أدهم الدمشقي يفتتح أدب الاعتراف والبوح
اعتدال صادق شومان
إذا كنّا نقرّ بأنّ المعاناة ليست إلّا إلهاماً، وأن ثمة وثاقاً حتميّاً لا يمكن أن ينصرم بين الفعل الإبداعي والمقاساة، خصوصاً إذا ما ترجمت هذه المكابدات الأليمة أشكالاً أدبية على هيئة المذكّرات أو الرسائل وحتى السِّيَر الذاتية. فإنّ هناك أعمالاً كثيرة من هذا النوع الأدبي. وجديد هذا النوع من الأدب، الإصدار الحديث لأدهم الدمشقي، «سرير»، الذي يعود فيه الدمشقي طفلاً، ويفتح الباب المغلق على مصراعيه، في «فضفضة» على غير تكلّف أو ادّعاء، وبصوره شبه تفصيلية رغم دُهِمت فصولها. في بيان حيّ وجريء لطفولة مظلمة تعرّضت للإيذاء وتعثّرت بالمكابدة والألم، تشاركها مع الفقر، ومن وهد اليتم المبكر وتألب الحياة عليه بوطأتها الثقيلة وبأجواء رمادية قاتمة المتولدة من نشأة مبّرحة بالوجع والانكسارالمترافق مع الشعور بفقدان البراءة والكرامة.
مكاشفة تطلّبت من أدهم الدمشقي ثلاث محاولات سابقة في ثلاثة إصدارت: «لو إني الله» «لم يلد ذكراً لم يلد أنثى» و«بلا عنوان»، قبل أن يصير النصّ مفتوحاً على رؤوس الأشهاد، نصّاً تحرريّاً صريحاّ ليجد نفسه في «سرير» وضعه في مواجهة القارئ كما في مواجهة مشاعره الكامنة في طيبها وغلّها يتقاسمها شعوراً بالذنب المرتبط بالعار.
وهنا على عكس محاولاته السابقة أسقط الدمشقي وسيطه «الراوي» الذي على عاتقه تقع المرويّات التي يتحرّج الكاتب نسبها إلى نفسه على عادة الأدباء العرب، حيث التدوين المباشر يراعي قيماً وقيوداً اجتماعية ترفض الجرأة المطلقة في الحديث عن الذات. حتى أن بعض الذين تجرّأوا وأفصحوا، لم ينجوا من حروب طاحنة شُنّت عليهم، على اعتبار أنّ الأدب ليس «قلّة أدب».
وبذلك، لم يخرج الأدباء العرب في مذكّراتهم منذ «سبعون» ميخائيل نعيمة، و«أيام» عميد الأدب العربي طه حسين، وعباس العقّاد في كتابه «أنا»، و«سجن العمر» لتوفيق الحكيم، من صيغة البوح والإفصاح، لتبقى مجرّد ذكريات أو مذكّرات تدوينية، لم ترقَ إلى فنّ كتابة «أدب الاعتراف» كما هو عند أدباء الغرب وفي مقدّمتهم جان جاك روسو في سيرته الذاتية «اعترافات»، وهذا القول ليس لسيدات الأدب العربي منه استثناء، اللواتي اكتفين بوقائع تمسّ بدور الرجل الحائم حولهن، ولم يجرأن على كسر حاجز الخوف والرهبة من دواخلهن وأسرارهن المدفونة، وابتعدن كلّ البعد عن المكشافة التامة، ففي الستر أمان.
غير أنّ أدهم الدمشقي كسر المحظور وكشف المستور وتجرّأ في «سرير» الصادر عن «دار نلسن»، حيث أعرض الكثيرون. وعاد إلى ذاته الطفولية يناصبها «إفصاحاً» جريئاّ، وإن يكن على غير فجاجة في اللفظ أو غلاظة في الكشف، بل اعتمد أسلوباً أقرب إلى التلميح الرقيق. إلّا أنه اتّسم بصراحة متناهية في تفريغ الشحنة العاطفية لصدى وجدانه المتألّم بحمله عبئاّ صامتاً، مثقلاً بالعار، بعبوره نحو فضاء الذاكرة وتحريرها، وتصفية حسابات الطفولة وأماكنها المظلمة والموبوءة، في شريط يعجّ بالذكريات والأحاسيس وأنين يفتّت القلب. فيعود طفلاً ويفتح الباب المغلق على عويل روحه ووجدانه، ويركض بحزن كثيف علّه يصل، مستحضراً شخوص الطفولة من حضن الأمّ التي لم يرَها تنظر إلى المرآة يوماً، وعمّته «العانس» التي ماتت بالدرنة الخشبية على صدرها، وطيف صورة لغراب الأب يعنّف الأمّ في النهار ويضاجعها في الليل على الكنبة، فتغرب صورته عند الطفل المطلّ برأسه من تحت الغطاء. وعن جاره العجوز الأرعن يستفزّ فيه الرغبة المتوترة أصلاً وهو بالكاد تعدّى عهد الطفولة ويتعثّر بتلمس ريعان مراهقته كما أحاسيسه المكبوته التي تعلّم باكراً فضّ باكورتها حتى «شرشرت» أصابعه «بالوحل» خلف باب حديديّ أسود جردونيّ اللون، ساد عند تلك الخربة المهجورة، فامتلأ فمه بالصمت لحظة «تهدّى» بالرجل الكبير الذي عرفه بعد فقدان والده ولم يزل في التاسعة من عمره، ليأخذه إلى مكان يشبه باب المقبرة حيث دُفن الأب، ولأن «المطرح كتير، بعيد لشو صرخ… وصار… وجّي أحمر متل البنات… وصوتي ينعم وحركاتي تتغيّر… وصاروا يقولولي بالمدرسة إني متل البنات».
بهذا الاعتراف، أسر أدهم الدمشقي «اعترافاته» بتجرّد ليتطهّر من عبئه البعيد وقد أخرجها من نطاق نفسه إلى الآخرين جهاراً نهاراً ، تاركا نفسه «عارياً» وعرضة لشتّى المواقف بين داعم وشاجب أو مستنطق مُحاكِم له.
عدا أنّ أدهم الدمشقي ترك القارئ يتأرجّح على حافة الشكّ في أن للقصة تتمّة، وأن الكلام لم ينته، وأنّ لأدهم الدمشقي عودة أخرى إلى كرسي الاعتراف كما أوحت خاتمة الكلمات: «يمكن ما إجا الوقت يلّي لازم قول فيه يلّي بدّي قولو».