أي لبنان يريدُ إلغاء أدوار سورية؟
د. وفيق إبراهيم
جولة وزير الخارجية الأميركية الجديد بومبيو الشرق أوسطية، ليست لمجرد التعارف، لقد حمل الرجل معه مشروعاً عنوانه «ممنوعٌ إسقاط الدور الأميركي في بلاد الشام». ووسائل تنفيذه متنوّعة، تخلط بين العسكري والسياسي والاستراتيجي… للبنان فيها حصص وازنة لأنه «الجار المدلل» بطل «السلفي» و»الخرزة الزرقاء» والعباءات الخليجية المذهّبة.
ما هي الخطة ومنْ هم المشاركون فيها؟
لم يُخفِ رجل المخابرات في وزارة الخارجية الإعلان أن بلاده تريد التعاون مع «إسرائيل» والأردن والعراق وتركيا ولبنان لتنظيم إجراءات عسكرية حدودية تمنع حركة الإرهاب من سورية وإليها. إلى جانب تعاون عسكري مع الفرنسيين والبريطانيين في شرق الفرات، والسعوديين والإماراتيين على مستويين عسكري وتمويلي ومصر والمغرب سياسياً.. فيصبح عدد الدول المشاركة في خطة بومبيو تسع دول عربية، و»إسرائيل» وتركيا والكرد وفرنسا والقوات الأميركية وبريطانيا.
تعمل هذه الخطة من منطقتين: حدود سورية مع كامل جوارها باستثناء البحر عند الساحل غير الممكن حصاره إلا من عمقه في البحر المتوسط. وهذا يهدّد التهدئة الحالية بين السلاحين البحريين لروسيا وأميركا. وقد لا تعتبره القواعد الروسية في حميميم وطرطوس عملاً مقبولاً. لذلك تريد واشنطن من «إسرائيل» إعداد قوات خاصة دائمة عند نقاط التقاء الجولان المحتل بسورية ترتبط بشبكة طيران مستقرة بشكل دائم.. لإجهاض أي دور عسكري أو مقاوم لإيران وسورية وحزب الله في هذه المنطقة أو في جوارها بعمق خمسين كيلومتراً. من دون نسيان التفاهمات مع روسيا التي تُفضّ الطرق عن أي استهداف إسرائيلي لقوافل ومراكز لحزب الله وإيران في أي ناحية سورية.. وأما الأردن فيحمل على منكبيه هموم الدنيا. لأن استمرار العرش الهاشمي مرهون بمدى إرضاء أميركا والسعودية. الأولى عسكرياً والثانية تمويلياً وإسلامياً.. ويعرب بن قحطان! لذلك يعمل الأردن بقوات تمزج بين وحدات من مخابراته وألوية الطليعة في جيشه ومتطوّعي العشائر ومموهين من داعش والنصرة على تعبئة فراغات المنطقة الممتدة من الحدود حتى مدينة درعا عاصمة حوران لإحداث حصار حادّ يمنع الدولة السورية من الاستفادة من حدودها المفتوحة مع الجار الهاشمي. لجهة العراق.. يعمل الجيش الأميركي في قاعدة التنف وعمقها الأردني ـ العراقي على إقفال الطرق أمام الدولة السورية ومعها روسيا وإيران للوصول إلى العراق.. وللحديث صلة.
يتبقى نحو 180 كيلومتراً من الحدود العراقية ـ السورية يتولى الأكراد إقفالها عسكرياً انطلاقاً من قواعدهم في شرق الفرات.. وما مباشرتهم السيطرة العسكرية على قرى في شرق دير الزور وجنوبه، إلا بداية الجزء الكردي من الخطة أي إلغاء الحدود العراقية أمام سورية وحلفائها الإيرانيين والروس.
على مستوى الحدود الشرقية، فهي تابعةٌ للدور الكردي المتعهّد أصلاً بإقفالها في وجه سورية لاعتبارات خاصة بمشروعه التقسيمي ولتلبية أوامر الصديق الجديد بومبيو وشركاه في ممالك الرمال والتيه.
أما موضوع الشمال السوري، فقسمِهُ الشرقي بعهدة الأميركيين والأكراد وفرنجة فرنسا، الذين التحقوا مؤخراً بالمشروع بحثاً عن دور جديد «لدردبيس القارة العجوز» التي بلغت من العمر «عتياً» ولا تزال تتصابى.
يتبقى الجزء الغربي من الحدود الشمالية، وهو بعهدة ورثة السلاطين الذين يسيطرون عليه بشكل كامل، ولا يسمحون حتى للذباب باستعماله إلا بعد فحصه من قبل مخابرات الصدر الأعظم.. والأتراك يؤدون دور فصل الدولة السورية عن شمالها من دون طلب أميركي، فكيف يكون الحال مع وجود إصرار أميركي عليه.. إنه يوم المنى للأتراك الحالمين بضم بعض الشمال إلى لواء الاسكندرون السليب..
لذلك تبدو وظائف محاصرة الدولة السورية شبه كاملة باستثناء الساحل السوري.. ولبنان الشقيق.
ماذا عن الساحل السوري؟ لأنه يطلّ على أكبر وأهم بحر في العالم. فهو خاضع لنظام مراقبة أميركي غربي إسرائيلي دقيق جداً ومتخصّص حتى بحركة انتقال الذباب. ما يعني أنّ استعماله بطرق غير مرئية، صعب جداً، واستخداماته العلنية، من قبل الروس تحديداً، قد تكون مسموحة بسبب التوازن العسكري بين القوى، المتناقضة لكنها سرعان ما تصبح قليلة الفاعلية عندما تصبح مكشوفة.
تتبقى بلاد الأرز المنشغلة حتى عظامها بالانتخابات النيابية. لكن هذه الانهماكات لم توفرها ولو موقتاً من أوامر الولي «بومبيو». الذي وضع لبنان في خانة الدول التي يجب التنسيق معها في المناطق الحدودية.
يوحي هذا الكلام الأميركي بوجود دولة لبنانية موالية لواشنطن.. ويبدو أنه يعتمد على السعوديين لإقناع أبطال «السلفي» والخرزة الزرقاء بتبني فكرة الحصار. ولن ينسى بالطبع الدور الفرنسي الجديد بإقناع رئاسة الجمهورية وتياره الوطني الحر.. قد يحتاج الأمر إلى «فبركة» للتغطية وهي بالفعل موجودة.. فماذا لو رفع اللبنانيون شعار حماية البلاد من خطر الإرهاب مواصلين سياسة عدم التفاوض مع الدولة السورية، والتمسك بالنازحين السوريين وعدم السماح لهم بالعودة إلى بلادهم بذرائع تثير قهقهة السامعين وتلبي شروط المؤتمرات الدولية في بروكسل وجنيف وأماكن أخرى غير مرئية في أقبية المخابرات التي تعمل على إطالة عمر الأزمة السورية بتمديد إقامة النازحين في بلدان الاستضافة من دون وجود مبررات أمنية أو حياتية. فهم أصلاً لا يتمتعون برغد الحياة في محابس تركيا والأردن وفوضى لبنان. ويعيشون من «قلة الموت» مع تنفيذ حركة صياح مفتوح ودائم لتعذر العمل والمعاش.
للأمانة، فإن تيار العماد عون رفض القرارات الدولية بإبقاء النازحين في مغترباتهم. لكن حزب المستقبل السعودي الهوى يتمسك بهم متذرعاً بعدم وجود الأمن في سورية وافتقارها إلى بنى تحتية ملائمة. والسؤال المطروح يتعلق بالفارق بين مناطق الدولة السورية حيث الأمان والنظافة والاقتصاد المقبول وعدم وجود ديون على الدولة، مقابل حريرية سياسية سعودية، استدانت باسم لبنان 92 مليار دولار، ولم تتمكّن من تأمين الأمن ومعالجة النفايات المنتشرة بين الناس ولا وجود للمياه الدائمة والكهرباء الغائبة، على الرغم من وجود الخرزة الزرقاء التي لا تحمي إلا «أصحاب النزاهة والاستقامة».
وبذلك يكون الوزير بومبيو على وشك تنفيذ خطته بمحاصرة سورية.. أو بشكل أوضح محاصرة الدورين الإيراني والروسي الطامحين بعد الانتصارات العسكرية إلى فتح طرق جيوبولتيكية قد تكون الأقوى في العالم على مستويات ثلاثة اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً. وهذا له استتباعاته على أحادية الدور الأميركي في العالم الذي قد تؤدي خسارته في سورية إلى تصدعه إلى ثنائيات قوة أو حتى رباعيات.
يمتد الخط المذكور جيئة وذهاباً من لبنان إلى سورية فالعراق وإيران وروسيا. ويتفرّع من موسكو نحو الصين والهند.. فماذا يتبقى للهيمنة الأميركية على العالم..؟
ضمن هذا الإطار، تجب قراءة محاولة حصار سورية داخل قسم من أراضيها.. بالإضافة إلى وجود إصرار أميركي على منع التنسيق حتى بحدوده الدنيا بين دمشق وبغداد، لِما له من تداعيات على الدور السعودي في شبه جزيرة العرب.
فهل هذا ممكن:
إقفال الخط الحدودي بين العراق وسورية صعب جداً لوجود مراكز أساسية في الدولتين تصران على فتحه.. وهي قوى مدعومة من الروسي والإيراني.. وربما الصيني، ولديها من المقومات ما يجعلها قادرة على هذا الفتح، في إطار تسعير الخلاف الإيراني الأميركي في الميدان العراقي.
كما أنّ الحدود اللبنانية لا يمتلكها صاحب الخرزة الزرقاء السعودي منفرداً.. هناك حزب الله بما يمثله من مركز قوة أساسي لن يسمح بهذه الشعوذات. ورئاسة الجمهورية لن تدخل في نزاعات داخلية قد تلقي بأثرها على العهد بكامله.
لجهة تركيا فهي تُمسك بالحدود لمصلحتها الخاصة وليس في إطار مشروع بومبيو.. وكلما تأزمت علاقاتها بالأميركيين، تطوّرت علاقاتها بالروس.. وهذا يصبّ في إطار تحسين العلاقات مع موسكو.
أما الهاشميون فليسوا أكثر من دمى تقرأ توازنات القوى وتحتاط في كثير من الأوقات بتبني أسلوب «التقية» للتحايل على الأوامر السعودية ـ الأميركية ـ الإسرائيلية.
يتبقى «إسرائيل». وهنا فإن الدولة السورية هي التي لا تريد فتح الطريق إلى الجولان المحتل إلا بعد تحرير، من الاحتلال الإسرائيلي.. لذلك فهو خط ضعيف في خطة «بومبيو» يرهق حليفته «إسرائيل» ويعزز الدور الوطني العروبي لسورية.
ما يمكن استنتاجه بعجالة أنّ خطة بومبيو هي كالاسبيرين الموصوف لمريض بالسرطان: يوهم نفسه بالشفاء وهو ذاهب إلى المولات مقابل إسراع الحلف السوري ـ الروسي ـ الإيراني مع حزب الله لتشكيل منظومة إقليمية لها تأثيرها على مسألتين: السياسات الإقليمية وانهيار النفوذ الأميركي في المشرق وحبته الزرقاء في لبنان.