الاضطرابات في الأردن.. إلى أين؟
د. وفيق إبراهيم
تظاهرات مطلبية كبيرة تجتاح الأردن، وتصرُّ على تغيير القيادة السياسية ـ الاقتصادية للبلاد، بشكل لا تقترب فيه من أسوار الملكية الهاشمية التاريخية.. أو هذا ما يبدو حتى الآن.
هكذا بدأت الاضطرابات في بلدان العالم العربي، بمقدّمات تُعرب عن سخطها من قرارات اقتصادية تسبّبت بها حكومات متعاقبة وأدّت إلى إفقار المجتمع، وبقدرة قادر خارجي وإقليمي تحوّلت هذه التحركات الاقتصادية فوضى سياسية بدأت بالتوسع حتى ارتدت شكلاً تدميرياً غير مسبوق أصاب معظم الدول المستهدفة بتهشيم كامل.. أما مميزاتها فانطلاقها من المطالبة برأس الأنظمة السياسية مصر السيسي، تونس بن علي، ليبيا القذافي إلى السعي لتصديع الكيانات السياسية على أسس مذهبية وقبلية وعرقية العراق ـ سورية ـ مصر بواسطة منظمات متفرّعة من القاعدة والاخوان المسلمين.
.. على الخطى نفسها، تنحو التظاهرات في المملكة الهاشمية وبشكل اعتقد فيه ملكها أنّ المشكلة هي فعلاً بين فقراء الأردن والحكومة على قرارات برفع الأسعار ورفع الحمايات عن سلع أساسية فحاول ممارسة دور الوسيط مبتدئاً بإقالة الحكومة لاستجلاب رضى الأردنيين واحتواء سخطهم وكأن لا علاقة له بتراكم الفقر. وهو الذي رهن اقتصاد بلاده لارتباطاتها السياسية مع المحور الأميركي ـ السعودي ـ الإسرائيلي تاريخياً.. باذلاً إمكانات الأردن لخدمة التحرك الأميركي ـ السعودي الذي وضع كامل طاقاته لتدمير سورية والعراق. وكان للمخابرات الأردنية الدور الأول في غرفة «الموك» الشهيرة في تنظيم العشائر على طرفي حدود بلادها في العراق وسورية.
لأمانة التحليل، فإن الجغرافيا السياسية الأردنية منحصرة بجوار تفجيري يبتدئ من فلسطين المحتلة من «إسرائيل» وسورية المضطربة والعراق المتفجّر منذ تسعينيات القرن الماضي والسعودية مانحة المساعدات المشروطة بقطع أنفس من يتلقاها، ومنعه من الحركة.
لناحية التشكيل السياسي ـ الاجتماعي، فإن مملكة الهاشميين صناعة بريطانية كاملة، جرى إرضاء الهاشميين بها بدلاً من المشرق العربي، لأن البريطانيين كانوا وعدوا الحسين بن علي بملك عربي كبير له.. مفضلين النكث بالوعود كدأبهم. وكان شرق الأردن تعويضاً خفيفاً، ضمَّ بعض السكان الأصليين إلى جانب قبائل الجنوب وبعض القبائل الحجازية والنجدية التي أتت مع المؤسس عبد الله، هذا إلى جانب أكثر من نصف السكان من الفلسطينيين الذين هجرتهم «إسرائيل» من أراضيهم. هناك إذاً تنوّع سكاني واضح بين أردنيين تاريخيين وحوارنة وفلسطينيين وعشائر جزيرة العرب وعائلات أردنية قديمة في محيط واسع من العاصمة عمان، بالإضافة إلى ذوي الأصول الشركسية الذين يمتهنون الأعمال العسكرية منذ عملهم في خدمة ملوك الأردن كمرافقين وقوات نخبة. المطربة كارازون منهم .
وجاءت السياسات الاقتصادية الهاشمية لتعتمد على طبقة من ذوي الأصول الأردنية وبعض الفلسطينيين، لتأمين أسوار النظام. ما فتح أمامها أسوار الاقتصاد فراكمت امتيازات جعلتها في السلم الطبقي الأول. وتميّزت المملكة باعتمادها على المساعدات المالية من الخليج والعسكرية والاقتصادية من أميركا وبريطانيا مع علاقات اقتصادية برية عبر الحدود مع العراق وسورية.. فتشكَل توازن هشٌّ غير داخلي، ومرتبط ببلدان المصدر الاقتصادي.
وكانت المملكة تلعب ببراعة على حاجة «إسرائيل» إليها ومحاولة السعودية الدائمة لكسب ودّها من أجل التوازن مع سورية والعراق. هذا مقابل استرهان كامل للسياسة الأردنية في خدمة المانحين. وما كان يثير ذعر الهاشميين محاولات «إسرائيل» تحويل مملكتها وطناً بديلاً للفلسطينيين، لكن ما كان يعيدُ الثقة إليها هو الموقف السعودي الرافض لأي تماس ـ فلسطيني حدودي مع بلاده، واستنكار أميركي لأي تواصل مباشر بين بلاد الشام وجزيرة العرب، وهكذا دواليك ضمن هذا الإطار يظهر التنوّع الطبقي والقومي والعرقي واضحاً في مملكة الهاشميين من دون أنّ يكون هناك سند اقتصادي داخلي بوسعه ضبط هذا التعدّد في إطاره الطبقي والاقتصادي المطلبي.. فتبدو حلول الأزمة الداخلية مرتبطة بـ«إسرائيل» لناحية الاستمرار بمنح الأردن.. جزءاً.. من نهر الأردن «اللبناني السوري الفلسطيني الأردني». أو مساعدات اقتصادية سعودية وخليجية ومعونات عراقية عند تفاقم الأوضاع.. هذا عدا الضمانات الأميركية الكبيرة التي تحمي الكيان السياسي الأردني ومملكته.. ولولاه لأنهارت المملكة أكثر من مرة.
أما دور الهاشميين في السلطة فهو التعبير عن هذه التوازنات الخارجية في الداخل وتأمين قوات عسكرية وأمنية تحمي هذا التنوّع باختراع ولاء لها على أساس النخوة والعشائرية ورقصة الدبكة وبني هاشم.
وجاء الدور الهاشمي في اضطرابات العراق وسورية متطابقاً مع الأوامر الأميركية ـ الإسرائيلية ومطالب آل سعود الذين كانوا يفضلون هجوماً أردنياً على جنوب سورية والأنبار العراقي، ولأن السياسة الأردنية طبّقت توازناً دقيقاً بين دول غرفة «الموك» التي كانت تدير الاضطرابات في بلاد الشام والعراق برعاية المخابرات الهاشمية، وأسست علاقة مع الأتراك من خلال الدور الأميركي فقد استاء منها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. بدلاً من تعزيز مساعداته المالية لها، قطع القسم الأكبر منها.. فكيف يحضر الأردن مؤتمراً تركياً لدعم القدس ضد القرار الأميركي على مستوى الملك شخصياً، على الرغم من أنّ السعوديين أمروه بتخفيف مستوى التمثيل إلى مستوى وزاري أو دبلوماسي؟ ولأنه رفض فكان لا بد من اقتطاع جزء من «أداة» أساسية يُقنع بها الأردنيين وهي أموال المساعدات. إنّ تراكم التراجعات الاقتصادية جراء تراجع مساعدات الدول الإقليمية والدولية الراعية للأردن، وإقفال الحدود مع سورية والعراق.. بالإضافة إلى أنّ الاقتصاد الأردني ليس منتجاً ويجسّد دور الاقتصاد الريعي المعتاش على المساعدات والسياحة والاستيراد والتصدير عبر النقل البري.. هذه التراجعات أدّت إلى اندلاع تظاهرات تقترب من حدود الانتفاضة الكبرى.. ولا يستطيع النظام أنّ يلجمها إلا بوسيلتين: تدابير اقتصادية سريعة لا يمتلك وزرها حالياً، وإجراءات عسكرية لا تؤدي عادة إلا إلى مزيد من فوضى داخلية.
الواضح حتى الآن أنّ حركة التظاهرات لا تستند إلى قوى خارجية تريد اضطراباً واسعاً ودائماً بقدر ما تسعى إلى تأديب ملك الأردن على بعض سياساته المتعارضة مع المواقف السعودية.. نموذج قطر التي خرجت نحو تركيا واضح للعيان.. لأن آل سعود لا يقبلون بأي دور تركي في شبه جزيرة العرب وبلاد الشام، لكن الأمور لم تدرك مرحلة رفع الغطاء الخارجي عن المملكة البريطانية الجذور. وتحتاج هذه التظاهرات إلى قيادة سياسية يبدو أنّها موجودة عند ثلاث قوى متفرقة أو مجتمعة: فلسطينيو الأردن، الفئات الأردنية الغفيرة في المدن وعشائر الجنوب المخترقة سعودياً.
فهل هناك خفايا لمحاولات جديدة للفتور على وطن بديل للفلسطينيين، أم أنّ ما يجري حركة تأديب خليجية لمملكة تحاول العودة إلى العلاقات الاقتصادية مع العراق وسورية، إلى جانب أصلية المطالب الاقتصادية الداخلية لفقراء أردنيين يزيدون عن نصف السكان؟ هم الإخوان المسلمون الذين يستشعرون أفول أدوارهم في مصر وسورية والعراق محاولين إعادة التموضع في الأردن، وهم للتنويه فئة وازنة في بلاد الهاشميين و«المسحوق» المطلوب أميركياً وإسرائيلياً لتفجير الأردن إلى كيانين أردني يصل السعودية وفلسطيني يدرك الضفة الغربية؟
هذا غيض من فيض المخابرات الأميركية التي تتلاعب بدول المنطقة لخدمة استمرار مشاريعها في توتير المشرق العربي. ولا تعبأ لا بالصداقات ولا الولاءات، المهم بالنسبة إليها هي المصالح الأميركية فقط. ولو اقتضى الأمر تدمير ممالك هويتها قيمتها في دورها الأميركي حصراً.. فهل يستفيق هؤلاء العرب من سباتهم العميق؟