العلاقة الإيرانية السعودية… صعوبات في المحتوى وتعارض في السياسات
صادق النابلسي
«إنّ القول بأنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية توسعية النزعة، هو كلام كاذب ومناقض للواقع، إذ إنّ إيران العظيمة والعامرة والموحّدة لا تنوي التوسّع لا في المنطقة ولا في أيّ نقطة من العالم».
مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية آية الله علي الخامنئي 14/4/2018 .
منذ ثلاثينيات القرن الماضي والعلاقة بين الكيان الذي أُطلق عليه عام 1932 اسم المملكة العربية السعودية، وبلاد فارس التي أصبحت تُعرف باسم إيران اعتباراً من العام 1935، مكتظة بالالتباس حيناً، والمساكنة حيناً آخر، والعداوة العلنية التي لم يتوقف سيلها منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011 .
لم يتسنّ للعلاقة بين الرياض وطهران أن تستوي على غايات مشتركة ومنافع متبادلة، ولم تستطع التكيّف مع التحوّلات العميقة التي شهدها العالم ودفعت دولاً من الشرق والغرب لمواجهة أزماتها بالحوار والتعاون واختبار بدائل جديدة للحفاظ على وجودها ودورها.
العلاقة هنا أبعد من وصفها مشروعاً غير تامّ، وسيرورة لم تنضج بعد، وحكمة لا تصدر عن جهتين بالقدر ذاته، ومعايير غير موحدة، أو إجراءات متخلّفة، حتى يمكن إتمامها أو إنضاجها أو تعديلها وتصحيح الموقف والمقاربات حول مسائلها وقيمها. فالإشكالات في النشأة التاريخية، والموروث العقدي، والتباين الثقافي، والتناقض الحادّ في التوجهات السياسية، أمارة على الصعوبات الحتمية التي تواجه العلاقة في محتواها وأساسات بنائها ومناهج فعلها.
خلال العقود الماضية وحتى هذه اللحظة تبتني كلّ الجدالات الفكرية والدراسات البحثية على أساس فرضيات تجتهد في إبراز الجانب الحواري والتعاوني في عملية تصحيح العلاقة بين الرياض وطهران. وقد يكون الإيرانيون أكثر من وقع في فخ المقاربة المثالية وكانوا حريصين على الدفاع عن منهجية تستحضر مفاهيم ومفردات كالأخوة الدينية، ودول الجوار، وأمن المنطقة، وشراكة إقليمية، وتعزيز الاستقرار، وتطوير العلاقات، والتكامل الاقتصادي، والتنمية، وتطلعات الشعوب، والسلام، بل ومدفوعين برغبة عارمة إلى بناء أنساق وإنشاء آليات يمكنها أن تنزع عن البلدين ذلك الغطاء القديم، ومؤمنين بصدق أنّ طريق الحوار سيفتح الباب واسعاً لتنظيم العلاقات وإزالة الحواجز النفسية والعراقيل التاريخية. الإيرانيون وقفوا متسامحين بسذاجة، سواء على أساس دوافع دينية أخلاقية أو بمسالمة سياسية حالمة في ما ينبغي أن تكون عليه العلاقات في المستقبل. وحتى الواقعيون الإيرانيون بالغوا في توقعاتهم من الحوار وأنّ المشكلات بين البلدين قابلة للحلّ من خلال «تدوير الزوايا» كما صرّح وزير الخارجية محمد جواد ظريف في أكثر من مناسبة، واقتراحه «هندسة إقليمية جديدة تصبو الى تحقيق المصالح المشتركة». بل حتى لو قفز فوق كلّ عوامل الشقاق والفصام وأعلن أنّ بلاده «ستكون أول دولة تقف إلى جانب السعودية في حال تعرّضها لأيّ عدوان خارجي»، فمن الخطأ الافتراض أنّ مثل هذه المواقف ستكون سجادة حمراء أو رأس جسر للعبور إلى صداقة مأمونة الجهة والنهايات!
إنّ كلّ الفرضيات سواء استندت إلى أفكار مثالية أو واقعية والتي يُراد اختبار صحّتها والرهان على نتائجها في تأسيس علاقات ذات آفاق جديدة يمكن الاستعانة بها لو تأكد أنّ السعودية دولة حرّة في اختيار مستوى تفاعلاتها مع طهران. فكيف يكون ذلك والسعودية لا تملك مصيرها ومواجهة قوى الإكراه الخارجية وقوى المنع الداخلية؟
لا أحد يحاجج بصحة المواقف التي يطلقها القادة الإيرانيون لجهة أخلاقيتها وإسلاميتها وملاءمتها للقوانين الدولية، ولكن هذه المواقف لا تعكس وقائع ومخرجات تصالحية. وحتى فكرة «التعاون في ظلّ الفوضى» التي ينظّر لها المفكرون الواقعيون والتي تتيح لفاعلين في ساحة صراع معينة مكاسب ومنافع متبادلة، لا تجد لها مكاناً عند القادة السعوديين المصرّين على العلاقات الصفرية وتحقيق عوائد كلية ومطلقة. كما أنّ الأمر ليس البتة، على النحو الذي يقول فيه المرء: حسناً لقد كانت العلاقات بين البلدين سيئة على الدوام، ولكن هل نستطيع أن نؤسّس لعلاقات جيدة منذ اللحظة؟ بحيث يكون التركيز على عملية استكشاف أفكار نظرية تصلح لبناء هذه العلاقة بتصوّرات ومتطلبات واضحة تحدّ من الرغبات اللاعقلانية من جهة، وتبني مداميك علاقة قائمة على ركائز وأطر مفاهيمية دقيقة من جهة أخرى. كما أنّ تموضع العلاقة الحالي لا يسمح بتعريفها بناء على رأي التفسيريّين الذين يدرجون الخلاف الإيراني السعودي في خانة المشكلة وتطوّرها بحيث يمكن من خلال بعض المتغيّرات والتدخلات في بيئة وأبعاد المشكلة جعل الخلاف منظماً بتسويات وتفاهمات هدفها التقليل من الأخطار.
لا، ليس الأمر على أيّ من الأنحاء الآنفة. عدم استقلال السعودية وتبعيتها للغرب عموماً وللولايات المتحدة الأميركية على نحو صارم يجعل أيّ تبريد أو تسخين أو مساكنة أو أيّ مستوى من مستويات العلاقة محكوم لهذه التبعية وليس لاعتبارات أو مصالح دولة لها استقلاليتها الذاتية وقرارها الحر، وهذا السلوك السعودي يعتبر عاملاً مقيّداً في جعل أيّ حوار منتجاً وأيّ تعاون ممكناً.
قد يظنّ البعض أنّ التغيير في أساليب إدارة الأزمة، السيطرة على الانفعالات وكيفية التفاعل مع المنافس أو الخصم، استيعاب وتفهّم كلّ طرف لطموحات وأدوار الآخر، الانفتاح الإيجابي والانقياد إلى الموضوعية الصارمة في تحديد وحلّ المشاكل، السعي إلى إجراءات نظامية محكومة بقواعد المصلحة لكلّ طرف، وغيرها من الطروحات ستكون مقنعة ومشجّعة على بناء الثقة بين البلدين وتأسيس علاقات في سياق عالم المصالح وبعيداً عن التراجيديا المتصاعدة! لكن السعودية مع إيران لا تملك حرية المناقشات والتفاهمات البراغماتية، ولا تسير بدوافعها الخاصة إلى سياقات تسووية أو صيغ تعاونية. قد تجاهر أحياناً في دبلوماسيتها وعلى لسان مسؤوليها بمواقف قد تعكس رغبة واقعية توحي بتفاعلها مع حركة المتغيّرات والتوازنات الإقليمية والدولية التي تستدعي شكلاً معيناً من التموضعات السياسية والأيديولوجية، ولكن هذا مجرد كلام لا فعليّة له أمام حقائق صراع أساسي متصاعد ومحموم. السعودية كيان متمحض بالتبعية القهرية لقوى الهيمنة الغربية التي كانت أساس شرعيتها وديمومتها. فهي مؤسَسَة بدهياً على انتمائها لهذه القوى والخروج على سياساتها ومرجعيتها وتوجّهاتها يساوي موتها وانتهاء نظام آل سعود لصالح نظام بديل. قد يحاجج البعض بأنّ ما بين البلدين، إيران والسعودية، تفاهمات حصلت في مراحل معينة وبعضها ما زال سارياً في مجال الطيران والنقل والأمن وهذا مؤشر على إمكانية أن تؤثر جوانب ثقافية أو اقتصادية على احتمالات تطوير العلاقات السياسية؟ ولكن السؤال هنا هل أنّ هذه التفاهمات على ضآلة ميزتها هي في سياق تعاوني أم صراعي؟ أو بمعنى آخر هل أنّ هذه الاتفاقات تستجيب لرغبات تصالحية وتستند إلى نوايا حسنة أم أنها تأتي في إطار مشروع حرب ناعمة الهدف من ورائها تطويع المجتمع الإيراني وتحضيره للانفتاح على مغريات المال والعمل والأسواق والاستثمارات الخارجية وإخضاعه لآلياتها التي ستحطم على نحو متدرّج كلّ الدفاعات والمبادئ الثورية. إنّ هذا النوع من السياسات ليس دليلاً على تحوّل في السلوك السعودي بقدر ما هو عدوان مبطن وخفي على الثورة وقيمها وهويتها وتوجهاتها المعادية لسياسات قوى الهيمنة العالمية.
أما المعضلة الدينية الوهابية فبقيت على حالها تغذي مخيال السعوديين بمادة العداء للشعب الإيراني. هنا لا تخضع النصوص لقراءات جديدة ولا لمنطق التسويات وموازين القوى. كلّ شيء علني مكشوف مباشر يحرّض على إعدام الشيعي الإيراني وتصفيته وإفنائه من الوجود. الواضح أنّ قوة الوهابية مهيمنة وازنة داخل المجتمع السعودي، ومبدأ الكراهية والمواجهة للمذهب الشيعي الكافر تحكم منظومة الاستدلال الفقهي والكلامي التي تحضر في الحيّز العام وفي قيم التربية والتعليم التي تتماهى مع الجانب السياسي بفعالية شديدة. وهنا مكمن آخر لصدامية العلاقة التي تتأتى من الدور النزاعي للدين الوهابي ، وما ينتهجه الفاعلون الدينيون في تعظيم الصراع وجعله متطابقاً مع سياسات قوى الهيمنة على المنطقة عبر ما تبثه الوهابية، يكتشف المرء أنّ هذه العقيدة لم تعد عقيدة دينية يتمتع المؤمن بها بالسلام الداخلي ولا بقدرتها على إنتاج نسق أخلاقي ومفادات عقلانية على مستوى العلاقات الداخلية والخارجية. من هنا، ينبغي أن يُنظر إلى العامل الديني كعامل غير قابل للإغفال في عملية تحليل العلاقات الإيرانية السعودية وبكونه مصدراً للتعارض بين مبادئ وقيماً ووجهات نظر لا تقبل التوافق!
إنّ كلام مرشد الثورة الإسلامية الذي افتتحنا به المقال له تأثير في صورة وسردية الأحداث رغم كونه يندرج تحت خانة ردّ التهم وتبيان الحقائق. فإيران تفهم العلاقات مع المملكة السعودية انطلاقاً من المبادئ الإسلامية والقانون الدولي وفي إطار علمي واقعي تنافسي. وفي طهران نظام تشتمل افتراضاته على إمكانية التغلب على وضعية التعارض في المصالح والسياسات عبر شبكة أمان من الحوار والتعاون وامتلاك الشجاعة المعنوية لمقاومة التدخلات الخارجية. لكن الطرف المقابل ليس فقط غير جاهز للحوار وغير مستعدّ لاختبار معادلة الشراكة لارتباطه بأساطيل وأساطير الحماية الغربية، بل يساهم في نزع الشرعية عن السلام والأمن تماماً كما يقول المثل الروسي: «عندما يرسل الله الطحين يسحب الشيطان الكيس»!