نقد عربيّ… أم اجترار للنظريات الغربية؟
علي لفته سعيد
للنقد مسؤولية كبيرة، ليس في مجال التسويق للنتاجات الثقافية، أو أنه يحمل الأدوات النقدية لهذه النتاجات المتنوعة، بل لأنه يمنح من خلال منهجيته وعلاماته وقدرته على تحديد أطر الإبداع للنصوص الأدبية من جهة ولأدواته الفاعلة من جهة أخرى.
فالنقد لم يعد متابعة النصوص وتأشير الإيجاب والسالب منها، بل صار منهجاً علمياً مثلما أصبحت له هويات ثقافية يمكن إعطاؤها لمن تمكّن من الوصول إلى وضع الخطوط العلمية للمجال النقديّ الذي توسّع وصار متناسلاً مثل تناسل الآراء التي يطرحها كبار النقّاد في العالم. وقد تحوّل إلى ما يشبه الرمال المتحرّكة التي لا تستقرّ على رأي واحد. بل هو من يعارض الرأي ويأتي بغيره. ولكن الأسئلة تتعلق بالنقد العربيّ: هل تمكّن العرب من خلق نموذج نقديّ؟ وهل تمكّنوا من اجتراح على الأقل هوية نقدية عربية؟ وهل هناك أزمة نقد لدى النقّاد العرب واتهامهم بأنهم يتأثرون بما يأتي به النقّاد الغربيون؟
هذه الأسئلة نناقشها من خلال الاستطلاع التالي.
النقد والفلسفة
يقول الناقد العراقي ياسين النصير: لا يمكن الحديث عن النقد من دون الحديث عن الفلسفة. النقد فرع من الفلسفة، والناقد الذي لا يملك تصوّراً فلسفياً عامّاً لا يمكنه أن يكون ناقداً مؤثّراً. ويرجع السبب إلى ما يُقرأ من نقد لنقّاد عراقيين يمارسون النقد الأكاديمي والنقد الثقافي. تجد أن ظلال الفلسفة تخصّ مواقفهم الاجتماعية والسياسية فقط، وعندما يكتبون نقداً لا تجد الكثير من هذه الرؤية الفلسفية موظفة فيه.
ولكن النصير لا يدعو إلى أن يضع الناقد الفلسفة أمام النصّ المنقود، كمن يضع العربة قبل الحصان. ولكنه يدعو إلى أن تكون الكتابة النقدية مشبعة برؤية فلسفية، وفي مجتمع مثل مجتمعنا العربي والعراقي لا يمكن استعارة مناهج نقدية من دون أن يرافقها موقف فلسفيّ خاصّ بالناقد. المناهج الغربية المرتحلة إلينا تتضمن مواقف فلسفية قد لا نجد لها حاضنة أو مبرّراً لوجودها، فهي عندهم تحاكي مجتمعات وثقافة متطوّرة، وعندنا ما زالت مجتمعاتنا تحبو نحو الحداثة، وتهيمن عليها مؤسسات سياسية واقتصادية متخلفة، تؤمن بالخرافة أكثر مما تؤمن بالعلم. فجامعاتنا لا دور تنويرياً أو حداثوياً لها، لأنها ليست مستقلة ولا مدنية، بل تابعة للحكومات ومثل هذه التبعية تجعلها حاضنة لفلسفة الحكومات المتخلفة. فأزمة النقد ترتبط بمجمل الرؤية الاجتماعية للتطوّر.
فالثقافة الغربية تقطع شوطاً طويلاً في الإبداع حتى يصار إلى اجتراح منهج نقدي، بينما عندنا نتبنّى المناهج النقدية، من دون أن يكون لها تأسيس إبداعي، ولهذا وبحسب رأي النصير، فإن هذه التبعية لا تنتج ثقافة نقدية متميزة. كما أن الثقافة والمثقفين لم يشعروا يوماً بأنهم جزء من بيئة المجتمع، كل الحكومات ومؤسساتها الثقافية تلغي دور الثقافة والمثقفين في بناء المجتمع، لأن النقد عدوّ الأنظمة الفاشلة والديكتاتورية، وهذه الأنظمة لا تمارس النقد الذاتي نتيجة فشلهم السياسي، فكيف يسمحون لفئة المثقفين بأن يكون لهم اسم في التغيير والبناء؟
زرع النظريات الغربية
الناقد المصري يسري عبد الغني يطالب أوّلاً بالاتفاق على أنّ النقد الأدبيّ هو جزء أصيل من النقد الثقافي بوجه عام، لأنه يحتاج إلى التدريب والمهارة والخبرة والموسوعية الثقافية والتراكمية المعرفية العميقة، المتابعة لكل المستجدات الإبداعية والثقافية في العالم العربي والعالم. ويضيف أن النقد إن لم يستند إلى منظومة ثقافية نتحرك في إطارها، ورؤية فلسفية ننطلق منها فلا يمكن القول إننا نمارس النقد، فنحن لا نمتلك نظرية فلسفية، ومنذ عبد القاهر الجرجاني في القرن الرابع الهجري، وحازم القرطاجني في القرن السابع الهجري، لم نعرف إطاراً نقدياً منهجياً. فالنقد في ساحتنا الثقافية مجرد انطباعات ومجاملات و«سبّوبة» تدمّر البناء الحقيقي للنقد الأدبي، ويبدو الاتجاه الأسوأ، وهو أخذ النظريات الغربية ومحاولة زرعها بطريقة القص واللصق في تربتنا الثقافية، من دون أن نفهم ماذا يراد لنا منها، مثل التفكيكية والبنيوية التي صدعوا رأسنا بها. فالمزج بين الأصالة والمعاصرة هو المخرج حتى يمكن لنا بناء هوية نقدية حقيقية، وعلينا مراجعة ما ندرّسه لأولادنا في الجامعات، مع التركيز على تراثنا النقدي الذي هو منهل ثريّ لو قدّمناه بشكل علميّ منظّم لاستطعنا الاستفادة من هذا التراكم التراثي لنظرية نقدية عربية.
أزمة النقد العربيّ
الأكاديميّ إحسان التميمي يؤكد فعلاً وجود أزمة في المشروع النقدي العربي، وكل ما لدينا في النقد هو اجترار لمعطيات المشروع النقدي الغربي. فيقول: لا يخفى أن المشروع النقدي يتأسّس من خلال استنطاق النصّ لا أن يكون ضمن محمولات مسبقة مفروضة على النصّ. فالنص له خصيصته، وإن كان يشترك في المضامين الإنسانية العالمية.
لكن الصبغة المحلية والبيئية هي الحاضنة له، ولما كان النقد وليد الفكر والحضارة، وهو ضمن منظومة قيمية تأسيسية خاضعة لهيمنة السلطة، وأقصد بها سلطة المعرفة، فصار النقد المجال الأكثر تعبيراً عن هيمنة السلطة المعرفية، ولهذا كان النقّاد العرب القدامى هم أصحاب نظرية نقدية ومشروع نقديّ مهيمن، وفي العصر الراهن صار المشهد النقدي العربي تابعاً لهيمنة المعرفة الغربية المنتجة، ولهذا نضب النقد العربي عن تقديم صورة حية وفاعلة في المشهد العالمي.
أسئلة حارقة وصفيح ساخن
الناقد التونسيّ حمد حاجي يعتقد أن الناقد الأدبي ذلك العجوز في سنّ اليأس. ويوضح أن الرؤية الأدبية الجديدة ننتظرها من ناقد شاب يستنبطها كي تكون نظرية نقد ثقافية جديدة، تراعي النقد العربي المعاصر، الذي عرف انفتاحاً على جملة من التوجهات النقدية التي حاولت تجاوز المنجز العربي بالبحث في الثقافي، لذا هو يعبّر عن أن الجميع ينتظر أن تنبني نظرية النقد الثقافي الجديدة على أسئلة حارقة تنضج على صفيح هادئ، وتخلق نموذجاً نقدياً وهوية نقدية عربية مستحدثة. ذلك أن الأزمة مازالت تتعمق بالتأثر بما يأتي به النقاد الغربيون من رؤى ومنظومات من ناحية، وما زال نقّادنا منبهرين بمصطلحات الغرب التي سرعان ما تزول من ناحية ثانية.
كذلك تعالت مؤخراً دعوات إلى صوغ نقد «جديد» يتجاوز مقولات النقد الأدبي المعاصر، وبالتالي تحويل نظرية الجمال ومصطلح الجمالية إلى نقد ثقافي يهتم في ما يهتم بالأنساق الثقافية المتسترة خلف البناء اللغوي، وهذا الأمر دفع الباحثين إلى الانفتاح على معارف إنسانية أخرى، ترى في نظرية الأدب أو علم الجمال أو التحليلات الفلسفية أو النفسية أو التاريخانية أو الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم العلامات مدخلا ثقافياً رئيساً. ويطرح حاجي ثلاثة أنواع من النقّاد، أوّلهم ناقد حين ينظر في الأثر الأدبي، يعتمد على المطلق أساساً في منظومة تاريخية للمدارس الأدبية، ويقحم الأيديولوجيا والأديان والمذاهب، والثاني ناقد حين ينظر في الأثر الأدبي يعتمد على منظومته العقائدية ويقيم النصّ الأدبي فكرياً وفلسفياً على رؤى تاريخية، ويقيسه وفق انتقائية قياسية ميثولوجية مدرسية. والثالث ناقد يعتمد من خلال رؤيته الجمالية للنصّ على اللغة والبلاغة، باعتبارهما قيمة جمالية مقدسة تحمل نفحة من نفحات القديم البديع، ويرى أن النماذج الثلاثة المقدّمة وربما مجتمعة لم تعد قادرة على تحقيق متطلبات المتغير المعرفي والثقافي العالمي.
النقد العربيّ والشكّ في وجوده
الناقدة والأكاديمية عالية خليل إبراهيم تقول إن هناك نقّاداً عرباً لهم طروحاتهم النقدية القيّمة مثل عبد السلام المسدي، محمد مفتاح، سعيد يقطين، سعيد بنكراد، يمنى العيد، صلاح فضل، فاضل ثامر وعبد الله الغذامي، إن قائمة النقّاد العرب المهمّين والمؤثّرين في المشهد الثقافي طويلة، لكنّها تستدرك بالقول إن هنالك نقداً عربياً له هوية محدّدة ذلك أمر مشكوك في صحته، فالنسبة بين الاثنين لا تصحّ، لأنّ مناهج النقد الحديث منظومة معرفية غربية خالصة، ولا يساهم العرب في برمجتها إلا ناقلين أو ناسخين، وعلى أفضل الأحوال، شرّاحاً.
وتذكر للتوضيح مثالاً هو الناقد العربي الأميركي إدوارد سعيد، وتقول إنه على الرغم من كونه ابن المؤسّسة المعرفية الغربية تبلورت ونضجت طروحاته بين أروقتها، دائماً ما يقال إنه استند في دراسته الخطاب إلى أفكار الفرنسي ميشال فوكو، وبهذا تعتقد إبراهيم أنّ النقد العربي يفتقر للهوية الراسخة لأنه نقد فرديّ يشيده أفراد، وليس هنالك من مؤسّسة ترعى تلك النشاطات الفردية وتدعمها وتموّلها، والمؤسسات الجامعة غير منتجة تتبنّى مناهج تدريسية معطّلة للتفكير الناقد لذلك.
وتضيف أن النقد العربيّ يتّسم بالوعي التجزيئيّ وليس تكاملياً. ولا ننسى أنّ النقد ممتدّ الصلة بعلمَي المنطق والفلسفة، لذلك فهو هواية ومهنة لأقلية ثقافية ما زالت تقرأ وتؤمن بقدرة الفلسفة والعقل الناقد على تغيير الواقع.
عوامل صناعة النقد العربي
ويعتقد الناقد العراقي إسماعيل إبراهيم عبد، أنّ العصر الآن يفرز لنفسه نوافذ متعدّدة الاتجاهات، لكن الاحتفاء الأساس إعلامياً يخصّ التنظير. مثلما يعتقد أننا جزء من المنظومة الجغرافية والتاريخية للعالم، فإننا نتميز بجغرافية وتاريخية مكاننا. ويضيف أنّ مسألتَي الخصوصية والتميّز النقديّ العربي لا تؤخذان كطبيعة إلا عبر خصوصيتهما البيئية الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، ولنا أن نراجع مئات الكتب المؤلفة حديثاً وتحديداً بعد عام 2000، سنجد عبرها ثلاثة عوامل تصطنع للنقد العربي هوية. الأول هو الدخول إلى عالم الفنون واختلاطها، والنقد المقيس لها والبنى الارتكازية المؤسّسة للفكر الباعث عليها، يأخذ بقيمة الإجراء لا التنظير ولا الافتاء لاتجاه بعينه. والثاني هو أن الاهتمام بالتطور الاجتماعي أو الحث عليه، وعلاقته بالإرث الحضاري للشرق القديم، هي الأفكار الأهم للتناول الإبداعي والنقدي، أما الأخير فهو التمازج بين البيئة الحضارية القديمة والجديدة تعطي للنقد العربي ملامح جغرافية تميزه عما يجاوره من ثقافات نديّة أو ثقافات وافدة أو ثقافات متلاقحة. ويعتقد عبد أن الفعل الإجرائي قد يعوض عن المقولات التنظيرية من خلال الاهتمام التقني بإمكانيات اللغة العربية التقليدية والحديثة ومحاولة تركيب البنى الثقافية للموروث بطريقة طريفة تضع الأسطوري في مقابل البيئي. واستثمار الأيديولوجيات الاجتماعية المتطلعة للحرية والتحضر، في ابتكار علائق جديدة بين عناصر الطبيعة وفلسفة الإيكولوجيا الحديثة، إضافة إلى التغلغل بعيداً في تصوير النَفَسِ المستقبلي وترتيبه لاستجلاب التفكر اللّام واللّازم لمتجهات ضابطة ـ إجرائياً ـ تخصّ المنظور العربي الإنساني ليصير مثالاً أو نموذجاً ـ شبيها بالنظريات ـ بشروطه تنتظم القيم الفضلى للإبداع.
كاتب عراقيّ