عدنان الناعمة يحاور الحياة في ديوانه «بيني وبين المها»!
محمد رستم
هي عنوان القصيدة التي وسم الشاعر عدنان الناعمة ديوانه بها. وإذ رمى الشاعر المبتدأ طيّ الكتمان والتقدير هي. أي الكهولة بما تعنيه من عبور الزمن، فإنّه يخبرنا عنها بدالّ الظرفية المكانية المتضايفة مؤكّداً أنّ الزمن هو البعد الرابع للمكان، وبذا يحيل الزمن إلى مسافة، ليرشّ قبسة من عطر الجمال، كاستعارة للحسان دالّ المها .
ولعلّ أهم المحاور الدلاليّة في النصّ، هو محور الشيخوخة المتّكئة على وسادة من العشق.
هالني منظر الشاعر وهو ينزف حبر روحه على سرير الخريف معترفاً بأنّه غدا خارج الفاعليّة. فبدت قصيدته وكأنّها محطّة تأمّليّة في أعماق الحياة.
هي محاولة لأن ينفض الشاعر عن قميص العمر صفرة الخريف، فيتبرّم من انقضاء الشطر الأكبر من العمر. ويشكو من بوابة العشق والغزل تهرؤات الكهولة. فيطفح ألماً لأنّه تجاوز قمة الهرم العمري وهرولت لحظاته منحدرة نحو السفح الآخر.
لذا، يجد في عجزه عن مجاراة عشق الشباب ألما وحسرة فيتخيّل الحياة مهاة في ريعان الشباب يعلق في شباكها، إلّا أنّ فارق العمر يقف سدّاً بينهما:
بيني وبينك ربع القرن يزجرني
والزوج والشيب والإبحار في السقم.
هي آهات الحسرة يتلوها على رميم الجسد وقد رأى في الفارق العمري زاجراً بعد أن أكل الشيب سنبل الرأس. كما تقف الزوجة والسقم حائلاً.
ويظل سيف الشيخوخة مسلّطاً على روحه ما يدفعه لأن يرفع الراية البيضاء إذ لا قدرة له على مجاراة فتاته في العشق. فيطلب منها أن تبتعد عن طريقه لأنّها لن تجد عنده ما يرضيها ويطفئ لهيب غرامها.
هي شكوى من جفاف النبع وتحطب العود يسكبها من قلب مترع بالعشق للحياة مجسّداً إياها بأنثى. إنّها تأوّهات شاعر منتهي الصلاحيّة فات أوانه، فجعل من حروفه حائط مبكى. ولشدّة تحسّره على ما تصرّم من العمر يدفعه تحسّره إلى تضخيم صورة مغامراته الغراميّة أيام الشباب فيزعم أن ما فعله شهريار في تهلاكه للنساء ماهو إلّا بالقليل القليل إذا ما قيس به:
ما شهريار وألف الليلة اضطرمت
بالحبّ إلّا رذاذ نزّ من ديمي.
وها هو اليوم يقع فريسة في شباك عشقها وفي حالة من عصف المازوشيّة يطلب منها أن تنتقم منه ثأراً للأخريات من النساء اللواتي وقعن ضحايا حبّه فتستعذب ورد جراحه:
أتلفت عمري بصيد الوحش نافرة
واليوم قد صدّتني يا ريم
فانتقمي للأخريات بقتلي غير آسفة
واستعذبي ورد جرحي دونما ندم.
وهو يجوب مفازات الحياة بين ماض من الزمان وآت فيؤكّد لفتاته أنّه أتلف عمره في صيد العذارى المتعففات ممن يصعب صيدهن، ثم لا يلبث أن يفرد بساط الصراحة الممتد على واقع الحال فيقول لها لقد غدوت كهلاً فهل يكفيك مني أشواقي الملتهبة وفمي الذي يجتاح جسدك بالقبل فيحيله بدراً متوهّجاً:
هل تكتفين بشوق لاهب وفم
يجتاح دنياك مثل البدر في الظلم.
ويعود ليتلطى وراء هوامش العمر وأخاديد الشيخوخة هرباً من مغامرة غير محسوبة النتائج قد تودي به إلى أسوأ مطبات الحياة. فبدا كقشة تطفو على سطح الألم:
يا بنت عشرين كفّي عن مطاردتي
فالخوف يعقلني والجبن من شيمي.
فصلصاله المتهالك بات غير قادر على ترجمة المنسوب العالي العصف لتوق الشهوات، وغدا مصلوباً على خشبة تيار الزمن. لذا يدعوها لأن تعتصم بالكبرياء وتكبح فورة عشقها كي لا تتشظى على بلاط الرغبة بعد أن مسّها الوله:
ضمّي غلالتك الخرقاء واشتملي
بالكبرياء وغلّي فورة الحلم.
ولأنّ شحناته العاطفية تنحّي تيار الزمن فهي ممسوسة بلهيب التوق لعناق الجمال. فإنّ وعيه بإمكانات الجسد يحتم عليه عيش اللحظة والاعتراف بحضور الخريف واصفرار بعض الوريقات وذلك ما يكبح تلك الشحنات فيتأوّه الشاعر معترفاً:
أفديك بالروح ما سيفي بذي خطر
في النائبات ولا حظّي بمبتسم.
وكتعويض عن حسرات الخسران في حاضره يتّكئ الشاعر على ما يسمّى «الخيال التعويضي» ليحصّل حصاده من ملكة الذاكرة. فتنبعث حروفه محمّلة بتراتيل فوح الذكريات التي تسعفه بخيالات انتصاراته في مغامرات العشق والغرام في سالفات الأيام، لكنّ مرارة الإحساس بانقضاء العمر تطفو على السطح فهو يدرك أن قطار الحياة في محطاته الأخيرة وخريف العمر بات يعري شجرة الجسد.
ويستعرض تحت تأثير الخيال المجنح بطولاته وعدد عشيقاته اللواتي أسرهن حبّه فبتن أسارى، ونديمات له، بل حرص بعضهن على خدمته استجابة لنداء القلب فهو يستعبدهن عشقاً:
خمسٌ وخمسون حرّى كنّ من حرمي
والأخريات نديماتي ومن خدمي.
وإحساسه بالعجز أمام جبروت الحياة يجعله يلوذ بالقلم ليسكب حبره حسرة وتفجّعاً، فبعد أن خانه الجسد لم يعد لديه سوى مشاعره. فإن هاجت قطّرها شعراً علّه يتخفّف من آلامه بالبوح. هي ثنائيّة العشق والحسرة:
لا شيء عندي سوى نفسي فإن طفحت
بالشوق نفسي انتهت في مدفن القلم.
وتجيش في أعماق الشاعر بيادر من المشاعر العميقة والوله فيبدو وكأنّه يناكف الحياة فيرتحل عكس عقارب الزمن هذا الغامض الذي لا يلتفت إلى الوراء فيغدو وقد انطبق عليه المثل القائل «العين بصيرة واليد قصيرة»:
تقطّع النفس أشلاء إذا خطرت
أمام عيني ذات البان والعنم.
فلا يملك إلّا مشاعره التي تلتهب شوقاً فتتقطع النفس تلهفاً لها وتعلق العين بها ويتنسّم الأنف عطرها ويخفق القلب لها ويثمل الجسد بعطرها وترحب الروح بطلّتها، لكن الشيخوخة تقف بالمرصاد رادعاً وزاجراً:
تعلّق العين فيها وهي راعشة
وينشقّ الأنف منها عاطر النسم.
ويبقى للحبّ سحره وللقلب نبضه ما يجعل الفينيق ينبعث من تحت الرماد فيتوهّج قلب شاعرنا مجيباً دعوة الحبيبة… هو حبّ الحياة الذي ينبض في الشرايين:
يا ريم يا حلوتي يا نور باصرتي
يا جمر آخرتي يا عذبة النغم
لا تقنطي فبحار الحبّ نمخرها
بالأمن دهراً فذا وعدي وذا قسمي.
وما يحسب للشاعر إشارته إلى المرض بما يوحي بالحركة الانسيابيّة بينما يقف الشيب والزوج كعائق مادي كحجر عثرة في قوله:
بيني وبينك ربع القرن يزجرني
والشيب والزوج والإبحار في السقم.
وفي معادلة الحبّ هذا يغدو الزمن هو القاتل المشترك الأعظم فيجعل الشاعر منه وسماً لفتاته ويناديها به يقول:
يا بنت عشرين يا ظبياً
يا بنت عشرين كفّي
كما يبرز عامل الزمن ناتئاً في مقارنته بين غراميّاته في الماضي والحاضر فقد كان الفارس الرابح دوماً في ما مضى. أما اليوم فالهزيمة مصيره. وفي عبارة «ما سيفي بذي خطر» تجسيد للشيخوخة. والنصّ يفيض بالعبارات التي تدلّ على ألم الشاعر لرحيل قطار العمر «يزعق مستنكراً هرمي يا ضيعة العمر ما سيفي بذي خطر. الموت بينهما يشدو بلا سأم»، «بيني وبينك ربع القرن». ويعتمد الشاعر هنا «القرن» كوحدة لقياس الزمن للدلالة على طول المسافة الزمنيّة.
ومنذ أوّل تنهد للقصيدة نلحظ كثافة الحسّ الشعري المغمسة بعطر الدفء الإنساني في مداميك مشغولة بأصابع متمرّسة تعرف كيف تأسر الحواس بعد أن ارتقى الشاعر سلّم الخليل ليعزف على وتر الصبا بلغة رصينة وعبارات متينة لا تخرج عن النمط الكلاسيكي. فقد امتلك الأداة التي تجعله يجيد توظيف اللغة لتكون حاملاً جمالياً أكثر منه تشكيلاً كلامياً معتمداً حصافة اللغة.
وقد اعتمد الأفعال الماضية عند الحديث عن ماضيه «شطرت. مضى. أتلفت. اضطرمت… الخ.»، بينما اعتمد الأفعال المضارعة في خطابه لفتاته لما فيها من حيوية ويفاعة «يطارده. تظفري. يرضيك… إلخ. .
ولعلّ صورة «استعذبي ورد جرحي»، بما فيها من إغراق في المازوشيّة قد جنحت خارج كينونة الجمال، إذ تذكّرنا بمصّاصي الدماء «دراكولا»، وجاءت القصيدة على نهج «نهج البردة» من حيث البحر والقافية، كما صادف اسم المحبوبة «ريم» مطلع قصيدة شوقي «ريم على القاع».
أخيراً، لا بدّ من القول إنّ الشاعر بحسّه المرهف وترنيمته المؤثّرة وضعنا وجهاً لوجه مع حركة عقارب الزمن التي لا ترحم.
كاتب سوريّ