«العنب الاسود» لمحمد السباهي… رواية تجعلك تفكر كثيراً

حمدي العطار

لا أحد يعرف كلّ الروايات التي تستحق القراءة! لكنّني وجدت نفسي أمام رواية «العنب الأسود» للكاتب محمد السباهي، مجبراً على اقتناءها أوّلاً، وبحكم امتلاكها كان لا بدّ من قراءتها ولم أشعر بالندم!

ليس في ذلك انتقاص للرواية، بل من حسن حظّي أن أحظى بهذه الرواية عن طريق الصدفة! فعندما تمّ شحن كتابي «إيران في عيون صحافيّ عربيّ» من دمشق ـ «دار أمل الجديدة للنشر»، يبدو أنهم قد أرسلوا مع كتابي تلك الرواية واختلطت بالخطأ أثناء التفتيش أو ما يشابه ذلك، فَوُضعت نُسخٌ عدّة من الرواية في صندوق يخصّ كتابي، وربما وُضعت نُسخٌ من كتابي في صندوق يخصّ محمد السباهي!

وكانت تلك النسخ المتعدّدة في مكتبتي وفي كلّ مرّة أنوي قراءة هذه الرواية التي أثارت اهتمامي بعنوانها «العنب الأسود» يصيبني نوع من حبّ التأجيل! إلى أن قرّرت هذه المرّة أن أنهي هذا التأجيل وأطّلع على ما كتبه محمد السباهي في روايته «العنب الأسود». ومن عادتي أن أصطحب معي رواية في رحلة، فقرّرت في رحلتي السليمانية أن يكون معي محمد السباهي.

في بداية الرواية أحسست أنّ أسلوب الكاتب الساخر جعلني أحسّ به يجلس مبتسماً وهو يصوغ عباراته بسردية تقترب رويداً رويداً، لتصل أوّلاً إلى القلب، ومنه إلى العقل، وجمال أسلوبه أجبرني على التركيز والتفكير العميق. أعطى الكاتب لكلّ فصل عنوان أغرب من الآخر، ففي الفصل الأوّل استعان بمقولة سيد طالب الخرسان «نحن الزبالة وأنتم صفائحها» ليتكلم عن التعذيب في سجون الأنظمة العربية الدكتاتورية: «يبدو أن جحور التحقيق أو التعذيب واحدة في هذه البلاد التي حباها الله برسالة الأنبياء وحبّ السماء!» هل توجد سخرية أكثر سوداوية من هذه العبارة؟

وتتوالى عبارت الاستهزاء والغرائبية في الحوار الداخلي ومع الآخرين: «إن المرأة خراب الثوري». وحينما يشبع البطل من الاستهزاء بكلّ شيء له علاقة بالنظام والأخلاق والقيم، يدير الدفة لانتقاد نفسه: «ربع معارض، ربع سياسيّ، ربع رجل دين… وسأخبركم بالربع الرابع في ما بعد»!

في هذا الفصل يبدأ البطل طرح رؤيته الخاصة عن الكتابة السردية، فلا يسمع نصائح الآخرين في التعليم. أسلوب السرد ويعدّه تقليداً وليس اكتساب معرفة، ويصرّ أن يكون مختلفاً عن الآخرين، وله بصمة مغايرة في فنّ السرد: «اقترح عليّ أن استأجر من متجر السرد، كاتباً متمرّساً في هذا النوع من السرد وكتابة السيرة، وبدأ يعدّد لي الأسماء المقترحة، خضير، حمزة، جابر، كزار، ضياء، سعد وسعيد.». ثم قال: «انتهى عصر التجريب الآن، هو تخريب للمنجز الروائيّ ولمشغل السرد»!

في سردية متشعّبة فيها عن النساء والأصدقاء والكتاب في علاقات افتراضية تفرضها قواعد السرد عند الروائيّ، لا تخلو صفحة من استعراضات انتقادية لاذعة عن أساليب التعبير والكتابة، وعن ذكريات البطل وهو في المعتقل وكيف يتم تعذيبه من قبل مدير السجن، وتحرّش السجناء به، ومحاولة مسؤول القاعة أن يجبره على النوم معه! «سنزفّك الليلة إلى الباشا، يا زبد، يا عنبر ورد. قلت: جيّد، دعوني أغتسل وأحلق لحيتي ولك ما تريد يا باشا. ركضت وتراكض السجناء، وأعدو مكاناً كي أغتسل، وبعد سهرة طويلة دخلت إلى فراش الباشا، وبالموسى التي كنت أحملها قطعت شرايين يد الباشا، وخرجت من مخدع الباشا وصحت بالحرس، الباشا انتحر، قطع شرايين يده»!

في فصول متتالية، يكشف البطل عن هويته من خلال حواره مع كتّاب آخرين بما يطرحونه من أفكار وبديهيات يحاول أن يدحضها. «في حوارية مع جان ماريتان يجب علينا أن نفرّق بين القوّة والسلطة، فالسلطة والقوّة أمران مختلفان، القوّة هي التي بواسطتها تستطيع أن تجبر الآخرين على طاعتك، في حين أنّ السلطة هي الحقّ في أن توجّه الآخرين أو أن تأمرهم بالاستماع إليك وطاعتك. السلطة تتطلّب قوّة، غير أنّ القوّة بلا سلطة ظلم واستبداد».

يستعرض البطل بسخريته التي أصبح المتلقّي قد اعتاد عليها حتى يعدّ كل ما مكتوب لا يعني إلا السخرية، لكنه أحياناً يجعلك تظنّ أنه في منتهى الجدّية، فيورد أمثلة يستخدمها «الإسلاميون» في أحاديثهم، كما يطلق مجموعة من المصطلحات التي يتعكّز إليها الماركسيون، مصطلحات يستخدمونها للدلالة على عمق الثقافة والاستعلاء والتبوّل المعرفي على الآخر الفوقية الثقافية ، من قبيل «ديالكتيك/ تكتيك/ استرتيجي/ الامبريالية/ المادية التاريخية/ المتروبول/ بلاشفة/ مناشفة/ تروتكسية/ انتهازية/ فوضوية/ اندحارية… لكنّني عجزت عن تخريج مصطلح وصمني به أحدهم «كولاكي»!

وبينما يجد البطل متّهماً من قبل الإسلاميين والماركسيين، يعلن عن هويته السياسية: «أنا أنتمي إلى الفكر الحرّ، فكر يختلف عن الأقكار المجيّرة تحت عناوين إيديولوجية معيّنة».

في الرواية، يحاول السباهي أن يستخدم التهكّم كأسلوب للتعبير عن رفضه الأخطاء في تطبيق الأفكار، فهناك خراب في الدين والسياسة والأدب والثقافة والمجتمع. وفي ثنايا روايته ذلك التهكّم الجميل الساخر: «وكأنّي بهم يقولون إن فهد قد سبق غيفارا في البحث عن طريق الحرّية والكفاح ضدّ الطبقية. فرحلة فهد إلى إيران والخليج وفلسطين ولبنان قد سبقت بحث غيفارا عن حلم المدينة الفاضلة».

ونرحل في المكوّنات الثقافية للكاتب من الأدب العالمي والأدب العربي والأدب المحلي، وحينما لا يجد الروائيّ شيئاً يتهكّم عليه بسخريته اللاذعة، يبدأ بالتهكّم على بطل روايته الذي يمثّل صوت السارد، لنرى حواره مع «الشيطان »: «قلت له: ويحك، ما بالك انزعجت، سفسطة أعلمها حتى يعلموا مقدار علمي، ويتحرّجوا من نقد ما أكتب، فيقولون: عالم ربّاني، أديب ربيب، بعج بطن اللغة. أو هم يقولون: بقر بطن العلم، وأنا وأبيك لم أبقر ولم أبعج سوى ما أنت به عليم، هل فهمت يا عليم؟ هل تظن أنه يمكن أن أرشّح لجائزة الدولة التشجيعية؟ قال شيطاني وهو يركل مؤخّرتي بحذائه الروغان الأخضر: ستُرشّح لنوبل، لكن عليك أن تزور إسرائيل أولاً!».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى