الحاجة إلى «بريتون وودز» عالمي جديد
د. رائد المصري
بهدوء… فالمتتبِّع للمسار الأخير للسياسة الأميركية في ميادين معالجتها للملف النووي لكوريا الشمالية تنكشَّف لديه أحجام التوتُّر والتخبُّط والضعف لإدارة الرئيس دونالد ترامب، قابَله في ذلك تشدُّد أميركيٌّ وتصلُّب في مواقف واشنطن تُجاه المِلف النووي الإيراني، وصمّ آذانها للأوروبيين الذين يطالبون بعدم تطبيق العقوبات على شركاتها ومصارفها التي ستُبقي على تعاملها التجاري مع إيران، عبر التزام الحكومات الأوروبية بالتفاهم الموقَّع عليه في مجلس الأمن الدولي، حتى ولو كان ثمن ذلك التفرُّد عن أميركا في السياسات الدولية الاقتصادية والتجارية، يُضاف إليها وبالتوازي مع ضعف واشنطن، تهديد إسرائيلي متواصل على سورية والدعوة لانسحاب إيران وحزب الله وكل حركات المقاومة. وظهرت إلى العلَن حملة عقوبات أميركية وخليجية لها أبعادها السياسية تستهدف حزب الله وكوادره من الصف الأول… فهل هي محاولات يائسة فقدت فيها القدرة الأميركية ورأسمالها المعولم السير فيه وبات العالم بحاجة الى نظام نقدي ومالي واقتصادي جديد غير ما هو معمول به منذ عام 1944 وإنشاء اتفاقية «بريتون وودز» لا تعتمد الدولار كعملة احتياطية وحيدة للتداول العالمي؟؟؟ إذن، إنها الحِمائية والعودة الى دور الدولة القومية، لكن بصيغة التطور التكنولوجي والمعلوماتي والاتصالات وبحرية تامة للعبور والحركة، وهو ما أحدَث هذه الفوضى العالمية جراء تفلُّت النيوليبرالية المعولمة من عِقالها في الأسواق التجارية والمبادلات وإلغاء الحدود الجغرافية، وتفرُّد المصارف بالعَبَث في المضاربات وإحداث فقاقيع ومحافظ مالية ليس لها ائتمان داخلي ولا خارجي، وبلا إنتاج اقتصادي حقيقي وحرية في التجارة الدولية، فكلُّها عوامل أسْهمت في خرْبَطة اقتصاد العالم، أضيفت إليها عولمة الإرهاب لضرب استقرار الدول النامية وعبور المتطرِّفين الى المطارات والموانئ ودخول البلدان دون مراقبة، لا بل وتسهيلاً لهم خدمة للمشروع الاستعماري المرتكز على نهب خيرات الشعوب وقنْص ثرواتها وإثارة الحروب وزيادة إنتاج المجمَّعات الصناعية الحربية العسكرية للنظام الرأسمالي.
اليوم وقعت الواقعة ونفَّذت الولايات المتحدة تهديداتها للبَدء بشنِّ الحرب التجارية مع شركائها، وأعلنت أنها ستبدأ تطبيق رسوم جمركية كبيرة على الصُّلب والألمنيوم المستورَد من الاتحاد الأوروبي ومن كندا والمكسيك. وفور إعلان ترامب وتوقيعه، أكَّد الاتحاد الأوروبي أنّه سيتم في الساعات المقبلة الردّ عبر إجراءات مضادة. كما رفضت الحكومة الألمانية هذه الرسوم غير القانونية، ووصفتها بأنَّها تحمِل في طياتها أخطار حدوث تصعيد سيلحق أضراراً بالجميع في النهاية. وتبعها الرئيس الفرنسي بإدانته للقرار الذي وصفه بأنّه غير قانوني وخاطئ ولا ينسجم مع القانون التجاري الدولي…
هنا وَجَبَ التنبُّه لمسألة أساسية وهي أنَّ الرئيس الفرنسي لَفَت إلى أنّ ترامب فشِل في مسألة المناخ لتفكيك اتفاق باريس، لأنَّ التحرُّك كان سريعاً، وحول إيران بدأ يتبلور موقف أوروبي موحَّد للصُّمود وليس من أجل دفع ثمن زعزعة الاستقرار في المنطقة والعالم. فقرار ترامب سيظهر كثيراً الى السَّطح أنماط الاختلالات الدولية. وهو ما حدث إبان الثلاثينات من القرن العشرين، في تعزيز الروح القومية الاقتصادية والتجارية…
فَرض الرُسوم على الحَديد والصلب ومنتوجات الألمنيوم والسَّيارات تتراوَح ما بين 15 إلى 25 بالمِئة من قبل إدارة دونالد ترامب بما يشبه الحَربً التِجاريّةً على حُلفائِه الغَربيين منتهكاً قوانين مُنظَّمة التِّجارة الدوليّة، وكُل المُعاهدات المُنبَثِقة عنها، باتِّباعه سِياسات حِمائيّة تطبيقًاً لشِعارَه الانتخابيّ «أميركا أوّلاً»، قابله في ذلك الرَّد الأوروبيّ بتَقديم شكوى لمُنظَّمة التِّجارة الدوليّة، وإعداد قائِمة بالسِّلع الأميركيّة التي يَعتزِم الاتِّحاد فرض ضرائِب عليها في إجراءٍ انتقاميٍّ.
هنا توجَب الدعوة إلى ضرورة معالجة كلّ هذه القضايا المُثيرة للجدل بكثير من الإصلاحات الملحَّة في النظام المالي والاقتصادي الدولي، حتى لو كان هناك من يُعيد أسباب شنِّ ترامب هذه الحرب الاقتصادية والتجارية لأجل تحقيق أهدافه السياسية وتطويع الاتحاد الأوروبي للسير في ركب سياساته وتبنِّي قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران الذي عارضته أوروبا بشدة، فإنَّه بات واضحاً حجم التأزُّم البنيوي في النظام الرأسمالي العالمي، والقدرة الأميركية التي تآكلت على مدى عشرات الأعوام بسبب الحروب وتبدُّل قواعد الإنتاج وعلاقاتها، وهو ما يجب أن يتمَّ العمل عليه وتغيير قواعده التي أُرسيت بعد الحرب العالمية الثانية باتفاقية «بريتون وودز» المستندة الى تعويم صرف العملات على قاعدة الضمانة بالذهب للدولار الأميركي، ورغم ذلك استمرَّ المشروع الأميركي الاستعماري بشنِّ الحروب واستنزاف الاقتصاد العالمي لأنَّ منطق الرأسمال وإعادة تنشيطه يتطلَّبان تحريك الدورة الاقتصادية عبر الحروب وإعادة الإعمار، فتقوَّض سعر الدولار من جديد وظهرت المديونية الأميركية إلى السطح بسبب نقص الذهب، فعاد النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي عام 1971 للتسليم بالدولار الأميركي كعملة وحيدة في العالم من دون حماية وضمانة الذهب، شريطة أن يكون الضامن له هو القدرة الإنتاجية الأميركية وقوة اقتصادها، حيث سار العالم على هذا المنوال الى أن دخلنا حقبة العولمة التي خلقت عبر مساراتها رأسماليات دولية كبرى في جنوب شرق آسيا وأوروبا والصين وروسيا منافسة للاقتصاد الأميركي، وباتت أميركا بسبب كلفة الإنتاج العالية لديها ونقل مصانعها والتغيير في علاقات الإنتاج العالمي هي المستوردة لبضائعها، وبالطبع شكَّل ذلك إحراجاً وتشوُّهاً في أنماط علاقات الإنتاج الأميركية أولاً وقدرتها على السير مستندة على القوة الإنتاجية كأقوى اقتصاد عالمي.
من هناك كانت دعوة ترامب حقيقية للتطلُّع لأميركا أولاً والبدء بإجراءات الحمائية وإعادة المصانع للولايات المتحدة الأميركية، وخلق إنتاج واقتصاد حقيقيين يخفِّف أعداد البطالة والحدّ من الهجرة وبدء الخروج من كلِّ الاتفاقيات التي عقدتها أميركا من النافتا الى اتفاقية التجارة الدولية الى اتفاقية المناخ الى غيرها من الاتفاقيات التي أرساها منطق العولمة ولم يَعدْ صالحاً لخدمة المشروع الأميركي. على غرار تأسيس البنك الدولي الذي تشكَّل كذراع مالية تساعد الرأسمال الاستعماري في تطويق الدول الصغيرة والضعيفة غير المنتجة وربطها بالمتروبول المركزي عبر خلق طبقات كومبرادورية تابعة وضعيفة تؤدِّي الدور الوظيفي في إفقار شعوبها خدمة للمشروع الاستعماري الأم وهو أميركا.
اليوم يشعر الأوروبيون بأنَّ التَّحالُف التَّاريخيّ التِّجاريّ والأَمنيّ بينهم وبين الولايات المتحدة الأميركيّة انتهى والإدارة الأميركية تتوجّه نحو شرق آسيا واليابان وكوريا الجنوبيّة والصِّين، لكن بدَرجةٍ أقل كشُركاء تِجاريين وأمنيين مُفتَرضين. فهذا التحوُّل لا بدَّ أنْ يؤسِّس لجبهة معارضة للسياسات الاقتصادية والمالية الأميركية في الاتحاد الأوروبي يتعزِّز معها منطق التعاون التجاري مع روسيا والصين، وبالتالي تركز رأسماليات قوية منافسة غير ملحقة أو تابعة لأميركا. وهو ما يتطلَّب تعديلاً في اعتماد الدولار كعملة احتياطية وحيدة في العالم وكذلك فقدان أهمية مؤسسات البنك الدولي، لأنها فقدت الهدف الذي أنشِئت لأجله عبر تراجع القدرة الشرائية والإنتاجية للولايات المتحدة، وهو بدوره يعزِّز على الأرض وفي الواقع التعدُّديات القطبية في العالم في إدارة النزاعات وليس عبر المنافسة وخلق الحروب والعبث بمقدرات الدول وبمصائر الشعوب، أما البديل فسيكون إشعال فتيل الحَرب الاقتصاديّة وقِيادة العالم إلى حالةٍ من الفَوضى وعدم الاستقرار.
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية