ما بين «وكالة عطيّة» و«صهاريج اللؤلؤ»… خيري شلبي يترك خطّ وجعنا مفتوحاً!
د. فايزة حلمي
المتصفّح أوراقه الحياتية ونبتاته الفكريّة، يجد أنه كان القيثارة التي عزفت آلام المُهمّشين ألحاناً متباينة، والفرشاة التي رسمت معاناتهم، ويا للعجب بألوان البهجة، راصدة دقائق ما كان لمبدع التقاطها بهذه الدقّة ما لم يكن رادار إحساسه مُتّسع المدى، ليرّصد لنا واقع المطحونين الفاقدين اتّزانهم بفعل دورانهم بدوّاماتهم اليومية، ولوجدان كاتبنا كاميرا تسجّل لحظات هذه الفئة المُعاشة، مثل لقطة توقّف بها الزمن ليلتقط المعنى.
والمُحاول رسم ملامح نفسيّة لكاتبنا، عليه فقط الإمعان لنظرة عينيه بصوره، ليكتشف كم الثقة بالنفس المُتشبّع بالرضا الذي يطلّ علينا به، إنها ليست نظرة تصويرية، بقدر ما هي بئريّة العُمق، واضحة التسامي فوق الأوجاع بكل ترانيمها الوخزيّة على روحه التي تدثّرت بالحبّ سياجاً حانياً، متضافراً بلا محدودية ثقة بالنفس أكسبته صلابة نفسية نابعة من روافد أسريّة دعّمت تقديره لذاته، فامتلأت أروقة وجدانه وفكره بثراء معرفي مُشبع، أغناه عن الثراء المادي الذي لم يشعر يوماً بافتقاد توافره.. وما سعى ليُدركه، وما استشعر قلقاً من تقلّبات الحياة، فقد أستمتع بأرجوحتها صعوداً وهبوطاً، وما غيّرته عن ثباته أيّاً كان موقعه من الإعراب المادي فيها، فيكفيه كثرة روافده الفكريّة التي ثبّتته كالوتد لا تزعزعه رياح الحياة، فأوجدت لديه مناعة نفسيّة يواجه بها المُراقبين لقاربه المُبحر بمحيطات المُعدمين الذين يمتهنون الأعمال الأقل شأناً وعائداً، ليرصد بدقّة ومُعايشة أصيلة لمعاناتهم ومعها أحلامهم العصيّة على التحقّق.
خيري شلبي كأصداف المحيطات، كلّما مرّ عليه حدث، استنبت داخله لؤلؤة فكرية سرعان ما يصدّرها لنا باكتمال نضجها، بصرف النظر عن حجمها، حسب ما صادفه. فأحياناً تكون اللؤلؤة قصة قصيرة وأحايين أخرى رواية. وقد يكتفي بمقال، فما تركه لآلئ تتزيّن بها العقول التي تقتنيها.. وكلّما مضى بمساراته الحياتيّة كلّما أرسل لنا يمامات الأحبار الصادحات أسراباً تحمل لنا أحلام فئة سرمديّة المعاناة.
وبصرف النظر عن المكان والزمان اللذين جاء فيهما هذا الفنان الذي قارب أن يكون شاملاً، فقد أنتج لنا تشكيلة مواصفات إنسانية، هي كوكتيل بأريج مزيج من العطور تتسامى في لحظات الإلهام، فتُبدع لنا إنتاجاً بألوان طيفية من الصعب فصل ألوانها بعضها عن بعض، فتداخل الأنواع الإبداعية لديه أضفى غلالة انبهرنا بها معاً من دون أن يستأثر بوجداننا أحد أشكال الإبداع، بل ها هو المبدع الذي يُحتفى به اليوم، هو العازف المُنفرد لكل هذه الألوان التناغمية باحترافية متفرّدة، أوجبت حصوله على عدد من الجوائز كتكريمات لمتناولاته ذات المذاق المميز.
والمُلاحِظ شخصية المُبدع خيري شلبي، يجد لديه قدرة استغنائية عن المديح سواء من النقّاد أو ممن حوله، فهو يكتب ما يعن له ويبلوره بالكيفية التي يراها، دونما تنميق متعمّد ولا صنعة مقصود بها خروج مُنتجه الفكري في قالب طبقاً لمواصفات مرضي عنها من النقّاد، لا، فهو يكتب بتلقائية وعفوية أكسبته إيّاها تراكميّة ثقافية أصيلة مُستندة على أساس له سمة الثبات.
ونحن نستطيع أن نتعلم الكثير من كتابات خيري شلبي، وهو لم يكن يعنيه ولا يشغل فكره أن توجّه كتاباته رسائل إرشاديّة لقرائه، ولكنّها قامت بهذا الدور عن غير قصد فنحن لا نستطيع الإمساك به قاب قوسين أو أدني من إرشادنا، لكنّه ببساطة يعلّمنا عن غير قصد أن الإخلاص في العمل يؤتي ثماره، فهو لم يسع لشهرة ولا للحصول على منصب، ومع ذلك ها نحن هنا اليوم جميعا نتحدّث عنه، بأنّه كان من أبرع الكتّاب وصفاً للمجتمع المصري ثقافيّاً، اجتماعياً، اقتصادياً وسياسياً بأسلوب ليس له نظير، فقد كان من أوائل من كتبوا ما يسمى الآن بالواقعية السحرية، حيث يصل الواقع إلى مستوى الأسطورة، وتنزل الأسطورة إلى مستوى الواقع.
والكثيرون سوف يتناولون كتاباته التي قاربت على سبعين، ما بين الروايات والمقالات النقدية، ومجموعات القصص القصيرة وغيره من صور نثرياته التي أبهرت الكثيرين، حتى أنه حصل على جائزة نجيب محفوظ عام 2003 عن روايته «وكالة عطيّة» والتي تُرجمت إلى اللغة الإنجليزية تحت اسم «بيت الضيافة».
وحصلت هذه الرواية على جائزة أفضل رواية عربية عام 1993، وقد أدرج اتحاد الأدباء العرب «The Lodging House» كواحد من أفضل 105 كتاب. وقد تُرجمت أكثر من رواية لكثير من اللغات مثل الروسية والإيطالية والفرنسية والإنكليزية.
الجوائز
ـ حاصل على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 1980 ـ 1981.
ـ حاصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1980 ـ 1981.
ـ حاصل على جائزة أفضل رواية عربية عن رواية «وكالة عطيّة» 1993.
ـ حاصل على الجائزة الأولى لإتحاد الكتاب للتفوق عام 2002.
ـ حاصل على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأميركية في القاهرة عن رواية «وكالة عطيّة»، 2003.
ـ حاصل على جائزة أفضل كتاب عربي من «معرض القاهرة للكتاب» عن رواية «صهاريج اللؤلؤ»، 2002.
ـ حاصل على جائزة «الدولة التقديرية في الآداب»، 2005 .
ـ رشّحته مؤسسة «إمباسادورز» الكندية للحصول على جائزة «نوبل للآداب».
ـ تولّى رئاسة تحرير مجلة الشعر لوزارة الإعلام لسنوات عدّة.
ـ تولّى حتى رحيله رئاسة تحرير سلسلة: مكتبة الدراسات الشعبية الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة وزارة الثقافة .
من أشهر رواياته: «السنيورة»، «الأوباش»، «الشطّار»، «الوتد»، «العراوي»، «فرعان من الصبّار»، «موال البيات والنوم»، «ثلاثية الأمالي: أولنا ولد ـ وثانينا الكومى ـ وثالثنا الورق»، «بغلة العرش»، «لحس العتب»، «منامات عم أحمد السمّاك»، «موت عباءة»، «بطن البقرة»، «صهاريج اللؤلؤ»، «نعناع الجناين».
إحدى روايات المُبدع المُتنوّع المُتفرّد الأستاذ خيري شلبي «رحلات الزمن للرجل الذي قام ببيع المخلّلات والحلويّات» نُشرت في عام 1991، وتُرجمت إلى اللغة الإنكليزية عام 2010 من قبل مايكل كوبرسون على أجزاء، ويبدو نمط الكتابة مُطوّلاً، على الأرجح لأن المترجم بقي قريباً جداً من النصّ العربي الأصلي.
وترجمات المترجم تستحق القراءة لأنّها تشرح صعوبة القرارات التي يتعين على المُترجم القيام بها للحفاظ على الترجمة القريبة من الأصل، مع جعله جذّاباً للقراء.
وهي ليست في الحقيقة رواية تاريخية، بل قصة سريالية، وتتطلّب رواية «السفر عبر الزمن» قراءة دقيقة ومدروسة من أجل التقاط ما بها من الخفايا.
هي عن ابن شلبي، مثل العديد من المصريين، يبحث عن وظيفة ومع ذلك، وعلى عكس معظم مواطنيه، فهو عرضة للاضطرابات المفاجئة في الوقت، ومسلّحاً بحقيبتة الموثوق بها وساعة يده ذات التقويم الإسلامي، وثب بشكل لا يمكن السيطرة عليه خلال العصور الفاطمية والأيوبية والمملوكية، مع زيارات متكرّرة ومتباعدة للتسعينيات.
وعلى طول الطريق، يلتقي المشاهير مثل جوهر، مؤسس القاهرة. كما يصادف مسافرين آخرين، بمن فيهم المؤرخ المقريزي، وبعد أن فشل مسجّله الكاسيت في التأثير على الخليفة الفاطمي، وجد نفسه محاصراً في القرن الثالث عشر، ينضم إلى البرابرة أكلة لحوم البشر، وأسرى الحرب الذين استولوا على مخزن اللافتات الضخم وأقاموا دولتهم الخاصة في تحدٍّ للنظام المملوكي، فاضطر ابن شلبي للعب دور العميل المزدوج، وقُبض عليه في الصراع بين الثائرين والسلالة الحاكمة.
نجدها عن رجل مصري عادي في العصر الحديث يمكنه السفر عبر الزمن ولا سيطرة لديه على نفسه عندما يُلقى به في الماضي أو المستقبل، وعليه النظر لساعة يده لمعرفة ما هو عليه العام.
بالطبع هي قصة سريالية، والشخصية الرئيسة في الرواية هو البطل الذي دائما مُحاطاً بالفوضى، ومع ذلك تمكّن من مراقبة كل التفاصيل في محيطه وهو ذكي، وشخصية مسليّة يخلط مراراً وتكراراً الشخصيات التاريخية بظواهر العصر الحديث.
وقد تبدو القصة مفكّكة ومُربكة على رغم أن هذا يمكن أن يكون هو هدف المؤلّف.
رواية أخرى مُترجمة له «وكالة عطيّة»، حصلت على جائزة نجيب محفوظ للأدب عام 2003، وشملت الجائزة ترجمة ونشر العمل باللغة الإنكليزية من قبل الجامعة الأميركية في القاهرة. وقام فاروق عبد الوهاب هو الاسم المُستعار لفاروق مصطفي ، أستاذ محاضر ابن رشد في اللغة العربية في جامعة شيكاغو بترجمة الرواية تحت إسم «دار الضيافة» The Lodging House .
وقد فاز فاروق عبد الوهاب بجائزة سيف غباش بانيبال للترجمة الأدبية العربية لترجمته للرواية، التي نشرتها الجامعة الأميركية في القاهرة تحت عنوان «The Lodging House».
وتعكس هاتان الجائزتان الرئيستان إنجازات كلّ من شلبي في كتابة روايته الرائعة وفاروق عبد الوهاب في إضفاء الحيوية على ترجمة الرواية باللغة الإنكليزية.
والرواية عن شاب صغير، واحد من جيل الفلاحين وفقراء المدن الذين يرتفعون مع إتّساع نطاق التعليم، تحطّمت أحلامه لمستقبل أفضل كطالب في معهد المعلمين بعد أن اعتدى على أحد معلميه للتمييز ضدّه، ومنذ هذا الحين فصاعداً، يبدأ هبوطه إلى العالم السفلي، فيسعى للحصول على مأوى في «وكالة عطيّة»، وهو كان عبارة عن فندق تاريخي في مدينة دمنهور، ولكنه الآن ممتلئ تماماً وأصبح موطناً للشخصيات الهامشية والمحرومة في المدينة.
تأخذ هذه الرواية الحائزة على الجوائز أبعاداً ملحميّة، فهي خلاصة حكيمة وفوضوية وحيوية ومتعاطفة للحياة في أكثر صورها اضطراباً وأشدّها حماسة، بينما يرافقنا الراوي في رحلة إلى هذا العالم السُفلي، حيث يصوّر الشخصيات العديدة التي تسكنه من خلال متاهة من الحكايات بينما يتعمّق أكثر في علاقاته المعقدة، تذكّرنا بالتقليد العربي الشعبي في رواية القصص، نحن ندخل إلى هذه الكائنات الهامشية، التي تتذبذب حياتها بين الواقعية الرائعة، المعاصرة والخالدة، والعلاقة بين الطبقة الوسطى المُهمّشة حديثاً والطبقة الشعبية الهامشية بالفعل، وبينما يبدأ الراوي كمشاهد لحياة هؤلاء الأشخاص، سرعان ما أصبح جزءًا لا يتجزأ من مجتمع المأوى.
وتعطي الرواية السخيّة المبهجة صورة حيّة للمدينة وعلاقتها بالمناطق الريفية النائية، حيث يستقطب المؤلّف بشكل مُقنع عالماً من الأشخاص الذين يتنقلون باستمرار، مثل الفلاحين، أو الطلاب، أو التجّار، أو العرافين أو الغجر أو الأفندي أو الشيوخ أو الدراويش، وهناك شعور قوي بالمكان والروائح والأصوات والمشاهد في شوارع وأحياء المدينة.
ورواية متميّزة أخرى له: «نادل الحشيش». قال آدم طالب، الذي ترجم «نادل الحشيش»: الأمر الأكثر متعة والأكثر صعوبة حول نثر خيري هو الطريقة التي يمزج بها مستويات اللغة في جملة أو فقرة واحدة، ولا يدخل خيري في الأشياء التنبوئية أو الفلسفية أو الساذجة، يبدو أن هناك الكثير من المرح عندما يكتب، أعتقد أن ما أحاول قوله هو أن خيري لا يقضي الكثير من الوقت في البحث عن القصة، ولا ينظر فوق كتفه مثل بعض الكتاب وهو لا ينفق الكثير من الطاقة التي تقلق بشأن ما سيقوله النقّاد، لم أسأله، لكنني متأكد من أنه لم يقض يوماً تفكيراً لمدة ثانية حول كيف قد يبدو هذا عند ترجمته.
ولا تزال الروايات العربية تجري محادثة مع الثقافة بشكل عام فهي متداخلة للغاية، وهي تنعكس في أسلوب الرواية، وخيري شلبي فنان مهم وناقد جيد أيضاً، لكنه لا يدخل لهذا النوع من الأشياء، خيري يحاول أن يُظهر أن الروايات لا يجب أن تكون فكرية بشكل واضح، أو حول المثقفين، للتعامل مع المسائل السياسية والاجتماعية الهامة بطريقة معقّدة للغاية.
ورواية نادل الحشيش تحكي عن مجموعة من المثقفين تعيش في حي متهدّم، بعيداً عن الأنظار المتواجدة في وسط القاهرة المعاصرة، حيث يجتمعون بانتظام لتدخين الحشيش في وكر يُسمى «حكيم»، وهذا الوكر هو مركز حياتهم، ملجأ ومأوى، وفي وسطه يوجد رجل ملحوظ هو الذي يحافظ على أوعية الحشيش الخاصة بهم متوهّجة على صفير صالح.
في حين أن حياته السابقة تمثل لغزاً لزبائنه المخلصين من الكتّاب والرسامين والمخرجين السينمائيين وحتى المصمّمين، فإن كل واحد منهم يرى نفسه ينعكس في صالح. ولكن من دون روح الدعابة، أو التواضع، أو البصيرة، أو مشاعره العرضّية.
والشخصيات في الرواية متعدّدة الثقافات بشكل مذهل: هناك مصريون وأوروبيون وعرب خليجيون، وهناك تنوع كبير بين الشخصيات المصرية من ذوي التعليم العالي إلى فقراء الحضر إلى المزارعين الريفيّين.
هذه رواية كوميدية ذات قلب مكسور جداً مثل صالح نفسه، الذي يصرخ صوته الخشن الحار بعد فترة طويلة من تعافينا من خاتمة الرواية المؤلمة.
يقدّم ناشر الحشيش قراءة مُسلية بالإضافة إلى عدسة قديمة جديدة نطلّ منها على الحياة في مصر المعاصرة. المصري اليوم الطبعة الإنكليزية.
مستشارة نفسيّة وتربويّة