إدواردو غاليانو… حكواتيّ التاريخ المضادّ الذي لا يكتبه أحد
إسلام حجازي
مع بداية ربيع العام 2009، وأثناء مُشاركتي مع أحد أساتذتي الأفاضل في جامعة القاهرة في تدريس مقرّر «قاعة بحث دراسات أميركا اللّاتينيّة»، تقدَّم أحد الطلّاب الأذكياء باقتراحٍ لتصميم وإجراء مشروع بحثيّ غير تقليديّ، حاول فيه استكشاف خبرة صعود الديكتاتوريّة العسكريّة وسقوطها في أوروغواي 1973 ـ 1984 ، وذلك من خلال الاعتماد بشكلٍ رئيس على مدخل التاريخ المضادّ، وانطلاقاً من التحقيقات والمرويّات الموجودة في بعض أعمال الباحث والصحافيّ والروائيّ إدواردو غاليانو.
لم أكُن أعرف شيئاً حينذاك عن هذا الرجل، لكن سرعان ما تعلّقت به وبأسلوبه المتفرّد في اصطياد القصص وسردها، بطريقة أقرب إلى شخصيّة الحكواتي المتواجدة في تراثنا الفلكلوريّ الشعبيّ، التي أحبَّها الصغار والكبار على حدّ سواء، وكان يحتشد الناس حولها قديماً في المنازل والمقاهي والمحال والطرقات.
فالكاتِب الأوروغواياني، الذي يُعَدّ من أبرز وجوه عَوالِم الصحافة والأدب السياسي في أميركا اللّاتينيّة، لم يكتفِ بتناوله العميق وسرده السلس لعدد من الموضوعات والقضايا الشائكة في تاريخ القارّة المنهوبة من الخارج أو من الداخل، وإنّما تميّز بتفاعله الدائم مع مشاعر جمهوره، وتجسيده الحقيقي لصوتهم الإنساني المقهور، كما كان الحال في كتابه الأشهر «الشرايين المفتوحة لأميركا اللّاتينيّة: خمسة قرون من نَهْب قارّة»، الذي بدأت معه قصّة وَلَعي بشخصيّة مؤلِّفه، واختاره كذلك الرئيس الفنزويلي الراحل، هوجو تشافيز، في العام 2009، ليكون هديّته إلى رئيس الولايات المتّحدة الأميركيّة السابق، باراك أوباما، خلال اجتماعٍ للأخير مع رؤساء دول أميركا الجنوبيّة، ليتحدّث العالَم طويلاً بعد هذه الواقعة عن هذا الكِتاب ومؤلّفه.
وُلد غاليانو في العاصمة الأوروغوايانيّة، مونتفيديو، وبالتحديد في الثالث من أيلول من العام 1940، لأسرة كاثوليكيّة مَيسورة الحال من أصول أوروبيّة متعدّدة. وقد بدأ رحلته مع الصحافة وهو في سنّ الرابعة عشرة، بعد أن نجح في بيع أوّل رسْم كاريكاتوري له لصحيفة «الشمس» الأسبوعيّة التّابعة للحزب الاشتراكي في مَوطنه. ومع بداية الستينيّات، بدأ عمله الجديد في مجلّة يساريّة شهيرة تدعى «المسيرة»، أبدع من خلالها في التنديد بالمَظالم التي يتعرّض لها العمّال والفلّاحون في بلاده وقتها. وفي سنّ الثامنة والعشرين بات مديراً لتحرير صحيفة «إيبوكا» المهمّة في الأوروغواي. كما تعرَّض غاليانو للسجن، وعاش جزءاً كبيراً من حياته في المَنفى، بين الأرجنتين وإسبانيا، لأسبابٍ سياسيّة مختلفة.
«لماذا يكتب المرء إن لم يكُن من أجل أن يجمع القطع مع بعضها؟»، يتساءل غاليانو عن الأسباب والدوافع الكامنة التي قد تقود الإنسان إلى مُمارَسة شغف الكتابة «غير المُجدي» بالنسبة إليه، وبحسب تعبير الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر، من أجل إعادة ترتيب أفكاره ومعلوماته وخبراته المُتراكمة والمتناقضة، بل والعصيّة على الضبط في كثير من الأحيان، ويجيب غاليانو على نفسه في موضع آخر من رائعته «صيّاد القصص»، التي نقلها لنا إلى العربيّة المُترجِم العربي الكبير صالح علماني عن دار «ورق»: «أحدنا يكتب من دون أن يدري جيّداً لماذا يفعل، ولأيّ هدف، ولكن يفترض أنّ للأمر علاقة بالقضايا التي يؤمن بها المرء أكثر من سواها… بالشؤون التي تؤرقه. نكتب استناداً إلى بعض الأمور المؤكّدة، وهي ليست مؤكّدة بدوامٍ كامل أيضاً. فأنا على سبيل المثال، مُتفائل بحسب ساعات اليوم. فحتّى انتصاف النهار، أكون متفائلاً بصورة كافية. بعد ذلك، منذ الساعة الثانية عشرة حتّى الرابعة، تصل روحي إلى القدمَين. فأعيد وضعها في مكانها من جديد عند الغروب. وفي اللّيل تسقط وتنهض عدّة مرّات، حتّى صباح اليوم التالي، وهكذا».
وإلى جانب مهنة الصحافة، التي اعتزَّ بها غاليانو كثيراً وسعى من خلالها إلى التماس طريقه المميَّز في إعادة استكشاف الواقع، نجحت إسهاماته الأدبيّة، بجوار أعمال غيره من أبناء جيله، في تدشين مدرسة سحريّة جديدة انتشرت في الكثير من أدب أميركا اللّاتينيّة، مزجت بين الماضي والحاضر، ولم تعترف بالحدود الفاصلة بين أشكال التعبير وأساليبه المُختلفة، وهي المدرسة الأدبيّة التي جمع غاليانو فيها بين فنون الشعر والرواية والقِصص والسرد، وحاول من خلالها مُمارسة هَوسه بالتذكّر في إطار علاقات المجتمعات المهمَّشة القائمة مع السلطة السياسيّة. وفي هذا السياق، يبدو لنا أنّه قد تأثّر إلى حدٍّ كبير بالمفاهيم التي طوَّرها الفيلسوف الفرنسي الشهير، ميشيل فوكو، في السبعينيّات حول أهمّية الذاكرة المضادّة «Counter ـ Memory»، ودَورها الفعّال والمُعترَف به في تأويل التاريخ، عوضاً عن مجرّد الاكتفاء بدَور المُعاينة السلبيّة.
وطوال فترة حياته، ظلّ غاليانو يستخدم مَعارفه الغنيّة ومهاراته البحثيّة الإثنوغرافيّة المتميّزة لإنتاج نصوص أدبيّة كثيرة وبديعة، حاولت في أغلبها تقديم مُقارَبة تأويليّة بديلة للتاريخ من الضفّة المضادّة، بأصواتٍ وحكايات وتجارب من الفقراء والمُستبعَدين والمُهمَّشين والمُستغَلّين، فكتب جزءاً ليس بالقليل من تاريخ الشعوب ونضالهم المضادّ، بهم ولهم. وقد تُرجمت معظم أعماله لأكثر من ثمانية وعشرين لغة مُختلفة. وكان من أهمّ ما نُقل إلينا منها بالعربيّة: «الشرايين المفتوحة لأميركا اللّاتينيّة»، و«كلمات متجوّلة»، و«كِتاب المُعانقات»، و«أفواه الزمن»، و«مرايا: ما يشبه تاريخاً للعالَم»، و«كرة القدم بين الشمس والظلّ»، و«أطفال الزمن: تقديم للتاريخ البشري»، و«صيّاد القصص». هذا فضلاً عن ثلاثيّته الشهيرة «ذاكرة النار»، التي اعتبرها الكثيرون من أهمّ أعماله الأدبيّة الناجحة في استعادة تاريخ قارّة أميركا اللّاتينيّة، والتي نسجها من خلال نثرٍ جميل، يقترب أحيانًا من تخوم الشعر، مازِجاً ببراعةٍ فائقة بين المتخيَّل والتاريخي.
في تقديمها النسخة الإنكليزيّة من كِتاب «الشرايين المفتوحة لأميركا اللّاتينيّة»، الصادرة لأوّل مرّة في العام 1973، تشير إيزابيل اللّيندي، الروائيّة التشيليّة الشهيرة التي تجاوزت مبيعات مؤلّفاتها أكثر من 65 مليون نسخة بخمس وثلاثين لغة مُختلفة، إلى أنّ أغلب أعمال غاليانو وكتاباته تتّسم «بأنّها مزيج من التدقيق في التفاصيل، والإدانة السياسيّة، والنزعة الشعريّة، وحكي القصص الجديد». وبحسب رؤيتها التي تنتمي إلى الواقعيّة السحريّة أيضاً وكلماتها العذبة، يبدو أنّ غاليانو قد نجح بالفعل في أن يجوب أميركا اللّاتينيّة طولاً وعرضاً، لينصت إلى أصوات الفقراء والمضطَّهدين، مثلما ينصت إلى أصوات القادة والمثقّفين. عاش بين الهنود، والفلّاحين، ومُقاتلي حرب العصابات، والجنود، والفنّانين، والخارجين على القانون كما تحدّث إلى الرؤساء، والطغاة، والشهداء، والكَهنة، والأبطال، وقطّاع الطرق، والأمّهات المُحبطات، والعاهرات العليلات. تعرّض للدغات الأفاعي، وعانى من شتّى أصناف الحمى الإستوائيّة، مشى في وسط الأدغال، ونجا من سكتةٍ قلبيّة خطيرة اضطُّهد من أنظمةٍ قامعةٍ تماماً مثلما اضطُّهد من إرهابيّين مُتعصّبين. ناصَب العداء للديكتاتوريّات العسكريّة وكلّ أشكال الوحشيّة والاستغلال، مُدافعاً من دون تفكير في المَخاطر عن الحقوق الإنسانيّة في جميع أنحاء العالَم.
وكعاشقٍ لكرة القدم بصفة عامّة، وكباحثٍ دائم عن العوامل والديناميّات السياسيّة الكامِنة في مسيرة هذه اللّعبة الرياضيّة الشهيرة بحُكم التخصّص العِلمي، أحببتُ كثيراً عمل غاليانو الرائع والفريد من نوعه، على الأقلّ من وجه نظري، الذي كتبه تحت عنوان «كرة القدم بين الشمس والظلّ»، وبرع من خلاله في تناول جزء كبير من شبكة العلاقات والروابط المُتداخلة بين عَوالِم السياسة والمال والرياضة وتحليله عبر فترة زمنيّة طويلة، بدأت مع تحليله لأهمّ الأحداث والمُباريات الرياضيّة منذ العام 1938، وانتهت مع قراءته الشيّقة لمونديال العام 1994. وقد لا أبالغ إذا قلت إنّ قراءة هذا الكِتاب، الذي جاءت نسخته العربيّة المُترجَمة في 308 صفحات، يجب أن تكون فرضَ عَين على كلّ باحث عربي مهتمّ بدراسة تاريخ الساحرة المستديرة وواقعها من منظور سياسي، لأنّه بحقّ يقدّم مُقارَبة تشريحيّة عميقة وبسيطة في الوقت نفسه لأهمّ العناصر السياسيّة والاقتصاديّة والسيكولوجيّة التي تتأثّر بها من جانب، وتؤثّر هي فيها من جانب آخر.
ختاماً، وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على رحيل جسد غاليانو عن عالَمنا، نتيجة صراعه المُمتدّ والمرير مع مرض سرطان الرئة، يجب أن نتوجَّه بخالص عبارات الشكر والامتنان للمُترجِمين الذين نقلوا لنا بعض أفكاره وأعماله إلى اللّغة العربيّة، ونُطالبهم في الوقت نفسه بالسعي لترجمة المزيد من مقالاته ونصوصه وكتاباته الأخرى التي لم تنقل لنا بعد، لأسبابٍ شخصيّة وعامّة تنوّعت، وجاء على رأسها القيود السياقيّة المفروضة من الحكّام والنّاشرين في منطقتنا العربيّة. فمُعظم شعوبنا الآن في حاجة ماسّة إلى إعادة تعريف «السياسة» التي تمّ التلاعب بها «كثيراً إلى الحدّ الذي صارت تعني فيه كلّ شيء ولا تعني شيئاً»، كما يؤكِّد غاليانو بنفسه في أحد نصوصه. والحقيقة أنّ النهل من معرفة هذا الرجل وتجاربه قد يساعدنا في تحقيق هذا الهدف، ويأخذ بأيدينا نحو التطبيق الصحيح للإمكانات الحرجة للمُقاوَمة، في إطار نهجٍ سليم لمُمارسات تذكّر ونسيان التاريخ، ليس على مستوى ما يُمكن أن نتذكّره فقط وما يُمكن أن ننساه، وإنّما على مستوى أعمق، يهتمّ بكيفيّة الحدوث، وبالفاعِلين المسؤولين، وبالآثار المترتّبة عن ذلك.
مدرِّس مُساعد في كلّية الاقتصاد والعلوم السياسيّة، جامعة القاهرة