اللاجئ الذي ارتكب إثم عشق البلاد!

طلال مرتضى

ـ أبعِد أيدك عنّي… أنت لا تحفظ الودّ.

وكأنّي بها ستصرخ، لهذا، وعلى عجالة، سحبت أصابعي من على مسامها. ثمّة صعقة كهربائية وصل رجعها حدّ قحف دماغي. «ما عهدتها بهذه الحدّية من قبل»، قلت.

لو حاولت نفي بيان سحنة الحزن الذي تلبّس وجهها وجسدها البضّ النحيل…

يعني هذا، أنني سأذهب بكم إلى باب خلق الأعذار الواهية للهروب من المسؤولية. من غير المجدي تبرير غياب عشرة أشهر وأكثر مكتظّة بالكثير الكثير من الانكسارات، واللوعات، والخسارات، هكذا بجرّة قلم مواربة النوايا.

أبي الذي كنت أردّد عليكم وصاياه على مدّ المرويّة أعلاه، يعرف هو الآخر مفاتن النساء عن ظهر سليقة. لهذا، ولدتُ كماه، وأحمل في تلافيف ذكرياتي الكثير، الكثير من إرثه التليد. كان يقول بلهجته البدوية المحبة: «يا ولدي، المرا ما بتكسرها إلّا مرا مثلها».

إيه… ها أنا أعبر بخبث غبن مفازات الكلام بضحكة مخاتلة، لا تشي إلا بخيبة وقعتُ في فخّها بإرادتي: «أي… الله لا يردّك». قلتها هذه المرّة بصوت مسموع.

قد تستهجن وأنت تمرّ هنا، كيف للمرء أن يشمت بذاته؟ أتدري… ها أنا أخاطبك من خارج نصّ الكلام، لا أريد جرّك قسراً إلى سياقات لا علاقة لك بها لا من بعيد ولا من قريب. أقولها لك وأنا أبصم لأبي البعيد بالأصابع العشر كلّها، نعم صدقت يا سيّد بالفعل: «ما بيكسر المرا إلّا مرا مثلها».

لكن، كان عليك أن تزيد يا أبي… ليس أصعب من أن يشمت المرء بنفسه. لم تنبّهني للأخيرة للأسف، وهذا سرّ مقتل الحكاية التي وقعت توّاً في فخّ فتنتها!

لا أدري هل تفي عبارة «أنا آسف» كتبرير لغياب عشرة أشهر مكتملة؟

هل كلمة «آسف» هذه تهبني في هذه العجالة صكّ رضاها؟

على افتراض لو أنها صفحت وتنازلت عن كامل حقوق أسئلتها المباحة، ربما يحصل هذا على مبدأ: «المسامح كريم».

يا الله… ما أطوع لغتنا… أكاد أغرق في بحر الضحك حدّ الاختناق. كيف لأنثى غاوية في كل ممكناتها أن تغفر لعابث هجرها لحول كامل من دون سبب، ليرتمي في عسل أنثى تالية تضاهيها في الغوايات والافتنان؟ هذا ليس إلا ضرب من جنون! لن ألومك وأنت تمرّ الآن في هذه السطور. لو تذمّرت أو تعاطفت معها، يحقّ لك كقارئ من خارج النصّ ما لا يحقّ لغيرك، ممّن لا تحرّك حبكات الكلام فيهم أيّ هزّة ناعسة تنشي سهب مخيلتهم!

هذا ما حصل بالفعل، أنا أخطأت… بالفعل كان خطئي فادحاً بما فيه الكفاية. لا تصدّقني لو قلت لك لقد غرّر بي، ثم تمّ جرّي إلى مطارح مختلفة لم أدلف ضفافها من قبل. بالمطلق، لقد ذهبت بإرادتي، أحمل وزري على كتفي.

بصراحة، تعال لنتحدّث خارجاً، نجلس هناك على هامش النصّ، بعيداً عن كل شيء. تعال لنتكلم رجلاً لرجل، لدينا من الوعي ما يكفي لحلّ مشكلة فلسطين.

ـ إيه… اِضحك… لا ضير… والله الدنيا فانية!

أعرف أنّ استحضار كلمة «فلسطين» الآن في عيون القارئ العليم لها حوامل بعيدة الأهداف والنوايا. وأنا أحاول جرّك إلى الفضفضة خارج نصّ الرواية. وأقول خارج نصّ الرواية، لأنني لا أريد الوقوع في قصص شهود العيان الذين يخترعهم كتّاب هذه الأيام ليبرّروا له أمام القرّاء كل افتعالاته، كونه المتحكم الأول والأخير في مفاتن الرويّ وخيوطه.

أدرك بفطرة الكلام أنك تقهقه ملء داخلك لهذرباتي هذه، وتمتمتك تلك أكاد أقبض على حروفها، حرفاً حرفاً في مطالع فمك: «هههههه… فلسطين يا ابن… على هامان يا فرعون… اذهب والعب غيرها يا شطّور… روح بيض بالعش اللي كنت تلهط من عسله. قال فلسطين قال، استغفر الله.. كلّما وقع كلب على رأسه، يركب موجة فلسطين. حلّ عن سمانا يا. فلسطين راحت مثل خيبتك اللي جاي تبرّرها بعد سنة».

ـ «سامحك الله… بشرفك أنا هيك؟».

هل أخطأت لمرّة تالية الآن؟

هذا السؤال طرحته في أوّل السطر من دون خوف أو وجل، وأنا آكل أصابعي ندماً. فالكاتب الذي رسم مسبقاً خطوط مرويّته من مطلعها إلى قفلتها الأخيرة بإمعان، ما كان عليه الرجوع إلى القارئ ليشركه تفاصيل غيابه أو حضوره، هذه مسألة تخصّه وحده هو، ككاتب يملك زمام الأمور كلّها من ألِفها إلى يائها.

وما حجّة فنّيات الكتابة التي يتغنّى بها النقّاد إلا مفاز حقّ يُراد به باطل. جلّ همّهم دسّ مناخيرهم في تبر النصّ المفتوح ليتفنّنوا بعداً باجتراع مفاتيح ما أنزل الله بها من سلطان ـ بحسب حجّتهم ـ لقياس منسوب التفاعلات والحركات الداخلية لنصّ المرويّة.

نعم… أنا مخطئ… والرجوع عن الخطأ كما قالوا فضيلة. كان عليَّ حزم كلّ تفاصيلي ورميها كما أردت أنا في وجه القارئ كما هي. وقتذاك، فليقل كلمة فصل، ولا ضير إن كانت سلباً أم إيجاباً بقوله: «هذا النصّ يعنيني».

حين حزمت حقائبي قبل أشهر عشرة سالفة وغادرت، لم أحسب لهذه اللحظة أيّ حساب. وقتذاك كانت روحي تغرق بعطر فريد لم تألفه من قبل على مرّ العتيّ من سنين العمر. لكنّني وبتخفّف أقولها، ذهبت بي وأنا بكامل حواسي إلى لجّة الغرق هذه. نعم، ذهبت بإرادتي إلى حتفي الشيق، مع أنني كنت متيقّناً أنّ غرقي هذا هو غرق لا رجعة ولا توبة منه، لهذا مشيت من دون أيّ التفاته إلى الوراء.

قولوا ما شئتم، فهذا لم يعد ينفع، ما حصل قد حصل ولا سبيل للهروب ممّا أنا به في هذه اللحظة.

المرأة التي وقعت وبكامل وعيي في شِباك فتنتها، لا تشبه أيّاً من النسوة اللاتي عاشرتهن قبلاً، أو تلك اللواتي اغتصَبن طفولتي ـ وقت يفاعتي ـ وتلذّذن بماء روحي.

هذه المرّة مختلفة كلّياً عن سابقاتها، لعبتُ على وتر السقوط الحرّ كما يقولون في مجازات الرياضة، لكن حساب «القرايا»، لم يتوافق مع حساب «السرايا».

كان عليَّ قبل الذهاب إلى جهة البعيد، ترك خطّ ناعم أتهجّأ من خلاله درب الرجوع. لكن عبثاً، هذا ما لم أنتبه إليه البتّة.

نهر العسل الذي دفق لمرّة واحدة كلّ سكر اشتهائه بي، كان كفيلاً بأن يدمّر مراكب رجوعي كلّها. فالوقوع تحت سطوة امرأة كاملة يعني اللاعودة في المجاز، لم أدرِ في برهة تفكّر ما، أنّ فتيل الشمعة وعسلها لا محال سيفترقان عند اشتداد اللهب.

ما من شعور بالندم ينتاب روحي. لهذا وجدتني أمام واقع لا يمكنني التخفّف منه تحت أيّ عذر.

كيف لي التخفّف من هذا وأنا الذي تهت الجغرافيا كلّها وعبرتها مشياً، بحثاً عن كسرة وطن بعدما غرقت البلاد في بلادة أهلها. بحثاً عن نقطة ارتكاز، لا ضير حتى وأن كانت وهمية ترتدي لبوس الافتراض، لكنها واقع، نعم واقع عشته بكلّي.

قلت لك: «لا تلمسني… أبعد يديك عنّي».

أعادتني من جديد تلك الجملة إلى وعيي الفاعل بالسؤال، إلى أيّ درجة كنت قاسياً عليها، وكم هي سهوب الوجع والفراغ التي أقحلت بسبب فعلتي النكراء هذه؟

أردت القول لها مجدّداً إنّي آسف عن كل هذا، لكنّ هذا يعني لي أنني كنت أخاتل روحي التي رميت على جيدها حبل قارب نجاتي قبل عودتي مجدّداً إلى هنا.

الرجل الذي يملك أصابع حريق غاوية، يعرف كيف يفل صلابة حديد صدّ حبيبته الأولى، لا يعيا بأن يجد باباً موارباً ليدلف من جديد إلى بهو اشتعالها، كما الكاتب العليم حين يصطاد بغزالة سرده الرشيقة مهجة القارئ ويوقعه أسيراً في نصّ حبكته المنتقاة، ليمارس عليه كلّ ما أوتي من ممكنات الكتابة من دون الوقوف على ضفاف التأويل التي قد تودي به نحو افتعالات الشبهة. نعم، الشبهة ذاتها التي يحاول جلّ ممتهني حرفة الرويّ الانزلاق في نهنهة دلعها وغنجها حين تبدأ في استمالته عن خطّه المرسوم أوّلاً. وهو أيضاً، حال اللاجئ العاشق الذي ذوّبته مدن الصقيع الفاصلة وأرضعته من لبان بياض ثلجها فاقع الاشتهاء. هو الآخر يعرف تماماً كيف يستميل عواطف الشقراوات بقصص البلاد ومكائدها التي حفظها عن ظهر الشاشات الصفراء، ليوقعهن متعاطفات، في حضن وحدته الغارق في لجج العطش.

كثيراً اقتربت منها بحواسي كلّها، دلفت رؤوس أصابعي طيّ مسامها. تماماً أعرف نقاط إثارتها كلّها نقطة نقطة، وأحفظها أيضاً عن ظهر ملامسة.

لهذا، عندما بدأت عدّ فقراتها من الأسفل إلى الأعلى فقرة فقرة، تلمّست أنّ كلمات الغضب كلّها تلاشت من فم القلم.

لم أكن أودّ استمالتها بعد هذا الغياب. لكن توقاً ما شدّني من جديد إليها بعد فرقة، هذا ما جعل لعبة امتصاص حنقها لذيذة.

بعيداً تلك الهذربات كلّها، لا أنفي هوج اللهفة الذي اجتاحني وقت عبور أصابعي فقرتها السابعة، عندما عاينت عن كثب كيف سرت صعقة ناعسة تفاصيلنا.

كلمة «آه» قد لا تفي أو تروي ظامئاً في مثل هذا اللقاء.

مجدّداً، ومن دون الشعور بأيّ حرج، فتحت بوابات البياض في روحها، بعد أن استطعت لجم استنكارها ونفورها. لم تمانع حين اقتربتُ بأنفي إلى أقرب نقطة مثيرة في تفاصيلها، كي أشمّ عطر أنوثتها. تلعثمت، وتاهت الكلمات في فمي قبل طعنها بقبلة.

يقول قائل، قبلة اللاجئ وحدها بألف، ألف قبلة، تمحو ما تقدّم وما تأخر عليه من ذنوب، وتفتح في وجهه أبواب الصفح كلّها من غير حساب.

عند فقرتها الأخيرة، وقبل وصولي إلى مرحلة سقوط جمر الشهوة بنهنهتين وتأتأة، ركّزت بعناية كلّ أصابع غوايتي أوّل بدعة السطور المتناسقة فوق بياض الورق، وأطلقت العنان لقلمي كي يفكّ أزرار الفقرة التالية من تداعياتها التي كانت مؤجّلة على دفتر انتظار الشوق، الذي صار بدوره حريقاً أو وسماً من رماد، بعد سقوط الكاتب في فخّ عشق وبيل.

بقي مثل ناسك ترك همّ الدنيا وراء سرّه المكين، واتّجه إلى ربّه مبتهلاً، متوسّلاً، داعياً إياه: «يا ربّ… إنّك أنت من ألبسني مرض العشق… أسألك بكلّ ابتهال أسمائك العظيمة، ألّا تشفني ممّا ابتليتني به أبداً»!

كاتب وناقد سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى