جدلية النصّ السرديّ في رواية «ليالي إيزيس كوبيا»
ضحى عبد الرؤوف المل
فتح الروائيّ واسيني الأعرج صالون «مي زيادة» مجدّداً بِاسمها المستعار الذي عرفت به، كمساحة نقاشية لحالة نسائية خاصة. إذ استطاعت إنشاء الصالون الأدبي المختلط من رجال ونساء، ليلتقي فيه الشعراء والكتّاب من الأجناس والأطياف كلّها.
وبانفتاح نحو المرأة والدور الاجتماعي والأدبي الذي يمكن أن تقوم به، في زمن لم يكن من المألوف أن تثري امرأة حركة أدبية وثقافية وسياسية، أو حتى كحركة تحرّرية نسوية قادتها مي زيادة على أسس الاحترام المتبادل، وحرّية التعبير، قبل أن تقع فريسة الأقدار، أو الأطماع التي وصلت بها إلى «العصفورية» التي دخلنا إليها مع واسيني الأعرج في روايته الصادرة عن «دار الآداب»، وخرجنا منها بوجع على امرأة هي مزيج من الناصرة ومصر ولبنان، والفكر المتأثر بالرومنسية الفرنسية، متحدّية بذلك تقوقع المرأة ضمن التقليدية، والتحكّم بحياتها، متوجّهة بها نحو أهداف الحياة التي كانت تراها من خلال انفتاحها نحو الغرب، أو بالأحرى لإحياء الروابط الشرقية والغربية، كما روابط المرأة والرجل في عصر ما أنصفها، وإنما قادها إلى «عصفورية» خرجت منها متأثرة نفسياً، بما صدمها من مجتمع نالها منه الحزن والأسى الذي اتخذ منه واسيني الأعرج مادته الروائية التي فتحت أبواب «العصفورية» امام قارئ «ليالي إيزيس كوبيا» لأن «أفظع عقوبة، هي أن يسرق من الإنسان حقه في الوجود»، محاولاً إنصافها وإعادة الزمن الروائي إلى حيث العتمة في عصر تنوير المرأة العربية. فهل نجح واسيني الأعرج في ذلك؟
فكّك الروائيّ واسيني الأعرج غموض ليالي العصفورية التي دخلتها مي زيادة روائياً بطابع لا يخلو من ميزة تخيّلية، تعكس أهمية مرحلة مرّت على امرأة أوقعتها شباك الحبّ والتحرّر في مرحلة مصيرية من حياة شكّلت مادة دسمة اقتربنا منها أكثر، ولا هدف لنا من وراء ذلك سوى إنصافها بعد أكثر من قرن من مجيئها إلى هذه الدنيا التي لم تنصفها، إذ اتبع أسلوب السرد المؤدي إلى جدلية النصّ السرديّ الموثّق ببحث عن مخطوطات هي الحقائق المباشرة، وغير المباشرة بوصف زمانيّ ومكانيّ، لمرحلة تتبع المخطوطات التي تركتها مي زيادة أو التي اختفت، وقام بالبحث عنها في رحلة شبيهة برحلة آغاثا كريستي في شعاب بوليسية انقطعت بعد الاطّلاع على تفاصيل الرسائل أو الحصول على المخطوطة، وافتراضات لم يمكن أن تخرج عن كونها مادة روائية لها أسسها وتقاليدها وخصائصها التي ضيّعت كل من ركض وراءها في المتاهات المبهمة، مركّزاً على اكتشاف المراحل الغامضة من حياتها ضمن الحدث المتخيّل المبنيّ على الحدث الأساس، وهو دخولها إلى «العصفورية» والخروج منها بعقل سليم بعد معاناة شكّلت المكوّن السرديّ لرواية «إيزيس كوبيا» لواسيني الأعرج، الباحث عن إنصاف مي زيادة بعد مرور الزمن، معتبراً أنّ ما في الصحافة لا يموت أبداً. فهل صيغة المخطوطات الاسترجاعية أو ما كتبته الصحف عن مي زيادة هو صياغة روائية تتبّع مسارها واسيني الأعرج، بين مكوّن سرديّ رئيس، ومكوّن سرديّ تخييليّ هي ليالي «العصفورية» فعلاً؟
اختزال لمراحل حياتية أمضتها مي زيادة في ليالي رواية تشبه المكان الذي قضت فيه مي زيادة أقسى أيامها، وبتوجيه حمل من الوثائق المحتوى الذي استطاع من خلاله الروائيّ واسيني الأعرج تفسير التوترات النفسية لعاشقة نشأت على رومنسية فرنسية جعلتها حالمة برجل قادها إلى الجنون، وإن امتلكت من نقاط القوة ما ترجمته في رسائلها إلى جبران خليل جبران وضمن محاضراتها أو حتى مقالاتها التي تحفّز البنية التحليلية على استخراج الحسم، لتحديد مدى قوة الأحداث التي تعرّضت لها امرأة ذات تاريخ أدبيّ واجتماعيّ، باعتبارها المرأة الأولى التي فتحت صالوناً أدبياً واستطاعت إثبات وجودها بين الرجال، وإن كثر عشاقها، وربما هذا ما جعلها تتعرّض للكثير من النزاعات المخفيّة المتماثلة مع حياة كامي كلوديل ـ المرأة الغربية «إله من جنون. أنا مؤمنة أنه لولا كامي كلوديل لظل خشناً في منحوتاته، هذّبت ذوقه وأنسته، بينما دمرها ودفع من ورائها أهلها، بالخصوص أمها التي كانت تكرهها، فقضوا عليها بوضعها في مستشفى المجانين. لقد قتلوا الذكاء والنور والرهافة والهشاشة يا بلوهارت. تستحق مصيراً أفضل من هذا».
فهل قضية مي زيادة ودخولها «العصفورية» تتشابه مع قضية كامي كلوديل ودخولها مستشفى المجانين؟ وهل لبنان لم ينصف مي زيادة وقد خرجت من محاكمه بعقل سليم، وبمحاضرات ألقتها على أرضه بعد أن ساعدتها إرادتها بذلك قبل الأصدقاء أو قبل أمين الريحاني تحديداً؟
يبدو أن قضية المرأة العربية معقدة دائماً، لأنها تستحوذ على تعاطف المجتمع الغربي معها، وربما في رواية واسيني الأعرج «ليالي إيزيس كوبيا» هي عودة الماضي إلى مستقبل بات يرمي المرأة في افتراضات شبيهة بافتراضات الشبهات أو كلّ ما قيل عن مي زيادة، ومن ثمّ نفته المحكمة بقرارها الذي أعاد عقل مي زيادة إلى أركان جسدها الذي أثخنته ليالي «العصفورية» ومحنة الموت المبكر الذي أصابها، وهي ملهمة الكتّاب أو الشعراء أو حتى المرأة التي تشعل أوراق الكتاب في وجودها الأثيري الطامح إلى تكوين وجودي تنفي به الأوهام التي اعترفت بها في لحظة يأس أصابتها، وهي الإحساس بالوحدة بعد وجودها ضمن صالونها الأدبي وضجيجه الاجتماعي «بلا جدوى المقاومة، وبتفاهة البشر والعالم والثقافة التي نملكها، شعور لم أحس به من قبل أبداً، حتى في أكثر الظروف يأساً. أي واحد فينا يمكن أن يحوّل في ثانية واحدة إلى لا شيء، غبار، وهم، وهم…». فهل من استدعاء لحياة كامي كلوديل كما استدعى مي زيادة لإعادتها إلى ليالي «العصفورية» بعد خروجها بعقل سليم منها؟ وهل من نزعة لاسترداد حقوق امرأة نشأت على عصر التنوير الفرنسي وقصائد الحبّ والرومنسية التي كانت بمثابة الوهم المفقود في البلاد العربية؟
حين تختلط الحقيقة بين العوالم الروائية، يصبح يقيناً أن السرد الروائي هو جزء من الحياة التي نضعها على صفحات ورقية هي كالمجهر لأحداث مؤلمة أو مفرحة لا فرق. إلا أنها تجسد الواقع المر في مخيّلة روائيّ تغلغل في زوايا أوراقه وتسرّب في دماء شخوص منحهم الحياة، ليعيشوا بحبر كلمات تركها على صفحات كتبها، وتجسّدت معانيها في نفس القارئ. إذ لا يموت الأدب ولا ينفي بعضه، ولا تندثر كلمات الصحافة التي تركت فيها مي زيادة أثرها العقلاني ومجد والدها في صفحات أفردها واسيني، لتكون شهادة ذات مصداقية عند جيل لم يعرف مَن مي زيادة سوى رسائلها إلى جبران خليل جبران، إلا أنه لم ينصف لبنان كما يجب لإظهار الحقائق بحيادية تامة كما ينبغي، من دون التطلّع إلى ظلم وقع عليها في لبنان، فالذكورية هنا لا علاقة لها بأطماع ثروة، ولا بأطماع المجتمع الذي نشأت فيه على تربية ملتزمة بمنهج تربوي ديني مرتبط بكينونة مشرقية، وبسلوكيات أفراد لا تلغي الكل ولا تنفي الإنسانية التي عاد فأظهرها من خلال بعض العاملات في «العصفورية». فالجزء قد يتشكّل وفق سلبيات نفسية تعرض لها ولا يجوز الشمولية، وإن ضمن البناء الروائي، لأنه اعتمد على الحصول على مخطوطات ووثائق لبناء الهيكل الروائي بسوداويته بعد ان هاجمتها الوحدة إلى حين خروجها منها إلى مقبرة منسية في واقع زجّها في «عصفورية»، وانتزع منها العقل الذي استردته بحكم محكمة أنصفتها، ولم تطحنها كما طحنتها المأساة المتخيّلة من واقع في رواية «ليالي إيزيس كوبيا»، الاسم المستعار الذي دخلت به عالم الأدب، أو ليالي «العصفورية» أو ليالي الأزمة النفسية التي تعرّضت لها مي زيادة الفلسطينية المولد، واللبنانية الأصل، والمصرية الهوى، والمرأة العربية التي قهرتها أطماع الثروة.
كاتبة لبنانية