ومضات من التاريخ السوري
عندما اخترت هذا العنوان لمحاضرتي هذه «ومضات في تاريخنا السوري»، لم أكن قد كتبتها بعد، أو لم أكن قد اخترت الومضات التي سأحدّثكم عنها اليوم، فبقيت حائراً في اختياري حتى بداية هذا الأسبوع، والسبب في حيرتي كثرة هذه الومضات، وتنوّعها واختلاف أزمنتها في تاريخنا، فَحِرت في تصنيفها وحِرت في ترتيبها في سلّم أولويات وأهميات، وإليكم بعض ما سبّب حيرتي.
في مجال الاختراعات وتقديمات سورية للبشرية، حِرت بين الإبرة والدولاب وسكّة المحراث والطوب والقرميد. والزجاج والبرونز. وحِرت بين الخبز والنبيذ والعَرَق والجِعة وزيت الزيتون والصابون واللَّبَن الرائب والدبس والحلاوة ودبس الرمّان.
بين الحرف والقلم والتقويم والمقاييس والمكاييل والنوتة والقيثارة والأورغن والدفّ والمزمار. فكما قال طه باقر: «هنا بدأ كلّ شيء».
وفي مجال العِلم والفكر والفلسفة والأدب والثقافة والعقائد والريادة، حِرت بين حمورابي شرائع ، آشور بانيبال مكتبة وتراتيل وشعر ، زينون الرواقي فلسفة ، بوسيدونيوس الآفامي فيلسوف ومؤرّخ وعالِم طبيعيات ، يسوع الناصري ـ ماني دين ـ المانوية ، جوليا دومنا الندوة الفكرية ، بابينيان حقوق ، أولبيان حقوق ، أبولودور الدمشقي هندسة ، إميليوس، لونجينوس، يوحنا الدمشقي، المتنبّي شعر ، أبو العلاء المعرّي فلسفة وشعر ، ديك الجنّ الحمصي، بطرس البستاني، ناصيف اليازجي، جبران أدب وشعر وفلسفة ، الزهراوي، الكواكبي، أنطون سعاده الدين الجديد .
في الحروب وشؤون الدولة والحكم
سرجون الأكادي، نارام سين، نبوخذ نصّر، شلمناصّر، سنحاريب، أنطيوخوس الثالث الكبير، أنطيوخوس الرابع إيبيفانس، هنيبعل، أليسار ملكة قرطاجة ريادة ، جوليا ميسا، إيلاغابال، آلكسندر سيفيروس، فيليب العربي، زنوبيا، صلاح الدين الأيوبي، أنطون سعاده، يوسف العظمة.
ومن هذه الأسماء والتقديمات والابتكارات ومن الأعلام الذين ذكرتهم، من المؤكّد أنّكم انتبهتم أنّ ما قصدته بسورية في العنوان، سورية الطبيعية، سورية التي حدّد حدودها الله أو الطبيعة، وجعلها كوعاء رحب مميّز عما حوله، مازج لكل الشعوب التي أتت إليه مهاجرة كانت أو مجتاحة ومن أيّ جهة أتت. هذه البيئة التي أنتجت هذا المزيج الراقي الحيّ الذي يحمل مواصفات أرقى من كلّ ما حوله من شعوب وأمم. صحيح أنّ هجرات أتت إلى سورية من أعراق منحطّة متخلّفة، لكنّها اندمجت ضمن المجموع وأذابتها الطبيعة السورية بالمجموع، لينتج عن هذا التفاعل مزيج راقٍ حيّ مفعم بالحيوية. قادر على الابتكار والعطاء والارتقاء، والمساهمة في ارتقاء البشرية.
جوليا ميسا
لقد اخترت لكم أيها السوريون عدداً من الشخصيات قاموا بأفعال ما زال وميضها حتى اليوم يلمع في سماء سورية الحبيبة. أشخاص غمرهم منهاج الثقافة الرسمي المطبق في بلادنا، فكان ألقهم بارزاً واضحاً عند كلّ الشعوب، إلّا في وطنهم الذي أحبّوه وعملوا من أجله.
لقد اخترت لكم أوّلاً الحمصية بنت بلدي المجهولة، اخترت لكم جوليا ميسا، شقيقة جوليا دومنا الشهيرة.
هذه المرأة التي شاهدت فتألّمت فقرّرت فانتصرت. امرأة لم تترك الأقدار تتحكّم بها، بل كانت بقراراتها تتحكّم بالقدر وتصنع التاريخ. وكي نعطي هذه المرأة حقّها ونوضح أهمية أفعالها، يجب أن نعيش معاً الأجواء والظروف التي سبقتها.
بدأت القصة مع وصول الحمصية جوليا دومنا إلى روما عندما تزوّجها القائد العسكريّ الرومانيّ الليبيّ الأصل سيبتموس سيفيروس. وكانت جوليا مثال الزوجة الصالحة القادرة صالحة ليس بالمقاييس العربية السائدة اليوم كالطبخ وتربية الأولاد ، بل كانت صالحة بقيمنا السورية الراقية، أي كانت الشريك القادر المخلص والمحبّ، الذي يتصرّف لمصلحة شريكه من دون توجيه وأمر. فعندما وصل سيبتيموس إمبراطوراً على روما عام 193 ميلادياً، ساعدته هذه السيدة الجميلة في إدارة شؤون البلاد .
وبشهادة مؤرّخين كثيرين، كان لجوليا دومنا دور هامّ في الحياة الثقافية في روما والمقاطعات. إذ شكّلت ما يشبه ندوة ثقافية ضمّت نخبة من الفلاسفة والعلماء الكبار في تلك الفترة. فساهمت هذه الندوة في تطوير الفكر والفنون، والأهمّ ساهمت في تطوير القوانين. وعندما توفي زوجها عام 211 ميلادياً، تسلّم ولداها كاراكالا وغيتا 211 ـ 217 مقاليد الحكم، كانت جوليا دومنا وراء تعديل قانون الرعوية الجنسية ، وإصدار القانون التاريخي الذي قضى باعتبار كلّ رعايا الإمبراطورية مواطنين رومانيين كاملي الحقوق والواجبات. فكان هذا القانون بحقّ مفصلاً هامّاً في تاريخ الإمبراطورية، لا بل نقطة التحوّل الأهمّ في تاريخها برأيي من بعد هذا القانون لم تعد روما روما. إذ لم يتغيّر وجهها فقط، بل تغيّر مضمونها .
إلا أنّ قيام كاراكالا بقتل أخية غيتا 212 ميلادياً في حضرتها وتفرّده بالحكم، كان سبباً في اعتكافها وزوال دورها في الحياة العامّة.
ويمكننا القول إنّ الدور الحمصي في البلاط الروماني لم يكن هامّاً وفعّالاً قبل تولّي هذه المرأة الجميلة والقادرة زمام الشؤون الثقافية والاجتماعية والحقوقية في روما، إذ يجب ألّا ننسى أنّ سيبتيموس ليبيّ الأصل وليس سوريّاً، لكنّه مع أولاده وبتوجيه من جوليا دومنا، لم يقصّروا عن دعم حمص مادياً ومعنوياً. فقد أعطوها حقّ سكّ العملات، وأعطوا معبدها حقّ الحماية واللجوء والاستقلال المالي، هذا المعبد الذي كان والد جوليا دومنا كاهناً رئيساً له.
أما الدور الحمصي الحقيقي في حياة الإمبراطورية الرومانية، فقد بدأ مع جوليا ميسا شقيقة جوليا دومنا، التي رافقتها إلى روما وعاشت هناك حياة الأباطرة وتعلّمت أساليب الإدارة وفنون السياسة من خلال توجيهات أختها الحكيمة. ففي عام 217 ميلادياً، وعند مقتل كاراكالا، تصدّى لمهمة الحكم رئيس الحرس مكرينوس الذي ما أن جلس على العرش حتى بدأ بتقليص النفوذ السياسي للحمصيين، وطلب من جوليا ميسا وعائلتها العودة إلى ديارهم.
نفّذت ميسا الأمر وعادت إلى سورية، لكن عينها بقيت على روما. فلمّا وصلت إلى حمص حيث كان يتمركز جيش الشرق الروماني الجيش السوري ، حتى قرّرت لقاء الضباط وتحريضهم على احتلال روما وخلع مغتصِب العرش القاتل مكرينوس.
موّلت ميسا حملتها من كنوز معبد حمص حيث كان يحتفظ بالحجر الأسود النيزكي الشهير، وتوجّهت إلى معسكر الفرقة وخطبت فيهم خطاباً حماسياً طالبت فيه بتنصيب حفيدها كاهن المعبد حمص الصغير إلاكابالوس إله الجبل أو الإله الجابل الخالق ، إمبراطوراً. فأيّدها القادة وقرّروا خوض الحرب معها. ركبت ميسا جوادها وحمَّلت عرباتها بذهب الهيكل وقادت الجيش السوري باتجاه الشمال لتقابل جيش الغال القادم بقيادة الإمبراطور مكرينوس لإخضاع المتمرّدين في الشرق والقضاء على ما سمّاه فتنة، فالتقى الجيشان في سهل قرب أنطاكية حيث كانت الغلبة للجيش السوري، وفرّ مكرينوس منفرداً متنكّراً بزيّ آخر، لكنّ تنكّره لم يخفِه عن أعين الذين أمرتهم ميسا بملاحقته. فوصلوا إليه وقطعوا رأسه وأرسلوه إلى سيّدتهم ليرتاح بالها.
في 8 حزيران من عام 218 ميلادياً، نصّبت جوليا ميسا حفيدها إيلاكابال إمبراطوراً على روما وهو في الرابعة عشرة من عمره. وبدأ بذلك حكم الحمصيين الحقيقي الذي دام سبعة عشر عاماً من 218 حتى 222 فترة حكم إلاكابال، ومن 222 حتى 235 وهي فترة حكم ألكسندر سيفيروس وهو حفيد جوليا ميسا الآخر من ابنتها الثانية.
عمل إلاكابال بنصيحة جدّته وأرسل بعد الانتصار الحاسم على مكرينوس رسالة تاريخية إلى مجلس الشيوخ الروماني يعلن فيه نفسه إمبراطوراً ويبشّرهم بنقل الحجر الأسود الحمصي إلى روما حيث ستتمّ عبادته في العاصمة. معتبراً ديانته ديانة من الدرجة الأولى. علماً أنّ أمراً كهذا كان بحاجة إلى موافقة «الندوة».
دخل الحمصي إيلاكابال روما في موكب مهيب قادماً من حمص مسقط رأس أجداده، وهو يحمل الحجر الأسود المقدّس في عربة مزيّنة بالذهب والجواهر. هذا الحجر الأسود النيزكي الذي كان يحتفظ به في معبد حمص الفخم. ومنذ ذلك الحين أصبحت عبادة الإله السوري الحمصي متفوّقة في العالم الروماني، وكانت الطقوس التي تقتضيها هذه العبادة فخمة جدّاً ترافقها ذبائح ثمينة كانت تقدّم على مذابح تنوء بأفخر العطور وتُصبّ عليها خمور معتّقة. وكان الإمبراطور الصغير قد سمح لكلّ أصحاب المذاهب حتى اليهود والمسيحيين والسامريين ، بممارسة طقوسهم الخاصة في معبد الحجر الأسود في أوقات معيّنة. وكان يبني كلّ سنة معبداً جديداً في ضواحي روما فينقل الحجر الأسود الحمصي إليه باحتفال ضخم ليتسنّى للجميع عبادته. بل قرّر أن ينقل الحجر من معبد إلى آخر ليتعرّف إليه أكبر عدد من العباد.
وقد خلّدت المسكوكات النقدية بأنواعها دخول الحجر إلى روما وبدء عبادته الرسمية في كلّ أرجاء الإمبراطورية. إذ إنّ هذا الحدث كان هزّة كبرى في تاريخ العقائد الرومانية لم تشهد مثلها إلا بعد أن سمح قسطنطين بالحرّية الدينية ودخول المسيحية رسمياً إلى روما.
لم يكن اختيار جوليا ميسا هذا الحفيد موفّقاً، فقد كان صغير السنّ غريب الأهواء، فغلبته مغريات حياة الأباطرة، وأساء استخدام السلطة، واتّسمت حياته الخاصة بالخلاعة والمجون ومخالف القيم الأخلاقية في ذلك الزمان، فأغضب بسلوكه هذا مجلس الحكم الندوة والجيش، فانتفضوا عليه وقتلوه مع أمه جوليا سومية وسُحلت جثّته في الأسواق، ثُم طُرحت في نهر التيبر وألحقوا به الحجر الأسود. كان ذلك في 11/3/222 ميلادياً.
لمّا شعرت ميسا باقتراب نهاية حفيدها إيلاكابال، طلبت إليه اختيار حفيدها الآخر آلكسندر سيفيروس وليّاً للعهد الذي كانت قد بدأت بإعداده إلى الحكم من خلال تثقيفه وتدريبه. فاختارت له أهمّ الفلاسفة والمربّين في تلك الفترة ليكونوا عوناً له في مهمّته القادمة، وفعلاً صدق حدسها. فعندما اغتيل إلاكابال كان حفيدها الثاني جاهزاً لاستلام الحكم، فتمكّن من إدارة الدولة 13 سنة، كانت بشهادة المؤرّخين من أفضل السنين في حياة الإمبراطورية.
سُكّت بِاسم جوليا ميسا أكثر من 13 قطعة نقود ذهبية وفضية وبرونزية، منها قطعتان بعد وفاتها تخليداً لذكراها على عهد حفيدها الثاني آلكسندر. أشير إلى ذلك لألفت نظركم إلى أنّ ذكرها بقي حميداً بعد وفاتها، وكانت أعمالها تثمر، وبرنامجها وخططها استمرّت إلى ما بعد وفاتها. ونصب أهل تدمر تمثالاً لها في مدينتهم واعتبروها من البطلات العظيمات.
بعد هذا السرد السريع، ألا تستحق هذه السيدة الاحترام والشهرة. إنها ليست فقط ومضة، بل هي مصباح تألق لأكثر من ربع قرن في تاريخ سورية، لا بل في تاريخ الحضارة.
احتفالات الربيع في دفنة وأنطاكية
من هذه الاحتفالات، احتفالات منتجعات دفنة قرب أنطاكية.
كانت دفنة، وهي ضاحية قرب انطاكية، مركزاً شهيراً لأعظم احتفالات الربيع في سورية، وقد سمّيت دفنة « DAPHNE» على اسم الحورية التي عشقها أبولون وأسرته بجمالها، وتحوّلت في ذلك المكان إلى شجرة غار عندما كان يلاحقها دافني تعني الغار .
وفي دفنة حيث تحوّلت الحورية إلى شجرة، نمت تلك الشجرة وصارت غابة كبيرة من الغار، هذا النبات الذي تكلّل بأوراقه الأباطرة والأبطال والمنتصرون. وفي دفنة أقيم لعشيق الحورية أبولون معبد كبير يذكر عنه أنه كان مركزاً لطقوس فيها شيء من الخلاعة، ما جعل المؤرّخون يذكرون تلك الاحتفالات ببعض الاستهجان. لكنّ هذه الطقوس ربما كانت سبباً ليصبح هذا المعبد مركز استقطاب للمحتفلين من كل أرجاء سورية.
وكإشارة إلى أهمية هذه الاحتفالات في سورية ومدى تعلّق السوريين، بها ذكر أحد المؤرّخين أنّ أحد أعضاء مجلس شيوخ أنطاكية أوصى بكلّ ثروته لإقامة احتفالات في دفنة، تدوم ثلاثين يوماً. وكانت الاحتفالات تشمل الرقص والروايات التمثيلية وسباق العربات، إضافة إلى الألعاب الرياضية والمصارعة. ويذكر أنّه في أوائل القرن الثالث مدّدت فترة الاحتفالات إلى خمسة وأربعين يوماً، وساهمت النساء في بعض هذه الألعاب. وكانت الاحتفالات كما يمكن أن يتوقع، مشهداً لبعض الحوادث الأخلاقية الشاذّة، حتى أصبح يضرب المثل بدفنة وخلاعتها.
عام 166 قبل الميلاد قرّر الملك السوري أنطيوخوس الرابع إقامة احتفال عظيم في دفنة، كردّ على الاحتفال الكبير الذي أقامته روما عام 167 قبل الميلاد في مدينة أمفيبوليس اليونانية لمناسبة انتصارهم في مقدونية.
وتزوّدنا مصادر التاريخ بتفصيلات عن ذلك المهرجان التي استُهلّ باستعراض عسكريّ شارك فيه عشرات الآلاف من الجنود من قوميات مختلفة، وقد تدرّعوا بالدروع الذهبية والفضّية الرائعة. وركب بعضهم أجمل الخيول المطهّمة والمزيّنة، ومن خلف هؤلاء مشت فرق الخيالة من سكوثية والأفيال الهندية، والمصارعون، ثم تلت هؤلاء مواكب من رجال مدنيين يحملون تيجاناً ذهبية، ومئات الثيران التي أُعدّت للتضحية، وثلاثمئة بعثة دبلوماسية من مدن المتوسّط. ثم عرض خاص لأنياب الأفيال، وتماثيل لكافة الآلهة وأنصاف الآلهة ذهبية أو مطليّة بالذهب، ولا ننسى الأواني الرائعة، والنساء المتزيّنات اللواتي يرششن العطور من زجاجات ذهبية، أو محمولات بواسطة محفّات لها أرجل مذهّبة. وقد تضمّنت الاحتفالات التي استمرّت شهراً، إقامة الألعاب الرياضية ومشاهد المصارعين المحترفين وعراك الحيوانات المتوحّشة. كما خُصّصت بعض الأوقات لكي يجري الخمر في مصدر الماء الرئيس في مدينة أنطاكية ليشرب منه كلّ الناس.
إن هذا التوصيف يفيدنا في رسم صورة لمستوى العمران في أنطاكية عاصمة سورية آنذاك، والتي قدّر أحد المؤرّخين عدد سكانها بـ600 ألف نسمة. وقد قال إنها بالمستوى نفسه لضخامة سلوقيا التي على دجلة العاصمة الشرقية لسورية في الفترة السلوقية .
وفي نصّ آخر، ذكر أحد المصادر في سياق توصيفه حياة الترف التي كان يعيشها السوريون الأنطاكيون في تلك الفترة فقال: إن ديونيسيوس، صديق أنطيوخوس الرابع إيبيفانس أو مساعده، كان لديه في الاحتفال بالألعاب في دفنة ألف عبد يسيرون في الموكب ويحملون الأواني الفضية، التي لا يقلّ وزن كلّ منها عن ألف دراخمة درهم ، ثم تلاهم 600 وصيف ملكيّ يحملون الأواني الذهبية و200 امرأة يرششن الزيوت العطرية من أباريق ذهبية، وتعقب هؤلاء في الموكب 80 امرأة جالسات في محفّات ذات مساند ذهبية، و500 امرأة في محفّات ذات مساند فضّية. وقد سيّر الملك في الاحتفال 3000 كيليكي يلبسون تيجاناً ذهبية و10000 مقدوني يحملون تروساً ذهبية و5000 يحملون تروساً برونزية و5000 يحملون تروساً فضّية. وكانت أكثرية الجنود والمواطنين البالغين 3000 يضعون أغطية ذهبية على خدودهم ويلبسون تيجاناً ذهبية. وكان للباقين أغطية فضّية على خدودهم. هذه هي مساهمة شخص واحد من أعيان أنطاكية.
كما يؤكّد المؤرّخون ويركّزون على أنّ أنطيوخوس كان يشارك بصورة فعّالة جدّاً في تنظيم الاحتفالات والإعداد لها. فكان يُشاهَد تارة يرحّب بالضيوف، وأخرى يُصدر أوامره التنظيمية، وثالثة يلقي النكات، وأخرى يشارك بالرقصات العامة. ويبدو أنّ أنطيوخوس كان يبغي إدهاش الوفد الروماني برئاسة تيبريوس سمبرنيوس كراكخوس الذي عومل بأمر من الملك السوري معاملة ملكية، فوضع القصر الملكي تحت تصرّف الوفد وأحاط جميع أعضائه برعاية لم يكن يحظى بها إلّا الملوك.
وفي ذكر لاحتفالات دفنة من المؤرّخ بوسيدونيوس، عن الاحتفالات التي أقيمت في زمن أنطيوخوس السابع سيديتس 137 128 قبل الميلاد ، قال إنّ المضيف الملكي سمح لكلّ مشترك في الحفل أن يحمل إلى بيته من لحم الحيوانات البرّية والبحرية ما يكفي لملء عربة، إضافة إلى كمّيات الحلوى المعمولة بالعسل، وأكاليل المر والبخور ومشبّكات الذهب التي يبلغ طولها طول الرجل. كما قال إنّ من عادة أنطيوخوس الثامن غريبوس معقوف الأنف 125 96 قبل الميلاد أن يوزّع في مناسبات كهذه، إوزّات حيّة وأرانب وغزلاناً على المدعوّين، إضافة إلى الأكاليل الذهبية والأواني الفضّية والعبيد والخيول والجمال. وبعدما يركب كلّ رجل جمَلَه، يشرب نخباً ويقبل الجمل بما حمل والخادم الملحق به. وكانت التسلية الرئيسة، إضافة إلى الولائم، تتضمّن الصيد والفروسية.
ويقول بوسيدونيوس في مكان آخر: «كان جميع سكان سورية آمنين من أيّ ضيق يتعلّق بضرورات الحياة، بسبب الوفرة الكبيرة التي تقدّمها بلادهم».
ومن اجل استكمال الصورة، يرجّح أنّ سكان سورية في تلك الفترة كان عددهم ستّة ملايين نسمة. أليست احتفالات دفنة، حدثاً وامضاً في تاريخنا السوري؟
محاضرة ألقاها منفذ عام حمص في الحزب السوري القومي الاجتماعي العميد نهاد سمعان، ضمن فعاليات الأسبوع الثقافي الذي تنظّمه منفذية سلمية.