السيادة اللبنانية المنتعشة بين «الرياض والمختارة»

د. وفيق إبراهيم

ازدادَ اطمئنان اللبنانيين على الاستقرار في بلدهم. فالوزير وليد جنبلاط أكّد لهم قبل أنّ يذهب إلى العاصمة السعودية ويعود منها غانماً، أنّ العلاقات بين «الرياض» و«قصر المختارة» تاريخية. فإذا كان لكل قصر، يمثّل مذهباً أو قسماً منه، علاقات عميقة متنوّعة مع إحدى عواصم الإقليم، فماذا يتبقى لدولة لبنان؟

ألا يشبهُ هذا النمط من العلاقات ما كان يجري في القرن التاسع عشر بين المختارة وقصر باكينغهام الإنكليزي الذي لم تكن تغيب عنه الشمس وفرنسا الحنون وبكركي ودار الطيبة وظاهر العمر المتمرّد على العثمانيين ودارة خلدة مع والي دمشق والعلاقات مع الباب العالي. كان هذا قبل تشكل لبنان الكبير بقرن على الأقل، فلماذا تستمر هذه الظاهرة بعد إعلان الدولة الحديثة.. ألا يجب أنّ تنحصر علاقات الدول بها؟

هناك إذاً خلل على مستوى وظائف الدولة التي تبدو وكأنها كونفدرالية مذاهب على أساس انقسام كانتوني جغرافي.. وإلاّ كيف يمكن أن تنتصب علاقةٌ بين دولة خارجية وجزء من مذهب لبناني وعلى أساس العلاقات العميقة؟

هذا يقود بدوره إلى التساؤل عن مغزى التزامن بين الزيارة الجنبلاطية وتشكيل الحكومة اللبنانية؟ وكيف لا يستطيع الرئيس المكلف بالتشكيل سعد الحريري مقابلة ولي العهد محمد بن سلمان صاحب الحل والربط.. ويتمكّن جنبلاط وابنه والوفد المرافق الاجتماع به لساعات؟

الإجابات غامضة.. لكن منْ سمع تصريح رئيس حكومة تصريف الأعمال الحريري وهو يقول بوضوح إنّ من خسر الانتخابات في العراق، لا يستطيعُ تعويضَها في لبنان، يعتقد أنّ الحريري هو الذي ربح انتخابات العراق مباشرة أو بواسطة السعوديين.

.. فيصبحُ بالاستنتاج أنّ زيارات مرتقبة لقوى سياسية لبنانية مختلفة إلى السعودية يجري التحضير لها بسرية.. وتشمل حزبي القوات والكتائب وبعض النواب المستقلين من مختلف الطوائف. وذلك في محاولة لتشكيل ائتلاف يدعمه الأميركيون إلى جانب السعوديين.. وقد يعتمد على السياسة الفرنسية للتأثير على التيار الوطني الحر من طريق «مقايضة» بين رئاسة جمهورية مقبلة لوزير الخارجية الحالي جبران باسيل، وبين رئاسة أي حكومة مع غالبية وزرائها للنفوذ السعودي برعاية واشنطن. أما وسائل الإقناع التي يعتمدها السعوديون فمتنوعة.. فبالإضافة إلى الإغراء بالمناصب والدعم المتنوع الذي يسيل له لعاب بعض الطبقة السياسية اللبنانية، تُوزِّع الرياض معلومات عن حرب إقليمية إسرائيلية تستهدف إيران وما يسمّيه الخطاب السعودي «أذرعتها» في الاقليم. ولن يكون الأميركيون محايدين فيها حسب إرهاصات «الرياض». مؤكدين أنّ هذه الحرب لن تنتهي إلا بعد القضاء على الدور الإيراني في المشرق العربي من الحوثيين في اليمن إلى حزب الله في لبنان وما بينهما.

فلماذا الاستعجال إذاً، بتشكيل حكومة لبنانية في أجواء مريحة لحزب الله وتحالفاته؟ فإذا لم يوافق «الحزب» على حكومة فيها غالبية لحزبي المستقبل و«القوات» بشكل أساسي ومعهم جنبلاط والكتائب، فلماذا تسهيلُ هذا التشكيل الآن. ولماذا لا تتّمُ عرقلته؟ خصوصاً أنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال الحريري يستطيع أنّ يستمر في رئاسة هذه الحكومة حتى بدء الحرب الإسرائيلية على إيران أو حزب الله أو الاثنين معاً؟ ولن يسمح أبداً بتوزير سنيّ مستقل.

المراهنات إذاً، هي على العامل الخارجي الذي قد يشُن حرباً وقد لا يفعل.. فكيف نربطُ مستقبل الأوضاع في لبنان بعجلة السعار السعودي الذي يجمحُ لتدمير كل مَن يعترض سبيل هيمنته في الخليج والعالمين العربي والإسلامي؟ فلماذا نرهنُ لبنان لمغامرات غير محسوبة، في تأييد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982. فماذا كانت النتيجة؟

سقط المؤيّدون الداخليون للاجتياح وتحرّرت بيروت وضواحيها والجبل.. وفرّت إسرائيل من جنوب لبنان في العام 2000 بعد 18 سنة من جهاد متواصل من قبل القوى الوطنية وحزب الله.. ولولا الانقسامات المذهبية والطائفية لما عاد إلى العمل السياسي، مؤيّدو ذلك الاجتياح، لكنها الطائفية التي تمنع إنهاء المهزوم بالضربة القاضية وقد تدفع إلى تسوية إلزامية معه في مراحل لاحقة. لذلك تدفع هذه المعطيات إلى البحث عن سبل حماية لبنان من التأثيرات الإقليمية والدولية أو التخفيف من انعكاساتها على الأقل لمصلحة استقرار داخلي مطلوب لسببين، معالجة الأوضاع الاقتصادية الشديدة التدهور والمهدّدة فعلياً لاستمرار الدولة.

والثاني تحصين الوحدة الوطنية عبر الاستقرار السياسي والاقتصادي، فكيف يُمكن لدولة مصابة بانسداد اقتصادي أنّ تتدبّر فرص عمل لعشرات آلاف الشبان المرشحين للالتحاق بقوافل العاطلين عن العمل والمهيئين بالتالي إلى مزيد من الانحرافات والتهور، والالتحاق بالمنظمات الإرهابية المتطرفة. ولا بد من الإشارة إلى أنّ الإقليم لم يعُد بوسعه استيعاب الطاقات اللبنانية، كما في الأيام السالفة لضمور أسواقه الداخلية.

أين الحل إذاً؟ الإرشاد لا قيمة له في أسواق السياسة.. هناك موازنات القوى الناتجة عن أمرين: الانتخابات الداخلية ونتائج حروب الإقليم.. إنما على قاعدة «احترام» الانقسامات المذهبية والطائفية والتعبير عنها بدقة في أي تشكيلة حكومية، وذلك لاحتواء الأصوات الداعية للفتنة.

هذا يؤدي حكماً إلى حكومة بـ «ثلاثة أثلاث». الأول لحزب الله وحلفائه، والثاني لفريق رئيس الجمهورية وحلفائه وتيار الوطني. أما الثالث فلحزبي المستقبل والقوات والكتائب وحلفائهم. فيصبح الاستقرار الحكومي رهناً بتسويات دقيقة جداً بين أطراف الداخل، لكنها لن تكون إلا تحت رحمة العاملين الدولي والإقليمي، كالمعتاد.

واستناداً إلى المعلومات المتداولة، فإن موافقة الطرفين الأميركي ـ السعودي على حكومة «الثلاثة أثلاث» تعني على الفور قبولهما باستمرار المظلة الدولية ـ الإقليمية التي تحمي لبنان إلى أنّ تبدأ هذا العلاقات بالترنّح تحت تأثير تغييرات مستجدّة.

بأي حال، فإن كل حكومة لبنانية قديمة أو جديدة قابلة للاستقالة بضغط إقليمي للتشابك الكبير بين الداخل الوطني والخارج الشديد التأثير عليه، لكن استقرار الأوضاع في لبنان أصبح مطلباً إقليمياً ودولياً.. فلماذا لا نستفيد من هذا المناخ لتشكيل حكومة ترعى الاستقرار المطلوب؟.. قد يحتاج هذا التشكيل إلى تنفيس الانتفاخ الوهمي الذي تشعر به قوى داخلية تتخيل أنّ بوسعها ابتزاز القوى الوطنية بسياسة الدلع المرتكزة على العامل الخارجي. وهي لا تعرف أنّ الورم ليس قوة بنيوية، فإذا واصلت سياساتها التدميرية، فقد لا تجد موقعاً صغيراً في أي حكومة جديدة. وعندها لن تجدي سياسة العودة إلى التعقل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى