد أقلّ من شهرين من يوليو 1952 ووزعت أراضي كبار الملاك على الفلاحين، ما كان له بالغ الأثر في تحسين ظروف مئات الألوف من فلاحي مصر كما أدخل المدارس والوحدات وإنشاء الجمعيات الزراعية فى كلّ قرى مصر.
أصدر عبد الناصر قوانين جديدة حدّدت ساعات العمل والحدّ الأدنى للرواتب، كما قام بتخفيض عدد ساعات العمل. أدت سياسات عبد الناصر إلى التوسُّع الهائل في التعليم في جميع مراحله، وإتاحة التعليم الجامعي للآلاف من الفقراء وبناء الآلاف من المساكن الشعبية.
آمن عبد الناصر بضرورة الوحدة العربية وبالفعل تحققت الوحدة بين مصر وسورية تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة 1958 – 1961 ورفع لواء القومية العربية واستعدى الرجعية العربية. ساهمت مصر في نصرة ثورة اليمن والجزائر وليبيا، كما كانت مصر إحدى الدول المؤسِّسة لحركة عدم الانحياز 1964 ونصرة القضية الفلسطينية، كقضية عربية محورية، كما ساهمت بشكل كبير في تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية. كانت صلابة موقف عبد الناصر ضدّ العدوان الثلاثي عام 1956 عاملاً هاماً في صمود الشعب المصري في وجه العدوان.
بالطبع كانت هناك أخطاء كبيرة في هذه الحقبة، على رأسها انفصال سورية وهزيمة 1967 وبقاء قيادات غير مسؤولة في قمة السلطة ما كان له آثار سلبية كبيرة، وعلى رأسها دور عبد الحكيم عامر وأنور السادات المخرِّب. كذلك لم تكن هناك حرية كافية تسمح بالنقد والتحذير من المصائب. بالطبع كانت هناك سلبيات نذكر منها اتساع البيروقراطية واتساع دور الضباط غير المؤهلين مهنياً في المؤسّسات الاقتصادية، وانحسار النقد والتقييم والمساءلة.
عصر «الانفتاح»! و«السلام»!
بدأ هذه الحقبة في عهد الرئيس أنور السادات ولعلّ أكثر وسيلة موضوعية لتقدير «إنجازاته» هي ذكر ما أدلى به السادات بحماس كبير كموجز «لإنجازاته» وذلك في خطاب في مجلس الشعب عام 1981 قال فيه نصاً: «سبعين حراسات، واحد وسبعين مراكز القوى والدستور، اتنين وسبعين الخبراء السوفيت، تلاتة وسبعين معركة أكتوبر، أربعة وسبعين الانفتاح، خمسة وسبعين افتتاح قناة السويس، ستة وسبعين إلغاء المعاهدة السوفيتية المصرية ،سبعة وسبعين المبادرة، تمانية وسبعين كامب دافيد، تسعة وسبعين المعاهدة و80 في المية من سينا وعودة الحياة الطبيعية، اربعتاشر مايو تمانين إلغاء الأحكام العرفية».. تصفيق حاد .. 6 .
الجدير بالذكر أنّ السادات حصل مع مناحيم بيجن على جائزة نوبل للسلام 1978 تقديراً لبعض إنجازاته التي ذكرها.
امتدت حقبة «الانفتاح» و«السلام» حوالى خمسة عقود وأحسب أنها ستستمر فترة أخرى من الزمن. وتميزت هذه المرحلة بغياب أهداف مدروسة وواضحة من أجل التنمية الاقتصادية. فإذا تساءلنا ماهي الأهداف التي تجمع المصريين اليوم، عدا الانتصار في كرة القدم، تكون الإجابة في الغالب شخصية، محورها تحسين الأحوال المعيشية انتشرت نكتة في بداية الانفتاح مؤداها أنّ مصري سؤل يوم الحساب ما إذا كان يفضل الجنة أو النار فقال أروح الكويت .أما إذا طرحنا نفس التساؤل في حقبة الملك فاروق فيكون الرد سريعاً ومن دون تردُّد: الجلاء وتحرير مصر من الاستعمار البريطاني، القضاء على حكم الملك الفاسد، القضاء على العصابات الصهيونية في فلسطين، بالإضافة إلى القضاء على «الفقر والجهل والمرض». أما في الحقبة الناصرية فكان بناء السدّ العإلى وبناء الصرح الصناعي والتوسُّع وتحرير فلسطين والوحدة العربية وتحدي الاستعمار في الجزائر ودعم أفريقيا من أجل الاستقلال. أما في الحقبة الساداتية والمباركية فقد تقلصت الآمال المشتركة إلى أهداف شخصية بحتة وضيقة والآن أصبح الهدف المشترك هو محاربة الإرهاب من دون مشاركة قوية شعبية وثقافية.
تداعيات «الانفتاح» و«السلام» في مصر
كما أكدت سابقاً إنّ سياسات «الانفتاح» و«السلام» توأمان لا ينفصلان، وبالتالي يستحيل الفصل بينهما كما أنّ تداعياتهما متشابكة. ليس من المنطق أن نتوقع أنّ العدو الصهيموني سيوقع معاهدة مع مصر تسمح لها بمشروع نهضوي جاد، بل على العكس تماماً، كان من الضروري من وجهة نظر الأعداء ربط اقتصاد مصر بالعولمة الليبرالية وإغراق مصر بالديون التي تعلمنا منذ الصغر أنها كانت الذريعة لاحتلال مصر عام 1882. كان لا بدّ من خلق طبقة من عملاء الشركات العملاقة العالمية ونشر النمط الاستهلاكي.
إنّ الفصل بين ما هو اقتصادي وسياسي واجتماعي وسلوكي هو فصل تعسُّفي كما أنّ الجمع بين هذه العناصر دون الاهتمام بنتائج تفاعلها يفقدنا الخواص والظواهر الناجمة من هذا التناغم.
إنّ ظاهرة صعود النيوليبرالية في المرحلة الحالية في كافة المجالات سواء الاقتصادية والسياسية هي ظاهرة منطقية. الليبرالية الجديدة هي في الأساس منهج اتباع قوى السوق والاعتماد على قطرات الثروة حتى تنساب من الأغنياء للفقراء والتي يطول انتظارها من دون جدوى. ويتلازم مع هذا تقليص أو إلغاء دور الدولة في التخطيط وتوزيع الثروة. أما في المجال السياسي فهذا المنهج يصاحبه التراجع عن مفهوم السيادة الوطنية. إذا كان الأمر كذلك، فلمَ الاندهاش من تبعات هذه السياسات؟ مزيد من التبعية لقوى الهيمنة والتراجع الوطني وشراهة استهلاك الطبقات القادرة واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء ما يهدّد السلم الاجتماعي. إنّ غياب الأهداف المشتركة يضعِف الانتماء القومي ويساهم في تفتيت المجتمع وإضعافه.
إنّ لغياب الأهداف المشتركة دلالات هامة بل خطيرة. فأي مجتمع يفقد ذاته بتخليه عن أهدافه القومية سواء السياسية أو الاقتصادية، تنتفي أهدافه المشتركة وتصبح أهدافاً شخصية محضة. نلاحظ كيف يستيقظ المجتمع عندما يواجه أزمة كبيرة مثل زلزال مدمِّر أو عدوان خارجي. لقد رأينا الزخم في المجتمع الأميركي عندما شعر بتخلفه بعد إطلاق الاتحاد السوفياتي «سبوتنك» وانطلقت الرغبة في تحقيق قفزة علمية أميركية. رأينا أيضاً الشعب المصري يرفض هزيمة 67 بخروجه معلناً «حنحارب». وقد برعت أميركا في خلق عدوّ حتى، وإن كان عدواً وهمياً، لإبقاء حماس المجتمع وتخوفه ما يبقي على تماسك المجتمع.
من الواضح أنّ قوى الهيمنة تسعى سعياً حثيثاً إلى تفتيت المجتمع وتراجع الانتماء القومي وليس فقط تقسيم الدول. هناك نموذج علمي ربما يوضح ذلك. فقطرة الماء تحتوي على عدد مهول من جزيئات الماء حوالى عشرة آلاف بليون بليون أو 22 صفر بجانب الواحد . ماذا يحدث إذا فصلنا مكونات قطرة الماء عن بعضها بحيث لا تكون هناك حصيلة قوى تجاذب بينها؟ تنتفي تماماً صفات الماء كمادة لها سيولة ولزوجة وكثافة وتوتر سطحي وضغط بخاري ودرجة غليان وانصهار إلخ، رغم أنّ الجزيئات هي نفسها جزيئات الماء والتي تحتفظ بصفات محدّدة لا تتغير من حيث كتلتها وشكلها إلخ… ورغم أنّ الإنسان ليس جزيئاً فهو فرد له صفاته التي تختلف وتتفق مع الآخرين ولكنه وحده يفتقد لصفات المجتمع. فعندما يحدث التفتيت تختفي صفات المجتمع ويصبح مجموعة هائلة من البشر تشغل البقعة نفسها من الأرض.
يمكن القول إنّ من أهم نتائج «السلام» و«الانفتاح» تراجع الحسّ الوطني بل تراجع القضايا الوطنية في أهميتها وأولويتها. لقد فقدت مصر الكثير من استقلالها وسيادتها رغم غياب جنود الاستعمار في مدنها ما يدعو إلى القول «إنّ الكولونيل البريطاني قد رحل ولكن جاء كولونل ساندرز الأميركي صاحب كنتاكي . لقد أصبحت الوطنية وجهة نظر وأصبح التعليم والعناية الصحية والإعلام والرياضة سلعاً وحتى الوطن أصبح سلعة.
تداعيات اقتصادية ـ سياسية
التركيز على القطاعات غير الإنتاجية، اتساع كبير في الفجوة بين الفقراء والأغنياء، زيادة كبيرة في النمط الاستهلاكي، خصوصاً السلع غير الأساسية المستوردة، انخفاض الادّخار، ارتفاع معدل البطالة، خصخصة شركات القطاع العام وارتباط ذلك بالفساد، تشجيع الاستثمارات الأجنبية بطبيعتها الانتهازية وقدراتها في نهب الثروة، عدم الاكتراث بالقضايا العامة والوطنية، تبرير السلام مع «إسرائيل» والارتماء في أحضان الغرب، تراجع الخدمات الصحية، إطلاق الفساد وتشجيع الجشع رسمياً مقولة السادات عربية عشرة متر بس يدفع الضرائب فجاب العربية ولم يدفع الضريبة .
تدهور التعليم في كافة المراحل بما في ذلك الجامعات. تفاعلت التطلعات الاقتصادية التي غذاها الانفتاح مع الفوضى السياسية وعدم الاكتراث بالنتائج فأطلقت الجامعات إعارات الأساتذة لجامعات دول الخليج فكان ذلك عاملاً أساسياً في تدهور مستوى الأساتذة. فالأستاذ الذي لا يقوم ببحث واحد لمدة ستة أو سبعة سنوات تنتفي خبرته البحثية بحسب الدراسات كأنه لم يحصل على الدكتوراه كما أنه يعود من الإعارة وقد ادّخر قدراً من المال يستخدمه في مشروع اقتصادي فأصبح تاجراً قد يمتلك «بوتيك» للملابس النسائية، أوسوبر ماركت، وبالطبع يتمكن من شراء شقة تتناسب مع مركزه الاجتماعي الجديد. ماهو أخطر من كل ذلك أنه يعود محملاً بدرجات متفاوتة من الفكر الوهّابي.
تراجعت قيمة التعليم والثقافة ودور ذلك في الترقية الاجتماعية فأصبح الثراء القيمة السائدة بصرف النظر عن طرق الثراء بل أصبح الالتزام بالأخلاق والصدق والأمانة قيماً خشبية، وحلت محلها قيم «الحداقة» و«الفهلوة» والنصب كقيم ترمز لـ«الشطارة».
دراسة مقدمة للمؤتمر الاقتصادي الأول: نحو رؤية اقتصادية وطنية لسورية المستقبل نوفمبر 2017
أستاذ الكيمياء الفيزيائية بجامعة الإسكندرية وجامعة ولاية ميشيغان سابقاً
————–
المراجع
1 – Morsy,Soheir A,1988 «Islamic Clinics in Egypt,The Cultural Elaborationof Biomedical
Hegemony».Medical Anthropology Quarterly,2 4 ,355- 369
Delwin Roy,1985 «Restructuring the Political Economy of Egypt: Ford Foundation
2 – Economic Policy in the 1970s journal of South Asiaand Middle Eastern Studies 9 2 :20
3 – الانفتاح الاقتصادي…حصاد مر…لسياسة غير وطنية طاهر عبد- الحكيم 1979 الرئيس أنور السادات نص الخطاب منشور بالأهرام 29 مارس 1979
4 – إيريك دافيز،Eric Davis ترجمة هشام سليمان عبد الغفار: طلعت حرب وتحدي الاستعمار دور بنك مصر في التصنيع 1920-1941 مكتبة الشروق الدولية 2009
5 – شهداء ثورة 1919، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر
6 – من خطاب السادات أمام مجلس الشعب عام 1981