الإمارة والجيش بين «المقاومة» و«المستقبل»
ناصر قنديل
نهاية أحداث شمال لبنان لحساب الجيش لم تعد موضع نقاش، ولو سلّمنا أنّ ما جرى في باب التبانة كان تسوية سياسية، أفضت إلى أسوأ الاحتمالات وهو فرار المسلحين المطلوبين ودخول الجيش وانتشاره، وهو أمر مشكوك فيه، لكن من باب الفرضيات لو صحّ ذلك فهو لم يتمّ إلا لأنّ الوجبة الأولى من المواجهة، على رغم عنصر المفاجأة الذي كان في صف مجموعات «النصرة» و«داعش» وفقاً لتنسيق دقيق وتوزيع للأدوار، قد أظهرت أنّ الجيش جاهز لأشرس المواجهات وأعنف المعارك، ويملك خطة جاهزة لامتصاص الصدمة الأولى والانتقال إلى الهجوم المعاكس، وهذا ما يجمع عليه كلّ المراقبين في وصف معارك الساعات الحاسمة، من الأسواق القديمة إلى المنية وبحنين وباب التبانة.
قال كلّ من تابع سير المعارك، إنّ الجيش كان ينفذ قراراً واضحاً بالحسم، وقاتل بلا هوادة واستخدم أنواعاً من السلاح وكميات من الذخائر وطرقاً في التقدم والانتشار، تؤكد أنه لم يضع في حسابه لحظة سوى الحسم العسكري، وليس وارداً عنده الرهان على اتصالات لوقف النار، وليس جاهزاً لتلقيها ولا للتجاوب معها، واضعاً قبالة عينيه ثابتة اسمها عدم تكرار تجربة عرسال المأسوية.
لو تمّ في النهاية شيء اسمه التسوية، فهي على طريقة قول الجيش، سندخل باب التبانة وسنرمي بمدفعية الدبابات كلّ شباك تخرج منه طلقة، وسنقتل كلّ من يتصدّى لتقدمنا، أن يتعهّد المسلحون بالفرار من أمامنا شأن لا يعنينا لأننا سنداهم ونبحث ونفتش ونلاحق، فانسحابهم وعدم وقوفهم في طريقنا يفيدهم ولا يفيدنا، يعنيهم ولا يعنينا، فهي تسوية بين الوسطاء والمسلحين، وليست تسوية بين الجيش وبينهم، هي الثمرة السياسية للحسم العسكري ولا تنتقص منه مقدار قيراط.
مع التسليم بهذه الحقيقة يصير ثابتاً بالمقارنة مع مشاهد جيوش كبرى في المنطقة، بحجمها وتمويلها وتسليحها كالجيش العراقي، تهاوت معاقلها أمام هجمات وخطط مشابهة بمئات المسلحين، وليسمح لنا المبالغون بالحديث عن عشرات الآلاف، الذين سقطت بين أيديهم الموصل وتكريت، يبدو الجيش اللبناني عكس صورة عرسال، جيشاً يملك العزيمة والقدرة والروح المعنوية والمعلومات الاستخبارية، على رغم تواضع ما يملك من السلاح ومن المواكبة السياسية، خصوصاً من القوى الفاعلة في منطقة العمليات.
لبنان المنقسم بين تيارين يبدو تيار المستقبل على رأس فريق والمقاومة عنواناً لفريق، في هذه المعركة كان تيار العبور إلى الدولة بقيادة الرئيس سعد الحريري يصدر كلاماً مؤيداً للجيش، وعينه على التسديد نحو تحميل المقاومة مسؤولية ضعف الدولة وظهور المسلحين، والتسبّب بما يُسمّيه انحياز جهاز أمني غير منصف، هو بنظرهم مخابرات الجيش، التي توقف على إعدادها وتحضيرها الاستخباري ومواكبتها للميدان نجاح العملية العسكرية.
لم يقدم تيار المستقبل سوى ما يُسمّى باللغة المحكية «النق» على الجيش وأدائه، والتشكيك بصوابية ما يفعل وهو يردّد لازمة… «لكن نحن مع الجيش»، وكان قادة المستقبل بمن فيهم وزراؤه قد تهيّأوا بكلام سابق للانقضاض على الجيش، الذي توقعوا له الفشل في المواجهة العسكرية الأولى، وبعضهم كان ينتظر الاستنجاد به كوسيط ليقول شامتاً: «ما قلنالكم… شفتو… خلي حزب الله يفيدكم»!
دأب تيار المستقبل على التحريض على علاقة المقاومة بالجيش، سواء باعتبار المقاومة مصدر الانتقاص من مهابة الجيش لامتلاكها سلاحاً موازياً لسلاحه، أو بتصوير الجيش يعيش عقدة نقص وهو يرى هذا السلاح فيفقد روحه المعنوية، أو بالاتهامات المتكرّرة لمخابرات الجيش بمحاباة المقاومة وصولاً إلى اتهامها بتلقي التعليمات من المقاومة، والمقصود حزب الله، وما يورده تيار المستقبل عن وصف ما يُسمّيه بالعلاقة غير الصحية بالتسبّب في كلّ الحال الشاذة التي يمثلها الإرهاب والتطرف، فيتحدث الوزير نهاد المشنوق عن شباب طرابلس الذين يستفزهم هذا السلوك فيحملون السلاح، ويراهم الوزير أشرف ريفي بعضاً من الشباب ذوي «الدم الحامي»، ويراهم النائب خالد الضاهر ردّ فعل على فعل سيؤدّي عدم التصحيح إلى فرط الجيش وشقه على أساس مذهبي.
على الضفة المقابلة كانت المقاومة مصدر ثقة الجيش بأنه إذا اضطر لسحب المزيد من وحداته العسكرية من جبهات البقاع، فهناك من يستطيع سدّ الفراغ والقيام بالمهمة وضمان عدم الوقوع في المحظور، وكانت مخابرات الجيش تتلقى التقارير والمعلومات والتفاصيل الاستخبارية من جهاز أمن المقاومة لتستكمل ما لديها من مخزون معلوماتي، ضروري واستثنائي للفوز في هذه المعركة، وكان الجيش الذي تشكلت من عقيدته القتالية بوجه «إسرائيل» صمامات أمان ثقته بعلاقته المصيرية مع المقاومة، ومصدراً لمعنوياته المرتفعة، يتقدم واثقاً من انتصاره، وهو يرى معه شريكاً صار مصدر رعب لـ«إسرائيل» وللإرهاب معاً، فيطمئنّ لمصادر قوته.
سقطت الإمارة وسقطت رهانات العابرين من وإلى، وبقيت الدولة بجيش قويّ ومقاومة مهابة الجانب.
حدث كلّ هذا، والرئيس الحريري يدرس ملفاته حول كيفية إنفاق هبة المليار دولار، والرئيس السابق ميشال سليمان يدقق مواصفات السلاح الاستراتيجي الذي يليق بمكرمة الثلاثة مليارات، والنائب وليد جنبلاط يقول: تأخرت أو تبخرت، الله أعلم!