رواية «وردة مليتا» لربيع دهام… حكاية وطن فينا
رنا صادق
يطلّ علينا الكاتب ربيع دهام بروايته «وردة مليتا» الصادرة عن «دار أبعاد»، التي شاء أن يفتتحها ببراعم من قصيدة لمحمد الماغوط، وأهداها إلى كلّ من التحف الرمل والوديان، إلى كلّ من صبر وعمل وجاع، إلى كلّ من كان صرخة في وجه الظالم وصفعة على خدّ طامع محتل، وقال بأعلى صوته: «إنّ النصر آتٍ»، وإلى كلّ مقاوم…
«وردة مليتا» قصة «علي» و«عمر». «عمر» و«علي» وما بينهما من مسك غربة وطفولة، وفرقة الوطن المتفكك. هذه الحكاية ما بين «علي» ابن بنت جبيل و«عمر» ابن بيروت هي كقصة البيانو المتسكّع، قصّة الحلم الموسيقي الذي تكسّر حين داست قدما «عمر» أرض الوطن، وأخيراً قصة كواقع الوطن الذي قد اختار لهما طريقاً آخر غير «طريق النحل».
«علي» و«عمر» في رواية «وردة مليتا» جسّدا كلّ منّا. من يقرأ الرواية يتذكّر مشهداً قد سبق وعايشه، صادفه أو قابله في لبنان، لأنّ المشهد ليس بغريب على أيّ لبنانيّ. حتى أن هذا المشهد طبيعي وبات الشعب يروي ظمأه من الطائفية.
لذا، وعلى هامش الأحداث المتواترة في القصة، فإن الكاتب اختار أكثر ما قد يؤلم مواطناً عاش في لبنان، أي نعم «نحن» شعبٌ يعيش التجزئة والتقسيم، التقسيم المناطقي ما بين الجنوب وبيروت، فذلك وطن لأهله وتلك أرض لقاطنيها. المناطقية يا عزيزي القارئ ليست رواية، الطائفية يا سيدي القارئ لا دين لها، رسالة الرواية مجبولة بحبّ الوطن المنهزم للعقائدية وحنين إلى صداقة الغربة الحقيقية، التي دنّستها سياسة الوطن.
«وردة مليتا» بدأت أحداثها في مطار بيروت الدولي، فقد وصل «علي» و«عمر» متحمّسَين للتجوّل في البلاد بعد طول غياب هرباً من الحرب الأهلية. لكنّ التعثّر بمطبّات السياسة والطائفية في لبنان أمر سهل، فما كاد الشابان يصلان حتى ذهب كلّ منهما إلى «بلده». لأنّ «عمر» لا يمكنه الذهاب إلى بنت جبيل، فذلك خطر عليه بحسب سائق سيارة الأجرة… وغيره.
الرواية التي قسّمها الكاتب إلى أربعين فقرة، عبارة عن قصص صغيرة، مليئة بالأحداث والتفاصيل، ما بين أجراس العودة. و«وردة مليتا» شطورٌ من المطبّات و«الخوازيق» ـ كما يسمّيها «علي» ـ ويقول: «خازوق معدّل مطوّر محليّ الصنع!».
ولم يبخل الكاتب أبداً على لسان راويه أن يشرح لنا معنى كلمة «خازوق»، ولن نتطرّق إلى الشرح فكلّ لبنانيّ يعرف أصل الكلمة.
وسط زحمة المشاعر والحنين وتعصّب السائق الطائفي الذي نصح «عمر» بالذهاب إلى منطقته، بعد أن شرح لهما كيف أن «دين علي» يكنّ كرهاً لـ«دين عمر»! حينها، بدأ «علي» الرواي في الرواية يسأل نفسه: «هل هذا حقاً وطن السلام والمحبة الذي كتبه الأخوان الرحباني… والذي أنشدته فيروز؟».
وصف «علي» لحظة لقائه قريته أثقل الرواية بالمعاني والحنين، وفيها من الألم ما يكفي عمر غربة، حيث قال في الفقرة الثانية «بنت جبيل»: «… وصرت كمن يرى الحبيبة بعد طول غياب. يحضّر لها كلّ ما استطاع من أبيات غزل في الخدود وفي العيون، وينظر لحظة اللقاء المجنون. وحين تأتي اللحظة يصيبه الصمت وتضيع منه الكلمات…».
هناك في خضمّ اللقاء، صور وتشابيه وكنايات خدمت معنى النصّ وزادته تألقاً، وبدأت هنا رحلة «علي» مع أيام بلد غريب عجيب. بدأ معه من صور الشهداء الذين كان يسمع عنهم في وسائل الإعلام الغربي «الكاذبة».
ما بين القوة والشهادة، والشجاعة والعيش خيوط فاصلة، رآها «علي» وترجمها وتأثر بها شيئاً فشيئاً، وكأن ما في ذلك أصلاً كان موجوداً، حيث عبّر عن ذلك بالقول: «سبعة أيام مضت وحوالى ألف صورة شهيد، لأكتشف كم هو كاذب الإعلام الغربي. وتذكّرت أبي حين كان يحدّثني عن ذاك الإعلام الكاذب، وكيف أنه إعلام متحيّز يناصر الظالمين ويعادي المظلومين».
من هذا الحيّ وذاك، إلى تلك المنصّة وهذه البساتين، تنقّل «علي» في قريته والقرى المجاورة، لكنّ «عمر» صديق غربته لم يغب عن باله، كان دائم الحضور في باله. ويستوقفك حديثه في الفقرة الثالثة «مطعم بربر» حيث اتفق و«عمر» على اللقاء، فيقول: «… بعد أن سألت، علمت أن الصورة لرجل يدعى خالد علوان. وهو الذي كما علمت، قد أطلق الرصاصة الأولى على جنديّ إسرائيلي في بيروت بعد الاجتياح في عام 1982».
وبتابع: «غريب هذا البلد. فنّانو الغفلة وسياسيّوها صورهم في كلّ مكان. أما صورة رجل كهذا، ها هي تركن هناك، صغيرة خجولة لا يسلّم عليها أحد… وماذا لو يصنعون له أو منه تمثالاً؟ فإن رصاصات خالد قد انطلقت من مسدّسه وكتبت تاريخاً ومستقبلاً جديداً، وكفى».
ما بين هذه الأحداث وتلك، هضبات كثيرة جمعت «علي» بوطنه الغريب العجيب، وفرّقت أحاديث الصديقين، وأدخلت البرودة إلى لقاءاتهما.
بالعودة إلى العنونة، فهي مستوحاة من الحدث في نهاية الرواية بحسب الكاتب، وهي تتطابق وتتناسب مع الموضوع الرئيس للرواية، أي المقاومة.
بدأ بكتابة القصّة بعد حرب تموز، حيث أراد فيها أن يتناول بقدر المستطاع حياة المقاومين، وكيف أنهم شبان من أهل الضيع عكس ما يقول الإعلام المعادي أن معظمهم من هذه الدولة وذاك.
حيث يقول: «هذا انتقاص من قدرات شعبنا العظيمة إن واجهناها في الطريق الصحيح. والرواية أيضاً تتكلم عن لعنة الطائفية، وكيف أن صراعنا على السماء يفقدنا الأرض».
أما العلاقات الشخصية بين أبطال الرواية، فيقول دهام: بعضها صحيح وبعضها خياليّ لحاجات الرواية. أمّا الأماكن ، فإن بيت جدّي وجدّتي في الرواية هو بيتهما الحقيقي لكن في منطقة مختلفة. ومحل الاتصالات كان المحل الذي كنت أعمل فيه».
اختار دهام أسلوب السهل الممتنع لأنه في هذه الرواية يحمل رسالة إلى القارئ، وهدفه الوحيد محاولة إيصالها إلى عقله وقلبه. والأسلوب السهل الممتنع، أو السهل الممتع، بحسب دهام، هو الأسلوب الأنجح في ذلك. خصوصاً أنه يكتب للجيل الجديد، حامل المستقبل. وطريقة مخاطبة هذا الجيل مختلفة عن طريقة مخاطبة من سبقوه.
في نهاية الرواية، نجد بعضاً من القصائد في الفقرة الأخيرة التي تحمل عنوان الرواية، حيث يقول فيها:
ما لك؟
ما لك والعصافير؟
كنسر آتٍ إليك
آخذك عل أجنحتي وأطير
ما لك والعصافير؟
أنا الذي ينتظرك بجنون
يا فاتنتي… يا ساحرة العيون
ليس لي في الهوى سواك
وجهك… شعرك…عيناك
صوتك المتغلغل في دمي
اسمك المحفور على فمي
ينام كالليل ملء الجفون
يا فاتنتي.. يا ساحرة العيون
إن جئتك يوماً فاتحاً جناحي
حاملاً العمر بين يديّ
افتحي يديك وضمّيني
وعلى شعرك المنثور اِرميني
أراقصه وتغار العيون
أنا وأنت والدنيا…
إن ربيع دهام هو شاعر قبل أن يكون كاتباً، حيث يقول: «أنا بدأت كتابة الشعر قبل كتابتي الرواية. أحبّ الشعر كثيراً، وهو متوافق مع حبّي للموسيقى، ولا أرى الشعر بعيداً عن الموسيقى، وعن البساطة. لا أحبّ الشعر المتفائل أو المعقّد، والذي لا يصل ولا يمسّ إلّا بضعة أشخاص». وسأصدر ديواناً شعرياً قريباً. لكن كتابة الشعر لديّ لن تكون أبداً احترافاً، بل هواية. كما كتابة الرواية. أعلمك أيضاً أنني أكتب رواية جديدة تتناول مواضيع التمرّد والحرّية، وهي مختلطة بين الحقيقة والخيال».
وشاء دهام في نهاية الحديث الإشارة إلى أنّه قد ولد في بيت الله الروحي والفكري هو أنطون سعاده. ومن بحر هذا الفكر العظيم المبدع تأتي كتاباته، في المقاومة، في الحبّ العظيم، في الحرّية، وفي مهاجمة الفكر الطائفي الخطير.