ميشال عون: ضمير وطن و«احتراف» في الحياد
روزانا رمّال
ربما تكون إطلالة رئيس الجمهورية اللبنانية متوقعة عشية الانتخابات النيابية اللبنانية التي تبدأ أولى حلقاتها بتجربة أولى من نوعها باقتراع المغتربين اللبنانيين حول العالم لتليها انتخابات محلية في 6 أيار. وربما تكون كلمات رئيس الجمهورية نابعة من أكثر غاية وهدف سياسي، كما تشير معانيها، لكن الأهم من كل ذلك كيف تحولت هذه الرسالة رسالة وطنية بامتياز فصلت قوة الرئيس المنبثقة عن تمثيله لحزب أو تيار مسيحي قوي ليتحوّل رئيساً، وكأنه لا يمتّ لأي حزب بصلة. فكلامُه خاطب الوجدان ليؤكد نجاح فكرة انتخاب رئيس قوي ينبثق عن قاعدة شعبية من دون الرجوع لمنطق الوسطية الذي كاد يطيح بالبلاد أكثر من مرة الى الهاوية نظراً للضياع الذي نجم عن هوية الجمهورية.
خطاب عون الموجه للبنانيين يكشف عن إمكانية كبرى في تقديم الممارسة السياسية بطرق تتماشى مع الوطن ومصالحه بدون أن تؤثر على الانتخابات النيابية او نتائجها. فالامتحان ليس سهلاً على الرئيس عون وهو يخاطب اللبنانيين الذين يعرفون خلفيته السياسية. فهو قبل الكل الرئيس السابق للتيار الوطني الحر، وهو قبل الكل صاحب أكثر المواقف دقة وحساسية وإثارة، خصوصاً تلك التي يؤيد فيها امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله الى ما لا نهاية.
لم يكن الاختبار سهلاً، فنجح عون في إلقاء خطاب بعيد كل البعد عن أي لحظة او لفتة قد تشي بإمكانية ان تكون تغميزاً او تلميحاً تقوية للوائح التيار التي سميت «لوائح العهد» والتي قرأ فيها كثر نوعاً من الابتزاز النفسي والعاطفي. فاللائحة التي تحمل اسم العهد تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على ذهنية الناخب الذي قد يعتبر نفسه أخلّ في رؤيته السياسية فيما لو لم يصوّت لمن يؤيد رئيس البلاد ميشال عون.
خلت كلمة الرئيس ميشال عون من أي إشارة توحي بانه يخرج لدعم فريق على آخر خصوصاً فريقه. هذه المهمة كانت ربما أسهل على كل أسلافه في لحظة استحقاق وطني من هذا النوع كان يمكن لأي رئيس جمهورية أن ينحاز بممارسات محددة لحزبه لكن الاحتراف في ممارسة المهام الرئاسية جعل عون نموذجاً فريداً في الساحة السياسية اللبنانية الشديدة التأثر بكل ما يدور فيها.
بالنظر الى رئيسي مجلس النواب والوزراء اللذين يمثلان أيضاً كل لبنان تشاء الظروف ان يكون كلٌّ من الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري مرشحين للانتخابات النيابية، لكن فصل الأدوار والمهمات لم تكن سهلة على الإطلاق بالنسبة للرجلين اللذين اضطرّا للخوض في غمار الحديث عن اللعبة الانتخابية في أكثر من مناسبة. بمقارنة سلوك سعد الحريري الانتخابي فقد غابت غياباً كلياً المحطات التي تجعل منه رئيساً للوزراء او رئيساً لكل اللبنانيين. فقد طغى شكل سعد المرشح الذي يلتقي بالبيروتيين ويسعى لكسب أصواتهم. المهمة ليست سهلة على الرؤساء الثلاثة ولا يحسدون على كون ممارسة مهامهم الوطنية تتعارض بساعات النهار مع ممارسة حقوقهم كمرشحين أو بالحد الأدنى كرؤساء أحزاب، إلا ان احتراف عون الحياد الكامل يجعل قراءة سلوكه السياسي في هذا الظرف محطة تستحق التوقف عندها.
كانت كل الخشية بعد انتخاب عون رئيساً للجمهورية ان يؤثر ذلك على الانتخابات النيابية وأن يتمّ استغلال موقعه لدعم فريق على حساب آخر، أصلاً كانت كل حجة عدم الإتيان برئيس يمثل حزباً على مدار السنين هو أن يتم تحييد الرئاسة عن التمثيل الشعبي لئلا تكرّس لتوظيف مشاريع سياسية حزبية وتتفرّد، فتقوى أحزاب مسيحية على حساب أخرى.
عون وبكل ضمير خاطب اللبنانيين وأثر فيهم بتقاسيم وجه حازمة تدعو من القلب اللبنانيين للاستماع الى وصايا تكاد تشبه وصايا الأنبياء للرعايا. فهذه الوصايا تشبه الى حد بعيد أسس ومرتكزات الرؤيا للعمل السياسي المحلي في كل الأزمنة وليس فقط في زمن الانتخابات.
ومن أبرز ما قاله عون إن «الانتخاب واجب وطني وفعل وجود والطريق الوحيد للتغيير ويجب التحرّر من «وسائل الضغط والإغراء التي تُفسد الضمائر»، وعدم الاقتراع «لمن يدفع ويسخو بالمكرمات»، مؤكداً للبنانيين أن «من يشتركم يبعكم، ومن يبع المواطن فليس صعباً عليه أن يبيع الوطن».
عليكم بنبذ «من يؤجّج المشاعر الطائفية والعصبيات لأنه يتلاعب باستقرار الوطن»، والى المرشحين «خاطبوا عقول الناخبين لا غرائزهم».. نصائح بالجملة تحكي ما يجول في بال كل مقترع، لكن أبرز ما يلفت هو تشديده على «بيع الوطن». فمن يشتر صوت الناس يبعهم ويبع الوطن. تلك النصائح الأبوية والأخوية التي يطلقها عون مع أمل كبير بأن يسمعوا كلامه الذي بدا توجيهياً صرفاً.
خطاب ضمير وحيادية واحتراف في إدارة مرحلة قد تكون الأدق في تاريخ السياسة اللبنانية، منذ ما بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، يحمل عون راية توحيد الناس ويرشدهم الى ضرورة ممارسة العمل الديمقراطي بعيداً عن أي نوع من أنواع الخطابات الشكلية التي اعتاد عليها اللبنانيون. ولا تُخفى على عون التجاوزات التي تجري من هنا او هناك، لكنه يدعو كل ضمير حرّ أن لا تدعها تخدعه فهو قادر على التغيير الحقيقي.
إنجاز العهد الأول هو «قانون الانتخاب» إنجاز ميشال عون الرسمي والذي أطلق أول نماذج القوانين التي حققت حلمه بعد التحرير، من قوانين نسبت لسلطة الوصاية. وهو اليوم ينادي بتحرير الضمائر بكل ما أمكن من طاقات وقوى محملاً الشباب بشكل خاص وكل لبناني بشكل عام أمانة الوطن.