في الشرق: جبران ومي زيادة وفي الغرب روبرت براوننغ وإليزابيث باريت
مولود بن زادي
شهد العصر الفيكتوري في إنكلترا ميلاد واحدة من أجمل علاقات الحب في القرن التاسع عشر، وإحدى أشهر قصص الغزل في تاريخ الأدب الأوروبي والعالمي جمعت الأديبين الشهيرين روبرت براوننغ وإليزابيث باريت، اتسمت بصفات الوفاء والتضحية والصدق والواقعية، تبادل فيها الشاعران الإنكليزيان رسائل تفيض برحيق الحب والوداد والطرب، وتطفح بأسمى عبارات الامتنان والتقدير والإجلال.
تشابه علاقتي جبران وبراوننغ
ولعلّ ما يثير الانتباه ونحن نتأمل هذه القصة، ونقرأ بين أسطر خطاباتها، ونجول بين كلماتها، ونسبح في مجاري معانيها، أوجه التشابه بينها وبين علاقة جبران خليل جبران ومي زيادة.. تشابه يرحل بنا من منتصف القرن التاسع عشر إلى مطلع القرن العشرين، ومن ضباب الجزر البريطانية إلى ثلوج الولايات المتحدة ودفء الشرق الأوسط، ليحط بنا في عالم جبران ومي زيادة الضبابي. فكلتا العلاقتين جمعت بين أديبين. وكلتاهما تضمنت تبادل الرسائل، لتندرج بذلك ضمن أدب الرسائل وأدب الحب، وهو فن قائم بذاته، مستقل عن الأصناف الأدبية الأخرى، له جمالياته المميزة وأدواته الخاصة. وكلتاهما أثارت إعجاب الجماهير، وأنظار الباحثين، واهتمام المحللين، وأسالت من الحبر الكثير.
علاقة منبعها الإعجاب
ما يلفت الانتباه في علاقة مي زيادة بجبران أنها نشأت من إعجاب. فمع أنّ مي زيادة كانت محاطة بكوكبة من كبار الأدباء في الشرق من أمثال أمير الشعراء أحمد شوقي وعباس محمود العقاد ومصطفى عبد الرازق، فقد أثار اهتمامها أكثر الأديب المهجري الذي لمع نجمه في سماء أميركا، بمقالاته وأفكاره ومواقفه المختلفة المتأثرة بالبيئة الجديدة. وبعد اطلاعها على كتاب «الأجنحة المتكسرة» الصادر عام 1912، بعثت له برسالة عبرت له فيها عن إعجابها بفكره وأسلوبه، لم يتأخر جبران عن الرد عليها، لتنمو بينهما بعد ذلك علاقة تدرجت من الإعجاب إلى التودد، أثْرَت المكتبة العربية بأروع ما كُتِب في أدب الرسائل.
وبعيدا عن أميركا والشرق الأوسط، وفي أوروبا وبالتحديد الجزر البريطانية، نشأت علاقة مماثلة جمعت الأديبين إليزابيث باريت وروبرت براوننغ. فقد أعجب الشاعر روبرت براوننغ بأشعار إليزابيث باريت، فعبّر لها عن ذلك في أول رسالة كتبها لها بتاريخ 10 كانون الثاني 1845، جاء في مستهلها: «أحب أبياتك الشعرية بكل قلبي، آنسة باريت.» وقد تدرجت المراسلة من حب الأشعار إلى حب الشاعرة نفسها. كانت باريت آنذاك في أواخر الثلاثينيات من عمرها. وقد عُرفت منذ صغرها بشغفها بالمطالعة وموهبتها في الكتابة، إذ أنها بدأت تقرأ الروايات ولم تتجاوز سن السادسة، وبدأت دراسة اللغة الإغريقية ولم تتجاوز العاشرة، وشرعت في التأليف ولم تتعد الرابعة عشرة من عمرها بإصدار ديوان ملحمي بعنوان «معركة الماراثون» 1820 . فبلغت شهرة عالية تعدت حدود الجزر البريطانية، فاقت شهرة حبيبها براوننغ.
سجل حافل برسائل الحبّ
وبالمقارنة مع رسائل جبران إلى مي التي تمَّ جمعُها في كتاب «الشعلة الزرقاء» وعددها 37 رسالة خلال علاقتهما الطويلة، فقد تبادل براوننغ وباريت 573 رسالة حب خلال فترة قصيرة، تُحفَظ نسخها الأصلية المكتوبة باليد في معهد «ويلزلي» في ولاية ماساتشوستس الأمريكية. فقد قامت كارولين هازارد رئيسة معهد ويلزلي بشراء هذه الرسائل، وفي سنة 1930 تبرعت بها للمعهد، حيث بقيت إلى يومنا هذا. قال روبرت براوننغ لإليزابيث باريت في إحدى هذه الرسائل: «أشعر بأنه لو كان بوسعي أن أجدد نفسي، كأن أحوّل نفسي إلى ذهب، فإني مع ذلك لن أشتهي أن أكون أكثر من مجرد موضع الماس الذي يتحتّم عليك أن ترتديه دوماً». وها هي إليزابيث باريت ترد عليه بأجمل وأصدق عبارات الامتنان والتقدير والحب الذي يجعل الحبيب يشعر بأنه منصهر في الآخر وملك له: «والآن أصغ إليّ بدورك.. لقد أثَّرتَ فيّ تأثيرا أعمق مما كنت أتصور. لقد خفق قلبي غبطة لحضورك اليوم. فمن الآن فصاعدا، أنا لك في كل شيء».
الحب الحقيقي يكره التأخير
يقول الفيلسوف الروماني لوكيوس سينيكا: «الحب الحقيقي يكره التأخير ولا يحتمله». وقد سارت هذه العلاقة الغربية وفق هذا المبدأ ولم تخالفه.
فبينما صرف جبران عشرين سنة في مراسلة مي زيادة بدون نتيجة، فقد عجــّل روبرت براوننغ إلى لقاء إليزابيث باريت بعد خمسة أشهر فقط من انطلاق المراسلة. وتواصلت رسائل الغرام بينهما بين سنتي 1845 و1846.
ولم يكد يمضي عشرون شهرا على بداية المراسلة، التي تبادل فيها الشاعران مئات الرسائل التي تفيض بمشاعر الحب والحنان والشوق الصادقة، حتى تزوجا في السر يوم 12 أيلول 1846.
فقد كان والدها المستبد يعارض زواجها، ما دفعها إلى عقد القران في الخفاء. وبعد الحفل الذي حضره سرا بعض أفراد أسرتها، فرّا من لندن إلى إيطاليا. فغضب منها والدها وحرمها من الميراث. وفي إيطاليا عاشت مع زوجها لمدة 15 سنة إلى أن توفيت في يوم 29 حزيران 1861 في حضن زوجها.
لا تدعها تنتظر
يقول مثل إنكليزي «لا تدعها تنتظر لأنك تعلم أنها ستفعل». عشرون سنة هي المدة التي صرفها جبران في مراسلة مي زيادة من غير أي اجتهاد للقائها، عدا في عالم خيالي بعيد عن الواقع الذي كان يعيشه رفقة نخبة من النساء على رأسهن حبيبة الروح في أميركا ماري هاسكل التي خصَّها بـ325 رسالة حب. في المقابل، عشرون شهراً هي كل ما كان يحتاجه روبرت براوننغ وإليزابيث باريت لتجسيد لقاء أبدي بعد لقاء أول خلال خمسة أشهر فقط من بداية المراسلة.
ولم يكن تجسيد هذا اللقاء وهذا الرباط الأبدي هينا، فقد تطلَّب ذلك التضحية وقبول الزواج سرّا وتحمل أعباء المغامرة والهروب إلى إيطاليا والاحتراق بنار البعد عن الأوطان والحنين إلى الأهل والأحباب والحرمان من الميراث.
وبينما رحل جبران بمي زيادة إلى عالم ضبابي صنع قضبانه بيديه، فإن براوننغ رحل بحبيبته إليزابيث باريت إلى إيطاليا، فمنحها فرصة السفر والتجوال والاكتشاف وعيش تجارب جديدة.
ولعلّ خير ما نستخلصه من تجربتي جبران ـ مي وبراوننغ ـ باريت هو أنّ «الحُبّ لَيْسَ مُطْلَقاً كَلاماً مَعْسُولاً يُرَدِّدُهُ اللِّسَان، وإنّمَا مَشَاعِرٌ صَادِقَةٌ تَتَجَلَّى في سُلُوكِ الإنْسَان». ومشاعر المحبة تجلت في سلوك براوننغ وفي قراره مصارحة إليزابيث باريت بحبه لها وبرغبته في أن يكون معها وهو ما تجسّد بفضل الإرادة سريعاً، خلال أشهر من بدء العلاقة.
وبينما آلت علاقتة جبران ـ مي زيادة الغامضة إلى مهب الريح وآلت بسيدة الأدب في الشرق مي زيادة إلى السجن والجنون، فإن علاقة براوننغ وإليزابيث باريت توّجت بالزواج والسعادة.
كَتَب لها براوننغ صباح يوم الزفاف رسالة تاريخية قال لها فيها: «إنك بلا ريب تتوقعين بعض الكلمات القليلة. فماذا ستكون يا ترى؟ حينما يمتلئ القلب سيفيض، لكن هذا الامتلاء سيظل خفيا في الأعماق، وستعجز الكلمات عن التعبير عن مقدار معزتك في نفسي. فأنت عزيزة كل المعزة على قلبي وروحي.
أمضي بوجداني إلى الماضي، فألفي أنك، في كل نقطة، وكل كلمة، وكل إشارة، وكل حرف، وكل لحظة من لحظات الصمت، كنتِ بالنسبة لي المرأة المثلى الكاملة. لا، لن أغير كلمة، ولا نظرة.. فكل أمل وهدفي هو الحفاظ على هذا الحب وليس الوقوع منه. أكتفي بهذا القدر يا أعز البشر. لقد منحتني أكبر دليل عن الحب الذي بوسع المرء أن يمنحه لغيره. إنني ممتن وفخور.. إلى أبعد الحدود.. فقد توجت بك».
كاتب جزائري مقيم في بريطانيا