استراتيجية الأمن القومي الأميركي: إثارة الرعب وصناعة الحروب 2
رضا حرب
في الجزء الأول ألقينا الضوء على فهم إدارة ترامب للتهديدات والتحديات من خمس جهات رئيسية وهي روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية والإرهاب، وأعطت الركيزة الأولى حيّزاً واسعاً للإرهاب والخطوات اللازمة لمواجهته في مناطق تواجده وفي المنبع، والإجراءات اللازمة لحماية الثلاثي الأميركي، الشعب والأرض وطريقة الحياة.
الركيزة الثانية تعزيز الازدهار الأميركي
تعطي الركيزة الثانية، تعزيز الازدهار الأميركي، التهديدات والتحديات الاقتصادية ومواجهتها وفق فرضية ترامب الاقتصادية – الأمنية «أمن اقتصادي يعني أمن قومي». ومع انّ الوثيقة حدّدت بالاسم خمس جهات هي روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران والإرهاب خصوصاً التنظيمات الجهادية، إلا أنّ الوثيقة لم توفر الحلفاء والشركاء غير الملتزمين بالتبادل التجاري «العادل». الدعوة الملغومة لإجراء اتفاقيات ثنائية وإلى مراجعة وتحديث الاتفاقيات الموقعة فسّرها المراقبون على أنها تنذر بحرب تجارية واسعة، أكدها ترامب في إحدى تغريداته «الحروب التجارية جيدة ومن السهل كسبها». وللدلالة على جدية إدارة ترامب تنفيذ ما جاء في الوثيقة بدأ حروبه التجارية بفرض ضريبة جمركية 25 على الصلب و10 على الالومينيوم التي أثارت حفيظة الاتحاد الأوروبي الذي بدوره هدّد بردّ مناسب.
ولا ينسى فريق مكماستر وعلى رأسه كاتبة نص الوثيقة ناديا شادلو الإشارة إلى أهمية الاقتصاد في بناء القدرات العسكرية كما تشير الوثيقة «اقتصاد متنامٍ ومبدع يسمح للولايات المتحدة بأن تحافظ على قدراتها كأقوى قوة عسكرية في العالم وأن تحمي أرض الوطن». وللتعريف بكاتبة الوثيقة، ناديا شادلو هي مؤلفة كتاب «الحرب وفن الحكم» وإحدى المتحمّسين لاستخدام القوة لترسيخ نظام سياسي يخدم المصالح الأميركية، فتؤكد «الخطوات اللازمة لترسيخ نظام سياسي جديد ليست منفصلة عن الحرب».
لتعزيز الازدهار الأميركي، تدفع الاستراتيجية للعمل على مسارين، الأول داخلي لمعالجة النمو الاقتصادي، والركود في الأجور، وإطلاق العنان للطاقة الكامنة لدى الأميركيين، وتحسين البنى التحتية خصوصاً المتعلقة بإنتاج وتصدير الغاز، والحدّ من القوانين المفرطة التي أعاقت التجارة الأميركية في مجال الطاقة والتخلص من القوانين البيئية التي أعاقت الإنتاج والتجارة في مجال الطاقة والمستهدف في هذا الجانب هي روسيا. والمسار الثاني خارجي يستعرض الخلل في الميزان التجاري والتصدّي للتجارة غير العادلة ومساعدة الدول على مكافحة الفساد ومكافحة إغراق السوق ومواجهة سياسة التمييز الجمركي والرقابة على انتقال التكنولوجيا والحدّ من الدعم الصناعي الذي يحدّ من قدرة الشركات الأميركية على المنافسة. لتحقيق ما سبق، هدّدت الولايات المتحدة بإعادة النظر بالاتفاقيات الموجودة كي تتوافق مع مبادئ السوق الحرة والتجارة العادلة، ولا يخلو هذا الجانب من التهديد باستخدام جميع الوسائل المناسبة من التفاوض إلى أدوات الفرض، ولأنّ الشيطان في التفاصيل لم تحدّد الوثيقة أدوات «الفرض» لعلها قابلة للتأويل في حال تراجع ترامب، وبغضّ النظر عن الأدوات والتهديدات المتبادلة مع الاتحاد الأوروبي ، مجرد الإيحاء بإعادة النظر لاتفاقيات الشراكة خلقت نوعاً من انعدام الثقة بإدارة ترامب لكنها لن تؤدّي لتحوّلات جوهرية في العلاقات بين طرفي الأطلسي نظراً للتوتر الأوروبي في فهم استراتيجية روسيا الأوراسية.
وجاء في الوثيقة انّ الصين تسرق كلّ سنة ملكيات فكرية وأفكاراً في مراحلها المبكرة تُقدّر بمئات المليارات. وللحدّ من هذه النشاطات ايّاً كان المصدر، ستبحث عن آليات قانونية وتنظيمية لمقاضاة منتهكي الملكية الفكرية.
الجانب الظلامي في الوثيقة يتحدث عن وضع قيود جديدة على التأشيرات لطلبة من دول محددة يرغبون بالالتحاق بالجامعات الأميركية في أربعة تخصصات هي العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. مع انّ الوثيقة لم تسمِّ الدول ليس من الصعب معرفتها لا سيما الصين المتهمة بسرقة الملكيات الفكرية. هذه العقلية المسرفة في التعالي تعتقد انّ العبقرية حكراً عليهم والعالم الآخر أغبياء ولصوص.
الركيزة الثالثة حفظ السلام من خلال القوة
أشرنا في مقدمة الجزء الأول الى التعريف العام للقوات الأميركية «التمتع بقدرات عسكرية تتفوّق على ايّ دولة أجنبية او مجموعة من الدول» كما انّ فرضية «الحفاظ على السلام من خلال القوة» لم تعد تنطلي على أحد لا سيما انّ الغرب الاستعماري استخدمها لتبرير حروبه.
في بداية هذه الركيزة تطرح كاتبتها ناديا شادلو رؤيتها الخاصة للتحديات التي تواجهها الولايات المتحدة لإثارة خوف الرأي العام الأميركي لتبرير أيّ قرار تتخذه هذه الإدارة من المجانين والكلاب المسعورة بعد طرد آخر عاقل فيها بطريقة مهينة ومشينة. انطلقت في طرح فكرتين، الأولى «الاستمرارية المركزية في التاريخ هي المنافسة على القوة»، والثانية «المنافسة في الأساس بين أولئك الذين يفضلون أنظمة قمعية والذين يفضلون مجتمعات حرة». خطان متوازيان لا يلتقيان، وإذا التقيا نتيجة لتحوّل ايّ من الخطين لمساره يحدث الصدام، المواجهة لأنّ القوة هي العامل الحاسم في التاريخ.
في هذا الجزء المهمّ من الوثيقة تتجلى لغة الغطرسة والقوة والتسلط. العالم يجب ان يخضع للنفوذ الأميركي وايّ منافسة لنفوذها تحدّ لقيمها «المقدّسة» كونها «قوة خير». وايّ نظام ديمقراطي حقيقي ليس على القياس الأميركي «ليس ديمقراطيأً»، وكأنّ حلفاءها في المنطقة العربية خصوصاً أنظمة «الخوف»، معاقل للديمقراطية. اتهامها لإيران برعاية «الإرهاب» أسخف من ان يُردّ عليه.
نلاحظ انّ وثيقة الأمن القومي قسّمت الخصوم الخمسة الى ثلاث مجموعات تتحدّى قوة ونفوذ ومصالح الولايات المتحدة وكلّ مجموعة بحسب طبيعتها وقدراتها.
روسيا والصين: بما انّ الصراع جيوسياسي، تسعى هذه المجموعة الى «تشكيل عالم يتناقض مع القيم والمصالح الأميركية»، وتعمل على إزاحة «الأفضلية الجيوسياسية» التي تتمتع فيها الولايات المتحدة لإقامة نظام عالمي جديد. طموحات وتنامي قدرات روسيا العسكرية بما فيها النووية، والتدخل في الشئون الداخلية لدول العالم يولد «عدم استقرار حدودي في أوراسيا». هذه السياسة الروسية ترفع من وتيرة المواجهة نتيجة لحسابات خاطئة. الصين من جهتها تسعى الى نشر نظامها «الشمولي» بما فيه الفساد، وتعمل للسيطرة على منطقة النفوذ الأميركي بلا منازع وهي منطقة «الهندي الباسيفيكي» التي تشكل منطقة توتر دائم نتيجة للشعور الأميركي من التقدّم الصيني. مشروع روسيا الأوراسي معلن، والمشروع الصيني للسيادة على «بحر جنوب الصين» معلن. الغير معلن هو النفاق الأميركي. روسيا تريد حماية أمنها القومي من التمدّد الأميركي والصين تريد حلاً سياسياً من خلال مفاوضات ثنائية ترفضه أميركا وتحرّض على قيام تحالفات لإجراء مفاوضات جماعية. الحقيقة انّ الولايات المتحدة متخوّفة من ظهور وضع راهن جديد يفرض عليها الاعتراف بعالم متعدّد الأقطاب فتقيس النتائج بالربح او الخسارة، ايّ لا مكان لأحد يشاركها إدارة شؤون العالم.
إيران وكوريا الشمالية: إيران متهمة بدعم الإرهاب وتطور برنامجها البالستي الذي يهدّد شركاء الولايات المتحدة. حلال على أميركا حرام على إيران. التهمة لإيران لإبعاد الشبهة عن حليفتها «امّ الإرهاب» ولإيهام الشعب الأميركي وشعوب العالم بأنها تحارب الإرهاب الوهابي مع انّ التقارير تؤكد العكس.
كوريا الشمالية من جهتها تعمل على تطوير برنامجها النووي الذي يشكل تهديداً للولايات المتحدة وحلفائها كوريا الجنوبية واليابان ، لذا يتوجب تفكيك البرنامج النووي الكوري وإلا «كلما ساءت التهديدات، قلت خياراتنا الدفاعية».
التنظيمات الإرهابية الجهادية: تقول الوثيقة انّ الولايات المتحدة تخوض حرباً طويلة ضدّ المنظمات الإرهابية الجهادية كالقاعدة وداعش وانها هزمتهما في سورية والعراق. هذه الكذبة الكبرى أطلقها ترامب قبل عدة أشهر.
لمواجهة الصراعات والنزاعات الجيوسياسة، على الولايات المتحدة إعادة النظر في استراتيجيتها المتبعة من التسعينات من القرن الماضي التي أنتجت «استياءً استراتيجياً»، كي يدرك خصومها لا سيما روسيا أنّ أيّ حسابات خاطئة ستكون مكلفة، وكي تحافظ على الوضع الراهن نظام القطب الواحد وعلى تفوّقها، على الولايات المتحدة العمل الجدي على ستة مستويات.
المستوى العسكري: لأنّ حلفاء الولايات المتحدة من دول وتنظيمات إرهابية فشلوا في تحقيق أهدافها في حروب الوكلاء واستباقاً لهزيمتها الكبرى، من الواضح أنها تبحث عن بدائل. يظنّ دعاة الحرب انّ تعزيز وجودها في مناطق النزاعات والانخراط المباشر في حروب المنطقة يتطلب:
1 ـ رفع عديد القوات الأميركية كي تكون مستعدّة للحروب الكبرى، وكي تكون قادرة على توفير قوات ميدانية قادرة على خوض سلسلة من النزاعات على أكثر من جبهة، ومُعدّة للقتال لفترات زمنية كافية لإلحاق الهزيمة بالأعداء عبر مجموعة من السيناريوات، وتعزيز المكاسب العسكرية، وتحقيق النتائج المستدامة».
2 ـ الحفاظ على كفاءة القوات الأميركية في الحرب غير النظامية، الأمر الذي يتطلب التخطيط لفترات طويلة.
3 ـ تحديث وتطوير الترسانة النووية – الثالوث النووي الصواريخ الباليستية العابرة للقارات ICBMs والقاذفات الاستراتيجية والصواريخ الباليستية التي تطلق من الغواصات SLBMs ، لردع الأعداء عن القيام بأيّ عمل عسكري نووي او استراتيجي غير نووي او تقليدي واسع النطاق. هذا يعني انّ استراتيجية استخدام السلاح النووي في الحروب التقليدية قائمة.
4 ـ عدم الخوف من التصعيد في حال قرّر أعداء الولايات المتحدة فرض شروطهم من خلال التهديد النووي.
المستوى الفضائي: بما انّ هناك دولاً تعمل على شراء أقمار صناعية لتعزيز قدراتها العسكرية الاستراتيجية وتعمل على إنتاج أسلحة ضدّ الأقمار الصناعية، قرّرت الولايات المتحدة اتخاذ إجراءات جديدة لحماية أمنها القومي ومصالحها:
1 ـ الردّ على أيّ عمل تخريبي او هجوم على قدراتها الفضائية.
2 ـ إعادة النظر في الاستراتيجية الفضائية للحفاظ على تفوّقها في الفضاء.
3 ـ الأخذ بعين الاعتبار توسيع مفهوم «حماية الأمن القومي» ليشمل القطاع الخاص.
المستوى السيبراني: استخدام الفضاء السيبراني كسلاح غير مكلف وبالتالي يمكن اعتباره سلاح الفقراء، أضف إلى ذلك أنه فعّال جداً وانْ كان لفترات قصيرة. لمواجهة التهديدات السيبرانية ستعمل حكومة ترامب على:
1 ـ الاستثمار في القدرات السيبرانية لصدّ الهجمات السيبرانية والاستجابة السريعة، وحماية الأصول الحكومية والبنى التحتية، وسلامة البيانات والمعلومات من القرصنة.
2 ـ توظيف وتدريب الوزارات والوكالات الأميركية قوة عاملة قادرة على العمل عبر هذا الطيف من النشاط بما فيها عمليات سيبرانية ضدّ الأعداء على النحو المطلوب.
المستوى الاستخباراتي: عالم الاستخبارات يختلف كلياً عن العالم الذي نراه ونعرفه خصوصاً المخابرات الأميركية التي مارست وتمارس الخطف والاغتيالات والانقلابات ضدّ حكومات منتخبة والتعذيب في سجون سرية. جينا هاسبل، مرشحة ترامب لرئاسة وكالة المخابرات المركزية، أشرفت بنفسها على تعذيب مشتبه فيهم بعلاقتهم بالقاعدة عندما كانت تدير سجن سري في تايلاند «عين القط».
على صعيد هذا المستوى، ما جاء في الوثيقة حول دور أجهزة الاستخبارات في جمع وتحليل المعلومات لتحديد التحوّلات الجيوستراتيجية وآثارها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية على الولايات المتحدة والاستجابة لها، وأن تقوم بشكل متواصل الحصول على معلومات ذات قيمة استراتيجية، هي من المهامّ المناطة بأجهزة الاستخبارات الأميركية وغير الأميركية، ايّ ليس هناك من جديد سوى الدعوة العلنية لأجهزة الاستخبارات الأميركية اختراق أجهزة الدول الأخرى للحصول على معلومات سرية إما بزراعة عملاء او القرصنة. في عالم الاستخبارات، الولايات المتحدة تتجسّس على الجميع، أعداء ومنافسين وحلفاء، لا توفر أحدا. كلنا نتذكر فضيحة تجسّس وكالة الأمن القومي الأميركية على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
المستوى الدبلوماسي: وفق الوثيقة، البعثات الدبلوماسية تُمثل «القدرات السياسية المتقدمة» للولايات المتحدة، وبالتالي هي الأقرب الى مناطق التوتر والنزاعات، وهي الأعلم والأقدر على تحديد الأسباب والعمل على إيجاد حلول للصراعات. ويجب أن يتمتعوا بالقدرة على بناء علاقات والمحافظة عليها حيث تكون مصالح الولايات المتحدة على المحك، وان يتمتعوا بالمرونة والقدرة على تحديد فرص التعاون وتعزيز المصالح المشتركة. كلّ ما تقدّم يبدو أكثر من طبيعي بل مثالي وفي إطار الاتفاقيات الدولية التي تنظم العلاقات الدبلوماسية والقنصلية اتفاقية فيينا . لكن هل يقتصر دور السفارات والقنصليات على العمل الدبلوماسي؟
في الجزء المتعلق بالمستوى الاستخباراتي أشرنا الى دور أجهزة الاستخبارات في جمع وتحليل المعلومات، لكن ماذا تعني «تحليل المعلومات المستمدة من عدة مصادر بما فيها الحقل الدبلوماسي؟» وماذا يعني «تأمين وسائل آمنة للاتصال والتفاعل مع المواطنين المحليين؟» لا تحتاج الإجابة على السؤالين إلى عبقرية. السفارات الأميركية وكر للجاسوسية والجواسيس، وأفراد البعثات الدبلوماسية مرتبطون بشكل او بآخر بأجهزة الاستخبارات ويعملون بتوجيهات منها على تجنيد عملاء وجواسيس للوصول إلى معلومات وصفتها الوثيقة «ذات قيمة استراتيجية».
ثم تأتي الوثيقة على أهمية «الدبلوماسية الاقتصادية» وهي شكل من أشكال الدبلوماسية لكنها تستخدم أدوات اقتصادية لتحقيق المصالح الوطنية، وتشمل المساعدات الخارجية إحدى أهمّ أدوات الابتزاز الأميركي ، والسياسة الاقتصادية والتجارية، والعقوبات الاقتصادية وهي إحدى أسهل أدوات العقاب الجماعي.
المستوى المعلوماتي: تتهم الوثيقة منافسي أميركا بأسلحة المعلومات، ايّ انّ المعلومات باتت السلاح المُستخدم في الصراعات. لم يعد الصراع من أجل الوصول الى المعلومات فقط، بل باتت المعلومات سلاح تخريبي بما فيها نشر المعلومات الخاطئة والتضليل، ولتقويض القيم الأميركية، والمؤسسات التي ترتكز عليها المجتمعات الحرة، وللتأثير على الرأي العام العالمي.
الركيزة الرابعة تعزيز النفوذ الأميركي
رغم تراجع نفوذها نتيجة لسلوكها، لا زالت الولايات المتحدة تعيش أوهام تفوّق قيَمها وأنها القدوة التي يتطلع العالم اليها. المثاليات سلعة يسهل ترويجها «لا يمكن أن يكون هناك تكافؤ أخلاقي بين الدول التي تدعم سيادة القانون، وتمكّن المرأة، وتحترم الحقوق الفردية وتلك التي تقمع شعوبها»، لكن من السهل جداً كشف زيفها. أين موقع حلفاء الولايات المتحدة، السعودية والبحرين، في هذه المقارنة؟
تعترف الوثيقة انّ النفوذ الأميركي في حالة تراجع، لذلك يأتي تعزيز النفوذ أولوية قصوى في استراتيجية «الأمن القومي – أميركا أولاً» لأكثر من سبب… في مقدّمتها انّ النفوذ يعتبر أحد أوجه القوة. بغضّ النظر عن الادّعاءات، نفوذها لا علاقة له بكلّ «المثاليات» التي جاءت في الوثيقة، بل لأسباب حيوسياسية، وبغضّ النظر عن لون المنافسة والصراع، البُعد الجيوسياسي يفرض نفسه وبالتالي اللجوء الى القوة العامل الحاسم.
الولايات المتحدة قلقة على نفوذها من المنافسة الصينية بالتحديد لأنّ حجم النمو الصيني أربعة أضعاف النمو الأميركي، والاحتياط المالي الصيني ضخم يسمح لها باستثمار مئات البلايين على امتداد الأرض، وهو ما يعزّز نفوذها ويفرض معادلة «ايّ تقدّم صيني يعني تراجعاً أميركياً، والعكس صحيح». والمعادلة نفسها تفرض نفسها على المنافسة الروسية ـ الأميركية. روسيا تتقدّم في شرق البحر المتوسط بعد ان حسمت قضية شبه جزيرة القرم. الولايات المتحدة تتراجع أمام التقدم الروسي ويبدو أنها متردّدة في اختبار جدية بوتين. ومن هذا المنطلق تعمل على إعادة تنظيم علاقاتها حتى مع أقرب حلفائها وعلى إعادة تنظيم جهودها من خلال ثلاثة مستويات:
1 ـ تشجيع الشركاء الطموحين: هذا المستوى يدفع بتعزيز الشراكة التجارية مع الدول النامية والهشة. اللافت انّ الوثيقة في هذا الشق تتحدّث عن الإصلاحات في الدول الهشة والدور الذي يجب أن تلعبه الولايات المتحدة. كما يدعو هذا الشقّ الى تحفيز الشركات الأميركية على إيجاد فرص للاستثمار والمنافسة على إيجاد أسواق للبضائع الأميركية.
2 ـ تحقيق نتائج أفضل في المنتديات المتعدّدة الأطراف: يدعو الى المشاركة الفاعلة في المنتديات المتعددة الجنسيات حيث المنافسة على النفوذ.
3 ـ نصرة القيم الأميركية: في هذا الشقّ «الولايات المتحدة ستقف دوماً مع الشعوب التي تطمح إلى الحرية». منذ سبع سنوات يطمح الشعب البحريني إلى الحرية، لكن الولايات المتحدة قرّرت أن لا ترى ما يجري من انتهاكات مروّعة لحقوق الإنسان يمارسها النظام، كالتعذيب في المعتقلات والإعدامات وسحب الجنسية من مواطنين أصيلين «النظام يريد تغيير الشعب»، لأنّ الكيان الصهيوني راض جداً على النظام القمعي لآل خليفة. الواقع يؤكد انّ «القيم الأميركية» كذبة كبرى لأنها ليست المعيار.
من الملاحظ انّ كلّ مستوى يغطي حيّزاً واسعاً من النشاطات ذات الأهداف الجيوسياسية.
الاستراتيجية في سياق إقليمي
هذا الجانب الأهمّ من «استراتيجية الأمن القومي – أميركا اولاً» تستدعي مقاربات إقليمية مختلفة وفقاً لطبيعة التهديدات والمنافسات، لذا قسّمت العالم إلى ستّ مناطق، الهندي – الباسيفيكي، أوروبا، الشرق الأوسط، جنوب ووسط آسيا، والنصف الغربي للكرة الأرضية، وأخيراً أفريقيا. ومع انّ الترتيب لا يشير الى نفس ترتيب الأولويات إلا انّ منطقة الهندي – الباسيفيكي لها الأولوية القصوى نظراً لحجم المنافسة.
يفهم القارئ للوثيقة انّ الولايات المتحدة أدركت تراجع نفوذها وانّ موازين القوى الإقليمية تتغيّر لصالح منافسيها. روسيا لن تسمح بمحاصرتها من البر والبحر خصوصاً البحر الأسود والصين تتقدّم ليس على المستويين الاقتصادي والعسكري فقط، بل على المستوى الثقافي أيضاً. معظم المدارس الخاصة في جنوب شرق آسيا تدرّس اللغة الصينية الى جانب اللغة الوطنية واللغة الانجليزية.
ترى الوثيقة انّ الاستثمارات الصينية في البنى التحتية تعزز من طموحاتها الجيوسياسية، وعسكرة الجزر الصناعية في بحر جنوب الصين قد يحدّ من حرية الولايات المتحدة الوصول الى المنطقة، فضلاً عن تعزيز موقعها الجيوسياسي في أوروبا ومناطق أخرى من خلال استثماراتها في الصناعات الرئيسية والتكنولوجيا الحساسة والبنى التحتية. الحقيقة انّ طريق الحرير الجديد يختصر الوقت ويقلّل التكاليف سيغزو أوروبا بالبضائع ويعزّز من نفوذها في أوروبا ودول الترانزيت. وروسيا من جهتها، تتخذ تدابير تخريبية لإضعاف مصداقية التزام أميركا تجاه أوروبا، وتعمل على تقويض الوحدة عبر الأطلسي، وإضعاف المؤسسات والحكومات الأوروبية، وتواصل تهديد جيرانها من خلال العقيدة النووية ونشرها لقدراتها الهجومية. كلّ ما سبق يوحي وكأن أوروبا بالتحديد عبارة عن دول مراهقة لا تدرك ما يجري فيها ومن حولها.
أما في ما يتعلق بالشرق الاوسط لديها رؤية لشرق أوسط حديث. كلّ مشاكل الشرق الأوسط سببها إيران، والإرهاب الوهابي الذي يستهدف الشيعة بالأخصّ تدعمه إيران رغم دورها الإيجابي الكبير في هزيمة الإرهاب في العراق وسورية باعتراف الحكومتين. يبدو انّ «عقدة إيران» مستفحلة في إدارة ترامب، لا حلول سياسية او اقتصادية او عسكرية، بل علاج نفسي.
ماذا تريد الولايات المتحدة تحقيقه في منطقة «الشرق الأوسط»؟ تجيب الوثيقة، من خلال تجديد الشراكة مع «الدول ذات التوجه الإصلاحي» وتشجيع التعاون بين الشركاء في المنطقة، يمكن للولايات المتحدة تعزيز الاستقرار والحفاظ على توازن قوى يخدم المصالح الأميركية. «الدول ذات التوجه الإصلاحي» في المنطقة هي نفسها أنظمة الرعب.
القضية الفلسطينية التي هي أصل كلّ أسباب الصراعات وعدم استقرار المنطقة، ورغم مرور 70 عام على معاناة الشعب الفلسطيني جاء ذِكر القضية الفلسطينية مرة بجملة واحدة «نحن ملتزمون بتسهيل اتفاق سلام شامل يقبله الطرفان، الإسرائيلي والفلسطيني».» تمخض ترامب فولد فأراً.» تعتقد إدارة ترامب انّ تنازل أنظمة الخوف عن فلسطين وتحالفاتهم مع الكيان الصهيوني تنهي القضية، او هكذا اوهموه.
الخلاصة
تقوم استراتيجية الأمن القومي – أميركا اولاً على التعبئة بدون مبرّر موضوعي، وعلى الاستنفار الدائم، لإثارة الرعب وصناعة الحروب. نصت الوثيقة على مجموعة من مبرّرات الحرب وتركت باباً مفتوحاً للتفاوض والتعاون لكن بشروط من موقع القوة، ايّ أنها تضع الخصوم أمام خيارين، خيار التفاوض والتعاون بالشروط الأميركية وخيار الحرب بالشروط الأميركية أيضاً. هذا للتأكيد على انّ السلام هدف أميركي نهائي لكن ايّ سلام؟ السلام بالقوة المفروض ، وليس سلام القوة الردع المتبادل . في النتيجة، تصرّ كاتبة الوثيقة على تذكيرنا بأنّ «هذه الاستراتيجية تسترشد بالواقعية المبدئية. إنها واقعية لأنها تعترف بالدور المركزي للقوة في السياسة الدولية». بمعنى آخر، بما انّ الواقعية تعني التعاطي مع الواقع كما هو، وبما انّ العالم غير مستقرّ، وبما انّ القوة هي نهاية العمل السياسي تصبح القوة هي العامل الحاسم. السؤال المطروح، هل يشعل ترامب الحروب في العالم، خصوصاً الشرق الاوسط، وضدّ من، سورية او إيران او حزب الله؟
«الانفعال» واضح لأنّ الولايات المتحدة رغم تفوّقها العسكري والاقتصادي والتكنولوجي وجدت نفسها في موقع «الدفاع» وهذا بالطبع نتيجة لسلوكها واتساع رقعة العداء لها، فالعودة إلى موقع «الهجوم» سيكون مكلفاً جداً. وفي هذا السياق لا بدّ من الإشارة الى طبيعة ترامب «يرفع سقف التهديدات وكلّ الخيارات على الطاولة إلا انه يتراجع أمام تصعيد الطرف الآخر». على أيّ حال، ترامب كما وصفه الكاتب المعروف ديفيد اغناتيوس «الشخصية الكرتونية الذئب الكويوتي كلما أشعل إصبع ديناميت انفجر بيده ثم يصطدم بالحائط» باللهجة اللبنانية يفوت بالحيط ، فهل تنفجّر حروبه بوجهه؟
المركز الدولي للدراسات الأمنية والجيوسياسية