«القيامة الآن» في رواية ابراهيم نصر الله
سليم البيك
تنتهي رواية إبراهيم نصر الله «حرب الكلب الثانية» بكلمة منفردة نائية عن الفقرة الأخيرة من الرواية، وهي «بدأتْ»، حيث نرى قردَين، ذكراً وأنثى قد يُعاد إنتاج الحياة والحضارة على هذا الكوكب بفضلهما، في استعادة نوحيّة بعد الخراب.
هنا، حيث انتهت الرّواية، يبدأ فيلم الأميركي ستانلي كوبريك «2001: أوديسا الفضاء» 1968. ففي الفصل الأوّل منه، والمعنون بـ«فجر الإنسانية»، حيث القرود والصّحراء، في مشهد بدائي شبيه تماماً بالمشهد الأبوكاليبتي في الرّواية. تكتشف القرود ـ المتشابهة تماماً ـ العنفَ، من خلال الضرب بعظمة جيفةٍ عظاماً أخرى فتتكسّر، ثم نشاهد حيوانات تموت وقروداً تأكل من لحمها، هذا هو فجر الإنسانية التي بدأت بالغريزة، المرتبطة تماماً بالعنف والقتل والافتراس.
والعلاقة بين فيلم كوبريك ورواية نصر الله لا تقتصر على المراحل التي تمر بها البشرية، ففي كلا العملين نجد ارتباطاً موضوعاتياً بين البدائية والتمدّن، بما تشمله الأخيرة من تكنولوجيا متطوّرة توسّلها كلٌّ من الفيلم والرواية لتكون سياقاً للأحداث، ويكون العملان رؤيويّين متنبّئين بكارثة إنسانية تُعيدنا إلى بدائية سحيقة، وكان لذلك أن يتّخذا شكل الخيال العلمي، إنّما بفلسفة يمكن أن نقول وجودية تفوق أدوات الخيال العلمي حضوراً.
وإن كانت رواية نصر الله أقرب إلى فيلم كوبريك من حيث المقاربة لمآل البشرية العبثي، إنّما كان للرواية مدخل، راهناً وسياسياً، لما يمكن أن يتسبّب بذلك، ففي حياة سيطرت عليها التكنولوجيا ومُحيَت الملامح الإنسانية لدى الأفراد، داخلياً حيث بات القتل أمراً عادياً وخارجياً، حيث صارت الأقنعة المخلّص لأحدهم من الهلاك، في حياة كهذه طغت «القلعة» وهي هنا دمجٌ هجين بين نظام دولة عسكري وعصابة خارجة عن القانون، وحيث يجنُّ العالم فيزيح الستارة عن تمثال موسيليني ويحيي ذكرى إلقاء أول قنبلة على هيروشيما، مع قيام كيان العدوّ الصهيونيّ ببناء جدار ثامن ثمّ تهديدها بحرق ألمانيا وإدراج الأخيرة لمذكرات هتلر كمنهج دراسي، وليست هذه الإشارات متناً للرواية إنّما كانت إسقاطاً واقعياً لخياليّة الرواية.
وكل ذلك بالتزامن مع اندلاع حرب أهلية عشوائية في البلاد التي تحكمها «القلعة». أمّا ما قاد لذلك فهو سطوة التكنولوجيا، وهو ما نشاهده في فيلم كوبريك، حيث تفلت التكنولوجيا عن السيطرة وتبدأ بتهديد الإنسان، هو هنا رائد الفضاء. ففي العملين نجد أنّ كلاً من البدائية والتحضّر بشكله التكنولوجي المستقبلي مرآتان لبعضهما، تؤدي إحداهما للأخرى، في دائرة مفرغة، أو في عجلة للحياة التي لا بد أن تصل أخيراً، بعدما وصلت التكنولوجيا إلى أقصاها فتحكّمت بالإنسان، حد الانهيار التام، تتبعه بداية جديدة للحياة على الكوكب، التي لن تكون بالضرورة آدميّة.
رواية نصر الله التي صدرت بعد نصف قرن من فيلم كوبريك الدار العربية للعلوم ناشرون، 2016/جائزة بوكر العربية، 2018 ، أوصلتنا، كقرّاء، إلى حالة إدراك لواقعٍ قد يكون العالم الديستوبي القياميّ قريباً جداً منه، والفاشيّة تعود بأشكالها: دينية/قومية/عسكرية/رأسمالية. في حين أنّ كوبريك منح لموضوعه أبعاداً عامة، تجري أحداثه في الفضاء، بشخصيات محدودة وبدون تأويلات سياسية اجتماعيّة، مانحاً ثقلَه للتأويل الفلسفي، الوجودي، في تقابل رائد الفضاء الإنسان مع الجهاز الإلكتروني الذي سيزاحمه في التحكّم بالمركبة ويحاول القضاء عليه.
والوجودية بمعناها الفردي حاضرة على طول الرواية، في مجتمع لا ملامح ولا تغاير بين أفراده، فالكلّ بات يشبه الآخر كقرود كوبريك ، فصار الكلّ «مجرد مرايا للمرايا التي نحدّق فيها».
في الرّواية يختفي الآخر كونه فرداً متمايزاً عن «آخرين» إذ تنتشر عدوى الشبه بين النّاس، بفعل التكنولوجيا، إلى درجة لا تعرف المرأة أيّهم زوجها ولا الطفلة أيهم والدها، فزالت أي ملامح فردية ليصير النّاس مرايا عن بعضهم، وهذا، تحديداً، ما يوصلنا إلى مجتمع السعار والفاشية والوحشية، أو بعبارة أخرى، إلى مجتمع بدائي يكتشف فيه أحدهم طريقة يمارس بها وحشيّة كامنة، كانت هذه الوحشية عنصراً أساسياً لتطوّر البشرية، من اكتشاف القرود إمكانية أن تكسّر عظمةٌ أخرى، في الفيلم، فيحملونها سلاحاً، إلى اكتشاف الإنسان، لاحقاً، في الرواية، إنّ التكنولوجيا سلاح تُمحى به فردية الإنسان، وبالتالي الآخر، وبالتالي وجوده، تُمحى البشرية لتُعيد دورتها من جديد، بالكلمة التي انتهت بها الرّواية: بدأت! ولسنا، في راهننا، بعيدين، جداً، عن ذلك.
في الصّفحات الأخيرة، تلك التي أودت إلى «بدأت!» نصل إلى الحالة التي مُحي عندها المجتمع بتشابه أفراده فتبادلت الوجوه والأقنعة الأدوار، تسأل امرأةٌ راشدَ أكثر من مرّة وقد صار زوجها شبيهاً به، وظنّته، راشد، زوجهَا: «لماذا أزلتَ وجهَك؟ هل تريدهم أن يُلقوا عليك القبض أو يقتلوك؟» ونقرأ بعدها بصفحات: «أيّ كارثة هذه التي عشناها، يبدو أننا لفرط ما رأينا من أشباه، بتنا نتصرف دون وعي منا، مثلهم، في أشياء كثيرة!».
يبقى هنالك من يشير لنا إلى أنّ ارتداء الأقنعة، التشابه، محو الفردانية: الذات وبالتالي الآخر، أنّها يمكن أن تكون ذاتيّة جداً، لحظيّة جداً، في زمن سابق للتكنولوجيا في حاضرنا أو مستقبلنا، في عام 1933، وتحديداً في نصٍّ للبرتغالي فرناندو بيسوا، في كتاب بعنوان له دلالات كذلك هو «كتاب اللاطمأنينة»، إذ يقول: «ما من أحد تعرّف عليّ في قناع مماثلتي للغير، ولا عرف قط أنّه كان مجرّد قناع، إذ ما من أحد علم بوجود مقنّعين في هذا العالم، ما من أحد افترض وجود آخر إلى جانبي، هو أنا في النهاية. اعتبروني على الدوام متطابقاً مع ذاتي».