سَلُوا التاريخَ يشهد..

نسرين بلوط

كثيرٌ من النساء وحتى الرجال كتبوا عن دور المرأة الإيجابي في تحصين خطى الرجل، وتأصيل الجِذْم الذي نشأ عنه أو منه، ولكننا في مجتمعنا قد نغضّ الطرف عن الدور السلبي الذي تلعبه «بعض النساء» في حياة البعض من الرجال، ولنأخذ على سبيل المثال العظماء.

نبدأ من فريدريك نيتشه، الفيلسوف الألماني الذي وضع حجر الأساس على جينالوجيا الأخلاق، فقد تبدّلت حياته رأساً على عقب عندما التقى بالشاعرة الروسية سالومي. ولكنّه بوغت عندما اكتشف أن صديقه يحبها أيضاً وأنها تتلاعب بمشاعر الإثنين معاً. وبعد أن خسرها وخسر صديقه ولد كتابه، وهو أجمل ما دوّن: «هكذا تكلّم زرادشت»، ومشى كالحفاة على الحصى الثقيلة الموجعة، على بساط العشق الدامي، يرفل بالخيبة والحسرة والألم. أما هي فاستمرّت في لعبتها الغرامية مع فرويد وريلكه وغيرهما.

يوهان غوته، أبرز أدباء ألمانيا الحاذقين بتدوير المعنى، وتصوير الإحساس، وتدفق الانسياب المتماوج للمشاعر الفلسفية التي تشرب قبسها من الحضارات الأخرى، والديانات المختلفة، تضوّر عشقاً حتى الثمالة وصُلب في نهاية المطاف، عندما اعترفت له حبيبته شارلوت بأنها لا تحبه، بل كانت تشفق عليه من نفسه. فكتب رواية «آلام فرتر» التي صوّر فيها البطل منتحراً في نهايتها، وكأنه يترجم رغبته الدفينة بأن يموت ويُدفن في الثرى ترويحاً عن آلامه المستعرة في صدره، وتخليداً لحبه الأبدي لها.

أنطونيو ماتشادو، الشاعر الإسباني الذي نحت في تصوير الطبيعة، ورمّم آثار الوصف والتوصيف في إيقاع بطيء متأنٍ مترفٍ بساجيات المخيلة، أحبّ امرأة متزوجة تدعى بيلار، وكتب لها قصائد مشهورة أدخلته عالم التداخل الإيقاعي، تحت اسم جيومار، ولكنه خُذل في النهاية، فلا هي تركت زوجها من أجله ولا هو استطاع أن يقرب مملكتها التي رسمها قلبه وهماً كاد يفتك به، ويهدّ بنيان كيانه.

جبران خليل جبران، أحبّ سلمى كرامة يقال إن اسمها الحقيقي حلا الضاهر كان فقيراً مهاجراً يتنقل بين أميركا ولبنان، يبحث بقلمه عن سرّ الطبيعة ويتمرّغ بالعشب وينشد العدل في ثنايا الكون المعقد بالأرواح الصاخبة، ورغم كونه أديباً كبيراً يسجد له القلم، إلا أنّ والد حبيبته سلمى قام بتزويجها إلى رجلٍ ثري من طبقتها، فحطّم أحلام جبران ودمّر قلبه، وهو الذي حوّلها قديسة لحبره، ونسج منها أسطورة في معبد عشتار إلهة الحب التي ادّخرت دماء قانية تزهر كلّ عامٍ وهجاً لعشقه المتجدّد. تزوّجت سلمى من غيره، فثار على التقاليد ونظام الرأسمالية والقمع ونظرة الأسياد الأثرياء إلى الآخرين فكتب «الأجنحة المتكسرة».

نحن لا نتكلّم عن النساء بأنّهن جميعاً خائنات، ولكننا نتشاطر شخصيات «بعض النساء» اللواتي لعبن دوراً سلبياً في حياة بعض من المفكرين والأدباء والفلاسفة.

ولكننا إن أمعنّا النظر، وركّزنا الذهن، نجد بأنّ دور هؤلاء النساء قد عاد بمفعول إيجابي على هؤلاء العظماء، فرغم نكهة الخيانة التي تفوح في أكمام تلك العلاقة الهشّة بينهم، فقد كان الذين ذكرناهم من المبدعين يبحثون في اللاوعي عن المعاناة، حتى يسبروا حدقة الإبداع بشكلٍ يُلهمهم ولا يقيّدهم.

فلو نال نيتشه مراده وأحبّته سالومي وفضّلته عن غيره من العظماء، لكان ملّ من القصة المشعشعة بالألق التي رسمها في خياله، ولانفضّت عاطفته وعادت إلى ركودٍ مميت، ولِما كتب رائعته الشهيرة «هكذا تكلم زرادشت»!

وهل كانت فكرة «آلام فيرتر» ستنضج وتترجم إلى رواية هزّت العالم بأسره إن أحبت شارلوت مؤلفها غوته واستسلمت لنزوته المستعرة؟ وهل كان ليسلم من غرور قلبه الذي عُرف بملله السريع من النساء اللواتي قابلهن في حياته وغرقن في حبه؟ لقد كادت شارلوت تكون المرأة الوحيدة التي تمرّدت على هواه، وقذفت بأمنياته عرض الحائط، ولم تكترث لشهرته وإبداعه وتميّزه، ولم تنظر إليه كعشيق، بل كان لها محض صديق تشاطره آراءه وأفكاره، فتدلّه في غرامها.

وماتشادو الذي تزوّج بفتاة صغيرة، تبلغ من العمر الخامسة عشرة من عمرها تسمى ليونور، وكان مزهوّاً بها، هل كان ليقايض بها محبوبته بيلار لو أقرّت بعشقه وانساقت لحمم عاطفته الملتهبة؟ قطعاً لا..

أما جبران، الذي تجوّل كرحّال البادية ينتقد عربدة الكون وأخطاءه الكثيرة، هل كان ليرضى بأن يقاسم سلمى كرامي حياتها المترفة، وهو الذي فضّل الغاب على القصور، وتحمّم بالعطر وقدّس حريته حدّ تقديسه لقلمه؟ هل كان ليقرّ بالخنوع لفتاة ثرية لو وافق والدها على زواجه منها؟ جبران الذي تملّكته نشوة التغريد في جنون المدى وصفّق ساعدا غيمه الشاحب لمطر حبره، هل كان ليرضى بأن يؤسَر في عالم ثري لا ينتمي إليه أصلاً؟

الخلاصة في أنّ «الخاطئات» من النساء، أصبحن «فاضلات» عندما منحن شرارة مرهفة فائضة بالحس لهؤلاء العظماء، فترنّحن أمام أنظارنا بسبب ما اقترفن من فتنةٍ كادت تودي بعشاقهن إلى الانتحار، ولكنهن أثرن طوفان الإبداع في مخيلتهم. فهل ننكر فضلهن بسبب ما أشاع التاريخ عنهن؟ وهل ننكر بأنّ الألم يعلّم ويصحّح، وهو مَن حثّ هؤلاء العظماء أن يفرغوا حزنهم على ورق، لأن كتمان الحب أذلّهم والإفصاح عنه جعلهم ضحايا للوصايا العشر؟

في الغرب أقرّ المجتمع بأن المرأة تمتلك سلاحاً ذا حدين.. القدرة على إثارة الدهشة والقدرة على إثارة الشفقة..

أما في مجتمعنا المشرقي، فنادراً ما نعتقد بأنّ المرأة قد تسلب الرجل لبّه وتفقده كيانه، فقد نشأت العقول على مبدأ السيطرة اللاإرادية المتأتية عن الرجل. فهو مَن يقرّر أن يعشق، ومَن يتخذ قرار البعد، ومَن يلهج لسانه بالغرام المتقد أو يملك القدرة على جعل المرأة تحبه، ونحن مضلّون في هذا. فالتاريخ يشهد بكيد بعض النساء وقدرتهن على الإمساك بالشوك بأيديهن والتشبث بتلابيب العشق وهصر مشاعر الرجل وتجنيد أسلحتهن للتقرّب أو الابتعاد.

نحن لم نبتكر تلك القصص ولكن التاريخ يشهد.. بأنّ المرأة تتماوج كزبد البحر، والشمس تلقي أشعتها الفضية على أحلامها، تستطيع العشق وتقدر على الهجر.. ولكنها بطاقتها السلبية تمنح طاقة إيجابية هائلة، يستمدّها الرجل، فبدل أن يصبح ضحيتها يولد من جديد، بدرسٍ في الحياة.. والدليل هو بعض من القصص التي عرضناها عن حياة بعض من العظماء الذين عشقوا فخذلوا، ولكنهم أبدعوا من آثار جروحهم حدّ الدهشة..

سلوا التاريخ.. فهو يشهد!

روائية وشاعرة لبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى