الأدب الوجيز

لارا ملّاك

الحركة سنّة الحياة وجوهرها، فكلّ ما هو غير قابلٍ للتحرّك والتجدّد مآله الموت، وليس الموت جسدياً هنا، إنما هو معنويّ وثقافيّ واجتماعيّ. فإن كنّا لا نسير في النهر نفسه مرّتين كما يقول هرقليطس، في إشارةٍ منه إلى حركة الوقت المستمرّة والتغيير الذي يترتّب عليها، فإننا لا نستطيع تكرار الزمن الذي نعيشه، كما لا نستطيع العودة إلى الماضي.

إننا في تقدّمٍ مستمرّ نحو الأمام، والسمة الأولى لهذا التقدّم هما التغير والتغيير. وإن كنّا نتغيّر ونغيّر طبيعة حياتنا ومجتمعاتنا وأفكارنا، فلا بدّ هنا من تغيّر الأدب وتبدّل ملامحه وطبيعة لغته وتركيبه ودلالاته، لأنه التعبير عن الإنسان وعن الأمة. وخير دليلٍ على ذلك أدبنا العربي الذي عايش حضارتنا، فسما بسموّها في الماضي، وتقلّب لتقلّباتها ولحاجات شعبنا من المثقّفين ومن العامّة أيضاً. فالشعر لم يتحرّر من قيود الوزن الصارمة إلا في زمن الحرّيات الذي انبثق منذ عصر النهضة حتى تسارعت وتيرة التطوّر الاجتماعي وصولاً إلى عصرنا الحالي.

وسمعنا بعض النقّاد يرفضون هذا التطوّر ولا يعترفون به، متمسّكين بالرأي القائل «إن العَروض هو ميزان الشعر»، كما حدّده المفكّرون والنقّاد القدامى ومنهم تحديداً في هذا التعريف إخوان الصفاء، وعلى الرغم من ذلك لم يستطع أحدٌ الوقوف في وجهه أو الحؤول دونه. وبعضهم يرون هذا التحرّر تفلّتاً وعودةً إلى البدائية في قول الشعر وابتكاره، أي القول على السجية حين تصدر الموسيقى من الروح، لا من القاعدة المسبوكة وغير القابلة للتفاعل أو التغيّر لمجاراة العاطفة الكامنة، فتصير العاطفة الحرّة المحلّقة في نفسها أسيرة الزمن الماضي الذي اختاره العقل القديم.

ونقول هنا في هذا السياق، إن القول ببدائية قصيدة النثر من حيث الإيقاع، وإن عدّه أصحابه مسيئاً لهذا الشعر، لكنه ليس كذلك، فالعودة إلى السجية في موسيقى النصّ يعني العودة إلى الأصل. والأصل أن يكون النصّ وصاحبه منسجمين حتى التماهي والتناغم، فتكون بذلك الموسيقى الداخلية للنصّ وللمؤلف معاً، حيث يخرج الإيقاع بروحيته من النفس ليُحيي النصّ المنسجم صوتياً وتركيبياً ودلالياً، فينشأ التوازن على مستوى الجمل والتجانس على مستوى الأصوات والحروف.

أما أدب اليوم، فنراه يشبه المرحلة الحاضرة، وذلك لأننا نعيش زمننا، لا زمن سوانا. ومن المفاهيم الأساسية التي ترسيها المرحلة الراهنة، الأدب الوجيز الذي يندرج تحت لوائه كل من شعر الومضة والقصة القصيرة جداً.

وإذا انطلقنا من نوعَي هذا الأدب كي نفهم المبدأ الأساس الذي يقوم عليه، نلاحظ أن الومضة لغوياً هي اللمعة، ونفهم من اللمعة سمتين أساسيتين، هما السرعة أي الاقتضاب في المدة الزمنية التي يحتاجها التركيب اللغوي لتأدية معناه، والضوء، فكأن الومضة ضوءٌ يتوهج بشدةٍ وسرعة ويختفي بعدها تاركاً للناظر اندهاشه. والحديث هنا، عن نورٍ فكري لماعٍ حيث تخلق الصورة الشعرية في الذهن ضوءاً يمتد إلى الفكر الذي يحللها ويحاول إدراك تركيبها وماهيتها وصولاً إلى العاطفة التي تتقد وتنفعل أمام قصيدةٍ قد لا تتجاوز الأسطر القليلة أو الكلمات المعدودة. وبقدر ما يمتلك الشاعر الملكة اللغوية والثقافة والعاطفة المتقدة والبصيرة الحاذقة في نظرتها إلى التكوين وإلى النفس البشرية، ينجح في ابتكار قصائده الموجزة القادرة على اختراق مكنونات اللغة وإخراجها إلى العلن حتى تتضح للقارئ رؤى مغايرةٌ للمألوف السائد، وما الشعر إلا خروجٌ لغوي عن المألوف نحو الابتكار المجدي بهدف صقل الذوق وتعويد السجية على الإبداع والخلق وبالتالي النهضة بالعقول والمجتمعات.

وقد أشار الشيخ الرئيس ابن سينا في كتابه «الشفاء» إلى ضرورة الجِدّة في التركيب اللغوي في كتابة الشعر مستخدماً مصطلح «الحيلة التركيبية»، ولعلّ الدهشة في الأدب تنتج في جزءٍ منها عن هذه الحيلة التي يتمرس فيها الشاعر الشاعر، وفي هذا دليلٌ على أن الشعر لا يتفلت من الأصول ومن النظرة القديمة للشعر، إنما يطوّرها لتخدم زمنه. فابن سينا في قوله هذا لا يحصر الميزان النقدي للشعر بالتقيد بقواعد العروض، وهذا ينطبق على النقّاد القدامى أيضاً.

أما القصة القصيرة جدّاً، فيوحي اسمها بالتطوّر الذي عرفه شكل القصّ في الأدب العربي، ولعل ذلك يعود إلى متطلّبات العصر، فنحن في عصر السرعة وعصر الدفق المعلوماتي بفعل انتشار وسائل التكنولوجيا الحديثة والاتصالات. والقصة القصيرة جدّاً لا تخرج عن عناصر القصّ، لكنها توجز التعبير، وتركّز على موقفٍ كثيفٍ من حيث الدلالة السردية، ويتطلّب هذا الموقف بروز الشخصيات التي تتبدّى ملامحها بوضوحٍ على الرغم من قصر النصّ وذلك بفعل الرمزية والمعنى العميق لكل تفصيلٍ يخدم الفكرة، كما يكون لكلّ فعلٍ وردّ فعلٍ بين الشخصيات دلالته العمقية التي لا تحتاج التفصيل والتوسيع كما هي الحال في الروايات أو القصص.

إضافةً إلى ذلك، تأخذ الأحداث شكلها لإنتاج الحدث الفاعل المحقق للدلالة المرادة، وصولاً إلى التصريح بالمغزى أو الحكمة. ونخلص إلى القول إذاً إن هذا النوع من الأدب ليس دخيلاً على أدبنا، بل أتى من خلال التجربة الأدبية التراكمية التي مهّدت له.

إن الأدب الوجيز بنوعيه، أي شعر الومضة والقصة القصيرة جدّاً يعتمد الكثافة، وهذا ما قد يحمل النصّ إلى نوعٍ من الغموض. لذا تحتاج قراءة هذا الأدب تعمّقاً أكبر، أي أن يدخل القارئ من بنية النصّ الخارجية وصولاً إلى العمق لتفكيك الكلام وإدراك قدرته التعبيرية، لأن للمفردة طاقةً تعبيريةً تتخطّى المنطوق إلى اللامنطوق ضمن الكلام الأدبي الإبداعي القائم على التضمين. وهذا يعني أن هذا الأدب يحتاج إلى نخبةٍ من المثقّفين والقرّاء المطّلعين للإحاطة بأبعاده. وقد يحمل بعض النقّاد على هذا الأدب غموضه، نظراً إلى دور الأدب في تطوير المجتمعات، وتحفيز الناس كافةً على متابعة الإنتاج الأدبي بدلاً من التوجّه إلى خاصّة الناس فقط. غير أن واضعي هذا الأدب يكتبون بحسب طبيعتهم وينطلقون من ثقافاتهم ومن القناعة بضرورة ارتقاء الأدب لا تبسيطه حتى فقدان رونقه، فلا يستطيع الأدب الانزلاق إلى الأزمة التي يعاني منها مجتمعنا، فمخاطبة العقول لا تكون بتقبل انحطاطها إنما بتقديم أبعادٍ أرقى للكلمة بما في ذلك من انعكاسٍ لا بدّ أن يفعل فعله في مجتمعنا، وإن ببطء، ويحدث ذلك بشكلٍ تراكمي. ولعلّنا نرى نتيجة هذا التراكم في العصور اللاحقة، ويتطلّب ذلك أن يؤدّي كلّ قلمٍ مبدعٍ دوره ضمن نصّه وعلى الساحة الثقافية.

شاعرة لبنانيّة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى