صباحات
أطلّ الصباح على ساحات القرى والبلدات وحدائق المدن والجامعات وأماكن استراحات العمل، وتسلل إلى صفحات التواصل، فانتبه أنّ طلوعه يتزامن مع تسلسل ظهور المتحادثين، وأعداد تجمّعاتهم، وأعمارهم. وصار فضوله يحكم تنصّته على ما يفعلون ويقولون، فوجد الفئة الأولى من المتبدّلين والمتغيّرين في كل مرّة مع مجموعة تتبدّل وتتغيّر، فأنصت لِما يقولون وعرفهم: إنهم أصحاب المصالح والحاجات، يقضون أمر تجارة أو طلب عمل أو إنجاز أمر في دائرة حكومية. أو من يتزلّف لسواه طمعاً أو طلباً لمصلحة، وغالبيتهم في أواسط العمر، وهم غالبية المنخرطين بالتجمّعات. ووجد من هم أقل عدداً، وأثبت زمناً، وأشدّ عفوية في التلاقي والتواعد والمواضيع. فأسماهم بالمعارف، واعتبر أنهم من الأقرب إليه لأنهم غالباً ما يكتفون بلفظ اسمه ويتمنّونه خيراً. صباح الخير وصباح النور، ويمضون إلى المشاركة في تجمّعات أخرى. ولمّا تتبعهم، اكتشف أنّ من تخطّى الكهولة منهم ينزوون في محادثات ضيقة العدد، متشعّبة المواضيع، حميمية الصلة، ومن لا يزالون بعمر الشباب، كثرة وضجيج، غالبيتهم ذكور لإناث أو إناث لذكور، يدفعهم الاشتهاء والتقرّب والرغبات، يلبسونها ثوب الكلام الكبير في الفلسفة والحبّ والعمل والدراسة، ولكنهم ينتقلون من صلة إلى أخرى تشبهها بدوران دولاب لا يتوقف، ومنهم قلة تغرق في العشق والحب والتداول بمشاريع الزواج. ومن هم في آخر مراحل عمر الشباب من مطالع الثلاثينات إلى أواسطها، تغلب الجدّية على أحادثيهم زملاء عمل و أزواج، وتطغى السرعة على الرغبة بإنهائها، وتتنوّع بين العمل والأسرة ولكن همّ الحاجة وكيفية إدارة المال يقفان خلفها جيمعاً بعدما جفّف الكثير من نبض المشاعر فيها، حتى يجد المستوحدين، ينزوون وينفردون، يكتبون لأنفسهم أو يحادثونها، أو يندر أن يكونوا على عدد أصابع اليد، ذكوراً وإناثاً، فسأل أحدهم عمّا يرى طلباً للتفسير وحُسن التعبير، فقال إنها فئة الأصدقاء، لندرتها، فالصديق ليس رابطة دم القربى، ولا رابط المصلحة، إنه نادر بين ذكر وأنثى كأنه زواج لم تتح الظروف وربما العمر واللغة والبلاد والعمل أن يتم، أو أخوة لم تجمعها قربى الرحم بين تنوع الناس وتعدّد الجنسيات والأجناس. فاختار الصباح لنفسه الأصدقاء وترك للّيل العشاق وقال أنا صديقكم الصباح فكونوا أصدقائي وانتظروني بلهفة العشاق… صباحكم صداقة لا ترخص فتمعّنوا قبل استخدامها لوصف من لم ينالوا شرف نيلها بجدارة مقدارها ثبات ووفاء لنصف أعماركم على الأقل، ندخل الحياة بضجيج الرغبات وفوضى الأوصاف ونخرج منها وقد تعلّمنا الدقة في صمت الاختيارات النادرة. فتمنى الصباح لو يقدر أن يتسبدل للناس دورة أعمارهم فيدخولنها كهولاً بنضجهم ليعيشوا الضجيج بعدئذٍ شباباً وقد امتلكوا خبرة الاختيارات .
جاء الصباح متسكّعاً متجاهلاً مواسم الخريف. ولمّا صار في منتصف الطريق فاجأه المطر، فسأله: ألسنا نقصد المكان ذاته؟ فقال الصباح: هكذا تقول طريقنا. فنصحه المطر بالعودة لأن ما في جعبته سيجعل رحلته ندماً بندم. فقال الصباح: لكن لم يحدث أن امتنعت يوماً عن ملاقاة أحباء ينتظرونني ولا ينتظرون مني إلا الخير، ويربطون مواقيتهم على قدومي، ماذا سيفعل الفلاح إن لم يأتِ الصباح؟ وطالب المدرسة والوردة التي تنتظر أن تتفتح؟ والديك الذي يحبس صياحه على وقع خطواتي؟ قال المطر: ينامون ولا يتعبون من وطأة عصفي ومائي. فقال الصباح: إن ما يصاحب طلوعي عندهم كلّه خير، فيتبادلون التحية بقولهم صباح الخير، حتى عصفك يحولونه قوة لتجديد أوراقهم، وماؤك ينتظرونه لتنمو حدائقهم وتنعش ورودهم وتفوح عطورهم. فاستنكر المطر أن يكون غضبه مصدر فرح، فقال: لكنّ ريحي تكسر أشجارهم. فقال الصباح وحدها الشجرة الجوفاء من الداخل تقصفها الريح، أو من زاد ارتفاع رأسها إلى الأعلى أكثر من ثقل تمسّك جذورها بالتراب. فقال المطر: لكنني أتلف بحبّات البَرَد مواسمهم وأُغرق بطوفاني غلالهم. فقال الصباح: لكنك بخراب سنة تضمن لهم مواسم عمار وخير لسنوات بمخزون ماء لا حياة من دونه. فارتبك المطر وقال للصباح: إذن سأغير طريقي لمصاحبة الليل حيث يذهب، فرفقته أخفّ وطأة عليهم. فقال الصباح: انتظرني في طريق العودة تراه ذاهباً فلا تتعب نفسك بالبحث عن الليل، إن طريقه عكس طريق الصباح. فقال المطر: إذن دعني أسبقك إليه وأنت تنتظر. فقال الصباح: الصباح لا ينتظر بل يمكن لليل أن يفعل، وللمطر أن يرحل. اقترح المطر على الصباح أن يصاحبه حتى يسمعا معاً أول شخص يتمنّى شيئاً في سرير نومه قبل أن يصحو، فيقرّران من يرحل منهما. وعندما بلغا أطراف الشام، وجدا سيدة عجوزاً تدعو الله وتقول: اللهم إجعله خيراً صباحاً ومطراً، فهطل الصباح وطلع المطر… صباحكم أمطار خير لا تنقطع.
برودة الليل متى صار الفجر قريباً إغراء بانتظار الصباح. رطوبة غربة لا تلبث أن تزيلها أشعة ضوء تشمّر عن زنودها استعداداً للظهور، فتصير الاختيارات لما تبقّى من هزيع الليل وداعاً حميماً كقدر محتوم على رغم ما تراكم مع عتمة الليل من ذكريات وأسرار تقاتل للبقاء. إلا أنّ الصباح لا بدّ أن يطلع ويشقّ العتمة بسيف حقيقة ضوئه، لنسيقظ من أحلامنا حتى لو لم نعرف النوم. فالحلم ملازم للّيل، والحقيقة واليقظة متلازمان مع الصباح، فكيف سنضمن انتقالنا الهادئ كما يفعل الذين يعرفون النوم ومراحل الانتقال بين الليل والنهار، ويعرفون دلال نوم يتجاهل تكاسلهم وطلوع الصباح، ويثقون أن صباحهم آتٍ وأن ما نراه جمال الوصل بين ليل طويل وصبح طالع هو عكس نظام الحياة، لهذا كان الياسمين وكان الشعر نعمتان لا يعرفهما غير رفاق آخر الليل، يرتشفونه حتى الثماله. وأوّل الصباح يلاقونه مع إشراقة الابتسامة الغامضة ولا يعرف غيرهم سكينة الثقة بأنهم المثابرون وأنهم الحالمون وأنهم لا ينتظرون ولا يتكاسلون ولا يندبون حظاً أو سوء طالع. فرحون بما نالهم وما يفعلون، لا تهمّهم أضواء الليل المبهرة، بل عتمته ولا دفء النهار. يعشقون الصباح لبرودته هي ساعة الفجر لجميل بعد ليل تعب طويل تستحق فنجان قهوة مبكر وصوت فيروز نكهتان لا يعرفهما أهل نوم الظهيرة… صباح الخير للمتسيقظين واليقظين والأوطان لا تحميها إلا أعين الساهرين.
لما جاء الصباح إلى الشام يريد الدخول، دار حول بواباتها فوجدها مغلقة يحرسها جند متربّصون يحملون مصابيحهم المبهرة. فتحرّى الأمر ليعرف أنهم ينتظرون الصباح، فقد يتسلّل تحت جناحه ومع أشعة ضوئه الأولى من أرادوا بها شراً. فخجل الصباح من أن يكون ستارةً لقطّاع الطرق يدخلون أمّ العواصم، واحتار في أمره، هل يصرف النظر عن الدخول ويبقي الشام في عتمة الليل فيظلمها؟ أم يجازف و يدع الجند يتكفلون بالمتسللين؟ دار الصباح دورتين كاملتين حول أبواب الشام يتفحص أسماءها، ويدقق في المعاني، والمطر يلفح وجهه وهواء بارد يتنسّم مع طلوع روح الليل الجاثم على صدر الشام، فأعجبه أن غالبيتها على مسمّيات الكواكب، وصعد بروحه إلى السماء وقرّر أن يأتي الشام كحبّة مطر تسقط فوق واحدة من زهورها فتشع بياضاً، فكان الياسمين. ثم جرت حبّة المطر بين أزقتها فكان بردى، ولما صار وقت الطلوع صعد الصباح إلى قاسيون، وقرّر أن يعلن الصباح للكون من هناك، فالشام ترسل الصباحات ولا تتلقاها مرسلة، وصار الصباح شاميّ الهوى، وقبل أن يعمّ أضواءه وينثر عطر أزهاره ويعلن بدء نهاره، التفت نحو قاسيون وحيّا بشّاره، وقال الصباح شام والصباح قاسيون والصباح بشّار .
تأخّر الصباح منتظراً بين جبلين، مستعيناً بغيمتين لصنع مظلة يتمدّد تحت جناحها بعض الظلام الكاذب. ليمتد وهم الليل الذي رحل منذ ساعات، والصباح يتباطأ، يتّكئ على تلّة ويقرّر التقدّم خطوة ثم يتراجع خطوتين. والطيور تحبس أنفاسها تنتظر منه الإشارة لإطلاق رفّة الجناح الأولى. والديكة تعضّ على مناقيرها منعاً لانعتاق الصيحة المحبوسة، حتى المدّ والجزر يتجمّدان عند حدود الشطآن. حتى انطلقت عجلات الموكب، وتخطّت منطقة الخطر، فانفرجت أسارير الصباح وأطلق عصاه السحرية كمايسترو لفرقة موسيقية عملاقة تضمّ عشرات ألوف العازفين، لعزف سيمفونية الله يحميه يوصل بالسلامة، لقد كان السيد يزور أبناءه في جبال القلمون، يطبع على جبين كل واحد منهم قبلة ما بعد صلاة الصبح، ويضع من بعض عزمه وحبّه والحنان بين أكفّهم وبعض نوره وبصيرته في عيونهم. لكن المشتاق لا يضبط ساعته على المواقيت، كما العشاق يأتون باكراً لكنهم يستأخرون الرحيل، وما حيلة الصباح ليتمّ المهمة إلا أن يتأخر، فقد قال السيد أنه سيغادرهم مع انسلال الصباح لخيط ضوئه الأول. ولما تأخر السيد فعلى الصباح أن يتأخر، السيد لا يخطئ، إذن فالصباح استعجل وعليه أن يصحّح التوقيت وينتظر. وصل السيد بخير، حماه الله، قال الصباح فانقشعت الغيمتان، وانطلقت صيحات الديكة، وأطلقت العصافير العنان لأجنحتها، وعادت دورة المدّ والجزر إلى الشطآن… هو صباح في توقيت السيد على ساعة القلمون، تقول ارحلوا فماذا تنتظرون، لو كنتم تعلمون ما ينتظركم لكنتم تتمنّون لو كان الموت أسرع من الولادة فلا تولدون، ولأبتلعتكم أمهاتكم في بطونها أملاً بأن تكونوا لغير ما أنتم فاعلون، ستندمون لكل لحظة بقيتم فوق ذرّة تراب، حيث قال السيد هنا وهنا وهناك سينتهي الأمر قريباً وتسحقون، عاد السيد وبقي وقع خطواته، عاد السيد وبقيت تمتمات صلاته، عاد السيد وبقي بعض من خميرة أبنائه وبناته، عاد السيد وبقيت تهدهد الجبال بكلماته، فارحلوا قبل أن تنهال عليكم الصخور بقبضاته، قبل أن يصير ليلكم بعضاً من نهاراته، ويصير موتكم بعضاً من حياته. فعندئذٍ لن يتأخر عليكم صباح، ولن يرحمكم سلاح… صباح الخير يا سيّد.
مرّ الصباح على قرية بعيدة عن المدن، حيث الفلاح يقبض على زند المحراث ينتظر، والراعي يمسك مزماره لإطلاق النفمة الأولى، والنساء يتوزّعن بين من تسمّرت أناملها على قضبان حياكة الصوف لكنزة الشتاء، أو فوق مقبض مغزل النسيج لسجادة مجلس الموقد. ونزل إلى المدينة، فتأمل الباعة وأيديهم تستعدّ على مقود عربة تحمّلت بصنوف الخضار. أو أمسكت حزمات صحف اليوم الطالع، أو زند تشغيل المقالع. ولما وصل إلى شاطئ البحر وجد على الشرفة عاشقاً يتأهّب بإشهار سبابته والخنصر للنقر فوق آلة الموسيقى. وشاعراً يمسك بالسبابة والخنصر ريشة يغمسها بحبر الكتابة… أدرك الصباح علاقته بالأنامل وأدرك أن المنتظرين لوصوله يختفلون بإطلاق النبضة الأولى من تحية الصباح، بتلويح أيديهم وقد أفردوا أناملها، إلا السبابة والخنصر، فقد تنحيان قليلاً إلى الأمام وقاراً واحتراماً، كالتأهب لإمساك القلم… وانتبه الصباح في تأمله ملمس هذه الأنامل رقيقها والخشن، ولتكرار الصلة بين الفتيّ والمسنّ. والتفت إلى الإبهام والسبابة فقال: أنتما لكل وقت، أما الخنصر فهو طفل الصباح المدلل، فهو أصغركم، وأقلّ حظوة بالانتباه بينكم وأشدّكم خجلاً، وأكثركم فرحاً بقدومي، وربما تجدونه الأول في انحناءة التواضع. ولما قرّر إلقاء التحية الأولى، اختار جندياً يهمّ بشدّ سبّابته على الزناد، فالتفت إلى الخنصر، فإذ هو قد تقعّر خلف المقبض، فأسماه بالجندي المجهول، وطبع على جبينه قبلة الصباح ومضى… لصباحاتكم ما عزفت أرقّ الأنامل من أعذب الألحان، وما كتبت بحبر الحب والحقيقة… تمسكون زند ركوة البنّ بسبابة وخنصر، أو تديرون قرص المذياع على صوت فيروز بهما… صباح الخير… حمى الله الأنامل الرقيقة التي تمنحنا نعمة الإحساس بالصباح… فلها مكانة العيون وما أحسسنا بها كما كثير من أشيائنا الجميلة، تمضي ولا تنال من أحساسنا ما تستحق.