قمة سنغافورة: كيم يكسب رهان التوظيف السياسي للسلاح النووي
اقترنت القمة «النووية» بين رئيسي الولايات المتحدة وكوريا الشمالية بسلسلة من التساؤلات لا زالت مراكز القوى الأميركية في حيرة من تفسير ما جرى وحقيقة ما تمّ الاتفاق عليه، لا سيما أنّ البيان المشترك الصادر عن القمة جاء مبتسراً وغابت عنه التفاصيل وكذلك مصير المطالب المسبقة التي روّج لها «القادة والخبراء السياسيون» على السواء، أيّ «التخلي الكامل عن السلاح النووي».
لسبر أغوار ما جرى ومدى ديمومة روح الاتفاق قبل نصوصه الغامضة، ينبغي الأخذ بجملة معطيات في ما يخص الجانب الأميركي.
تجدر الإشارة إلى أنّ الوفد الأميركي المفاوض ضمّ أقطاب التيار اليميني والمتشدّد في المؤسسة الحاكمة، مما يشكل خطوة غير مسبوقة لروح «الانفراج» مع كوريا الشمالية من رحم اليمين المسيطر على القرار السياسي ممثلاً بأبرز عناصره مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، جون بولتون، لما يتمتع به من نفوذ وتأثير بالغ داخل التيار المتشدّد الممثل داخل الحزبين، ولكونه الحليف الوثيق لنائب الرئيس مايك بينس. أمرٌ انفردت به إدارة الرئيس ترامب عن أسلافها وفسّره البعض بتعطش اليمين الأميركي «لتجميد» الملف الكوري أمام مواصلة الصعود والتصعيد العسكري ضدّ الصين وروسيا في الحديقة الخلفية لكليهما.
بولتون سبق له أن أفشل اتفاقاً سابقا سعت لإبرامه إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن، بالتنسيق مع «متشدّدي الإدارة ومنهم نائب الرئيس ديك تشيني»، حسبما أفاد معهد راند، 13 حزيران. نضيف أيضاً كتاباً لبولتون صدر عام 2007 بعنوان «الاستسلام ليس خياراً: الدفاع عن أميركا في الأمم المتحدة» كما مهّد لفشل الجولة الأخيرة بين واشنطن وبيونغ يانغ بمقال مذيّل باسمه ليومية «وول ستريت جورنال»، 28 شباط الماضي، يطالب بتوجيه ضربة عسكرية قاسية لكوريا الشمالية.
يرجّح أنّ تعيين الرئيس ترامب لبولتون في موقع بالغ الحساسية والنفوذ ثمة رسالة ترضية للتيار المتشدّد ضارب الجذور في المؤسسة الحاكمة برمّتها وهو الذي ما لبث أن أطلق تصريحات استفزازية ضدّ كوريا الشمالية أسهمت في القاء ظلالٍ من الشكّ على لقاء القمة قبل انعقاده، مما استدعى تدخلاً خارجياً عاجلاً لرئيس كوريا الجنوبية، مون جيه إن، بالتوجه الفوري لواشنطن ولقاء الرئيس ترامب، أسفر عن تراجع الأخير والمضيّ باللقاء وفق الجدول الزمني المقرّر سابقاً.
لمزيد من الإضاءة حول هذا البعد، مركزية دور بولتون تحديداً، نشير إلى تقرير اسبوعية «ذي أتلانتيك»، 13 حزيران الجاري، نقلاً عن مستشار الأمن القومي الأسبق، إليوت أبرامز، إبان عهد الرئيس جورج بوش الإبن الذي حسم الجدل الدائر حول توجهات بولتون و«ضرورة» وجوده وبقائه في منصبه.
ابرامز أوضح قائلاً: «.. عند الشروع في دخولنا مسلسل مفاوضات طويلة ومعقدة مع كوريا الشمالية، تستدعي حضور ومساهمة عدد من المؤسسات والوزارات الخارجية، الدفاع، وكالة الاستخبارات المركزية، وكالة الاستخبارات الدفاعية، وآخرين لتدلو بدلوها مما يتطلب تنسيق تلك الآراء وهو بالضبط ما يبرّر مهام مجلس الأمن القومي».
الناطق الرسمي باسم مجلس الأمن القومي، غاريت ماركي، ألقى مزيداً من الإضاءة على الدور المحوري لجون بولتون في إدارة ترامب قائلاً «.. بولتون ينسّق بشكل وثيق مع كافة أجهزة الأمن القومي وتقديم الخيارات المتاحة للرئيس».
مناورات بومبيو
في قمة سنغافورة «غاب» نجم بولتون والتزم الصمت، مفسحاً المجال لغريمه السياسي، وزير الخارجية مايك بومبيو، الذي اوكلت إليه مهمة التمهيد والإعداد وتنفيذ لقاء القمة. وصعد نجم الأخير في الإعلام الأميركي الذي اتخذ موقفاً مناصراً له ومروّجاً لما يعتنقه من آراء ومفاهيم موازية في عنصريتها وتشدّدها لتصريحات الرئيس ترامب.
بومبيو الآتي من وكالة الاستخبارات المركزية، ومن داخل التيار المتشدّد للحزب الجمهوري في مجلس النواب، ومهام رسمية أخرى، جرى تلميعه «وإعادة إنتاجه» كي يعزز التوجه «الديبلوماسي» لحلّ الصراعات هروباً من الاستحقاقات القانونية والمالية والأخلاقية للحروب الأميركية المتعدّدة، منذ ابتداع مفهوم «الحرب على الإرهاب».
من ناحية أخرى، دشن بومبيو فترة خدمته القصيرة نسبياً في وكالة الاستخبارات بلقائه الزعيم الكوري كيم جونغ اون، ممهّداً للقاءات متتالية مع مسؤولين آخرين في بيونغ يانغ. في هذا السياق، حافظ بومبيو على زخم الخطاب الأميركي المعلن بمطالبة كوريا الشمالية «التخلي عن سلاحها النووي»، مع التلميح الضبابي لمكتسبات اقتصادية وتجارية وسياسية قد تجنيها بعد إنهاء الملف.
في هذا الصدد، دأبت الإدارات الأميركية المتعاقبة على المطالبة بالمثل من كوريا الشمالية وفشلت تباعاً، ربما لتدرّج أولوياتها الاستراتيجية في مناطق أخرى من العالم، كالمنطقة العربية، وما لبث أن وجد سياسيوها أنفسهم أمام مأزق ضاغط بنجاح كوريا الشمالية في تقنية القنبلة الذرية وربما فجرت قنبلة هيدروجينية أيضاً، مما أعادها إلى صدارة الأولويات.
لتوضيح عمق المأزق المشار إليه، عارض بشدة عدد من قادة الحزبين قرار الرئيس ترامب «تجميد» المناورات العسكرية المشتركة مع كوريا الجنوبية، ترضية للوفد المفاوض من كوريا الشمالية، لما يلحقه من تقويض أسس الأمن القومي، كما يزعم.
الردّ جاء من بعض الأخصائيين وعلى رأسهم ديبلوماسي أميركي سابق خدم في كوريا الجنوبية وشارك في «المفاوضات السداسية» سابقاً بقوله إنّ الهدف من المناورات المشتركة، في محصلة الأمر، كان لتعزيز الدفاعات لدى كوريا الجنوبية أنّ تعرّضت لهجوم من جارتها الشمالية. مضيفاً أنه بعد «الانفراج النسبي» بين واشنطن وبيونغ يانغ تقلصت خطورة ذلك العامل، إذ لم تكن اليابان او كوريا الجنوبية عرضة لهجوم صيني روسي ولذا لم تعد هناك أهمية كبيرة يعوّل عليها في المناورات المشتركة مع سيؤول.
بالعودة لدور بومبيو وأسلوبه المراوغ مع تحليه ببعض المظاهر والكياسة الديبلوماسية، جدّد المطالب الأميركية المستندة ظاهرياً إلى النصوص المفضلة لدى فرق التفتيش الدولية منذ عهد الرئيس جورج بوش الإبن: تخلي كوريا الشمالية عن سلاحها النووي بشكل كامل، وقابل للتحقق ولا عودة عنه. المصطلح باللغة الانكليزية الأصل = Complete, Verifiable, Irreversible, Disarmament CVID.
بديهي أن يعمد بومبيو وأقرانه إلى تفسير مصطلح «نزع السلاح disarmament» واقرانه بآخر مختلف «Denuclearization»، لاعتبارات داخلية صرفة ولا يخفى على المراقب تباين التعريف بين البلدين والذي انعكس على البيان المشترك الصادر بلغة ومصطلحات تشوبها الضبابية، وسنلقي مزيد من الضوء عليها في مكان آخر.
لوحظ إقصاء البيان المشترك لمصطلحي «قابل للتحقق ولا رجعة عنه». اللافت في تصريحات بومبيو ما جاء على لسانه لوكالة أنباء كوريا الجنوبية يونهاب، عقب انفضاض لقاء القمة «مشدّداً على مصطلح التحقق.. العنصر الغائب عن الاتفاقيات السابقة». النشرة الانكليزية بتاريخ 11 حزيران الحالي . وأضاف موضحاً للوكالة «سنعمد على التيقن من إنشاء نظام متين نتمكن من خلاله التثبّت من تلك النتائج، وحينما ننجز «التحقق» سنمضي بخطى سريعة في تنفيذ الاتفاق».
ضبابية مصطلحات وتخبّط بومبيو سرعان ما تبخرت بعد بضع ساعات من توقيع الاتفاق ليعرب عن ضيق ذرعه من أسئلة الطواقم الصحافية المرافقين له، الذين طالبوه بتحديد مفهوم «نظام التحقق»، وإذا ما سيعني دخول مفتشين دوليين أخصائيين في الأسلحة النووية لكوريا الشمالية.
بومبيو استشاط غضباً مستنكراً السؤال بالقول «إنّ السؤال ينطوي على إهانة وسخرية، وبصراحة، سخيف». واستطرد «دعوني أن أكون صادقاً معكم، إنها لعبة وينبغي على المرء عدم التلاعب بقضايا جادة مثل هذه».
الاتفاق
وقع الرئيسان بياناً وسم بوثيقة مشتركة غلب عليها عمومية اللغة والخطاب، إذ «تعهّد الرئيس ترامب بتقديم ضمانات أمنية لجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، والتعهّد بإقامة علاقات جديدة، والتعاون لإحلال السلام والازدهار في شبه الجزيرة الكورية وتأكيد الرئيس كيم جونغ أون على التزام ثابت بنزع السلاح النووي الكامل في شبه الجزيرة الكورية». بخلاف ذلك أرجئت التفاصيل إلى الطواقم التفاوضية للبلدين وفي الخلفية تخلي الرئيس ترامب عن الإتفاق النووي مع إيران، وطبيعة الضمانات التي قدّمها للحيلولة دون إقدام أيّ رئيس أميركي في المستقبل على نقض الوثيقة.
إذن، الاتفاق على تعهّد كوريا الشمالية بنزع سلاحها النووي مقابل ضمانات أميركية، أبرز تجلياته كان إعلان بيونغ يانغ أنها ستغلق موقعاً للتجارب النووية، وصفه الرئيس ترامب بأنه «ضخم للتجارب الصاروخية» وعدول واشنطن عن إجراء مناورات عسكرية مشتركة كانت مقرّرة مسبقاً مع كوريا الجنوبية.
الأمر اللافت هو غياب المطلب الأميركي التقليدي «بنزع الأسلحة النووية بصورة كاملة، قابل للتحقق ولا عودة عنه». الأمر الذي ينفي اتفاق الطرفين على «قبول عمليات تفتيش لطواقم أسلحة دولية»، كما يستدعي اتفاقاً مماثلاً بهذا الشأن العراق مثالاً.
الجانب الكوري كان شديد الوضوح في أدنى توقعاته بأن يسفر اللقاء عن «وضع حدّ للحرب الكورية». التي انتهت بتوقيع هدنة وليس اتفاق سلام، مما يضع مستقبل القوات العسكرية الأميركية في كوريا الجنوبية على رأس سلم الأولويات.
أوكل الجانبان «متابعة» الترتيبات والتفاهمات بينهما الى فريق مشترك يتضمّن «وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ومسؤول رفيع المستوى» من كوريا الشمالية «لمتابعة وتطبيق نتائج القمة».
أولوية القضايا المدرجة لا زالت قيد الدرس مما يعيد طرح الأسئلة والتحفظات المبدئية للجانبين: تحديد مفهوم «التخلي عن الأسلحة النووية»، ووضع نهاية للحرب الكورية مما يعني تطبيع العلاقات.
شكوك النوايا مشتركة لدى الطرفين، اذ لكلّ منهما فريق معارض لأيّ خطوة تطبيعية، وإنْ كانت لهجتها أشدّ وضوحاً وحدية في واشنطن بينما يمثل البرنامج النووي والصاروخي جزءاً من ضمير وسيادة االشعب الكوري الذي ضحّى وثابر على بناء صرحه لعقود متتالية وليس في وعيه نية التخلي عن ذلك. بل لعلّ المسألة الشائكة أيضاً تتمثل في مصير العقول والكفاءات الهندسية في كوريا الشمالية وهل ستصبح أداة تجاذب بين فريقين متباينين في الدولة الكورية.
ثمة جملة من التساؤلات التقنية لم يأتِ على ذكرها البيان تتعلق بسبل التخلص من المواد الإشعاعية والمعدات التقنية وهل سيتمّ تدميرها والتخلص منها على أرضها أم في مكان آخر، كما شهدنا في حال الاتفاق النووي مع إيران.
أما مسألة الصواريخ الباليستية فليست أقلّ تعقيداً بل ربما ستكون عصية على التوصل لاتفاق، لا سيما أنها غير محصورة بقدرتها على حمل رؤوس حربية نووية، ومصيرها لا يلوح في الأفق القريب على الأقلّ.
أما في الساحة الأميركية، يُشار إلى تأييد نحو 70 من الأميركيين «الاتفاق المشترك.. على الرغم من الشكوك التاريخية بنوايا كوريا الشمالية» بيد أنّ الأمر داخل المؤسسة لرسمية في الكونغرس بمجلسية لا يبشر بالحسم في أيّ وقت قريب وفي الخلفية المعارضة الواسعة لاعضائه للاتفاق النووي مع أيران.
وزير الخارجية بومبيو بذل جهداً مدروساً لحشد تأييد أعضاء الكونغرس للاتفاق بتأكيده على تصريحات الرئيس ترامب بأنه «لا يوجد أمامنا تهديد نووي مصدره كوريا الشمالية بعد الآن». الكراهية الأميركية لكوريا الشمالية تضرب جذورها عميقة في وعي أقطاب الساسة الأميركيين، نظراً لتداخل مصالح القوى والشركات الكبرى المستفيدة من ديمومة الأزمات الدولية.
مناوئو الرئيس ترامب في الحزب الديمقراطي اتهموه بتقديم تنازلات أكبر وأبعد مما قدّمه سلفه الرئيس أوباما خلال الاتفاق النووي مع إيران، وحصد نتائج أدنى منه مما يضعهم في خانة «المؤيد» لشخصية محورية في إدارة ترامب كجون بولتون، ومن غير المستبعد أن تتضافر جهود الفريقين بدعم مساعي بولتون لعرقلة تنفيذ الاتفاق.
وما هو دور العوامل الخارجية الأخرى، الصين وروسيا، في ما يخصّ السلاح الكوري، على ضوء «الحرب التجارية ونظام العقوبات» الأميركية ضدّ كلا البلدين. باستطاعتنا القول إنّ هناك شبه إجماع أميركي على مركزية ومحورية دور البلدين، وإن تباينت في الدرجة، على مستقبل التواجد الاستراتيجي للولايات المتحدة في مياه بحر الصين الجنوبي، من ناحية، وفي الدول المحيطة بروسيا من ناحية أخرى.
على الجانب الآخر من الجدل السياسي الأميركي، يرجح بعض خبراء الاستراتيجية إنجاز بعض الخطوات لإحياء روح الإتفاق، لا سيما أنّ «الرئيس ترامب والزعيم كيم نذرا مستقبلهما لنجاح الاتفاق في مرحلة متقدّمة من المفاوضات وبصورة علنية بخلاف أسلافهما» في بلديهما، حسبما أوضح معهد راند. واستطرد المعهد أنّ مسار السعي للتخلص من الأسلحة النووية سيستغرق زمناً أطول مما كانت عليه «الظروف السياسية الدولية قبل عقد أو عقدين من الزمن».