«جمال عبد الناصر الحلم والحضور» جهد مميّز لهاني سليمان الحلبي
نبيل المقدّم
يقع كتاب الزميل هاني الحلبي «جمال عبد الناصر الحلم والحضور» في خانة الكتب القليلة التي تناولت تجربة جمال عبد الناصر بشكل تحليلي علمي معمّق. بعيداً عن الموجات العاطفية للجماهير التي أحاطت بجمال عبد الناصر وشكّلت أطراً تنظيمية ثقافية وطالبية ونقابية وسياسية في كلّ أنحاء العالم العربي تقريباً، وحاولت أن تكون جزءاً من ورشة التغيير التي أرادها جمال عبد الناصر أكبر من خطاب وموقف. هذه الأطر أرادها عبد الناصر أن تكون نواة مشروع سياسي واجتماعي واقتصادي وتربوي يتصدّى للتخلّف والجهل والفساد وتعمل على تشكيل مجتمع مقاوم لمخطّطات التدخّل الغربي والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
ولكن للأسف هذه التجربة لم تصمد، وتلاشت بعد وفاة جمال عبد الناصر. والسبب أنها بقيت أسيرة اللعبة السياسية التقليدية ولم تواكب جمال عبد الناصر في خطابه السياسي العصري مما حوّلها عبئاً عليه وعلى مشروعه النهضوي.
في كتاب «جمال عبد الناصر الحلم والحضور»، الصادر عن «دار أبعاد» للنشر لصاحبها سركيس أبو زيد، لم يترك هاني الحلبي فصلاً من فصول مسيرة عبد الناصر إلا وغاص فيه حتى الأعماق. وهو يقول في مقدّمة هذا الكتاب «والبحث في التجربة الناصرية… دقيق وهادف ومسؤول وشائك، رغم أنها كانت وستبقى موضوعاً لمئات الدراسات كتباً فكرية عامة أو أطاريح دكتوراة أو رسائل دبلوم متخصّصة».
القارئ لهذا الكتاب يستنتج بسرعة أنّ المؤلف يحاول من خلال مؤلفه هذا أن يقدّم لنا دراستين في كتاب واحد الأولى تتناول جمال عبد الناصر كقائد كانت له أيديولوجيته الخاصة والتي تدعو لقيام تنمية اقتصادية وسياسية بعيدة عن الارتهان للاستعمار ليس في مصر وحدها بل في دول العالم العربي كله وفي دول ما يُسمّى بالعالم الثالث أيضاً. ومن هنا كنا نرى تركيز جمال عبد الناصر على القطاع العام وكيفية إدارته باعتباره يشكّل دوراً هاماً في الاستقرار الاجتماعي للدولة. لذلك هو أوْلى قطاعَيْ التعليم والصحة أهمية قصوى، كما عمل على رفع مستوى التنمية في الريف المصري.
أما في موضوع الجيش فقد وعى عبد الناصر أهمية دوره في رسم معادلات الصراع في المنطقة، وخاصة لجهة الصراع العربي الإسرائيلي. لذلك هو حاول بناء جيش مصري ضخم وحديث تكبّدت فيه الخزينة المصرية نفقات هائلة. لم تكن نظرة جمال عبد الناصر الى الجيش باعتباره أداة للسيطرة على الحكم كما فعل ويفعل معظم قادة دول العالم العربي. بل إنّ عبد الناصر رأى في الجيش حقيقة من حقائق الحياة، لذلك هو حاول تحصينه بعقيدة سياسية وطنية بوصلتها الرئيسية العمل على تحرير فلسطين. وبالرغم من «نكسة» حزيران 1967 ظلّ جمال عبد الناصر مؤمناً بدور هذا الجيش وقدرته على تجاوز آثار الهزيمة، ولذلك هو رفض إبرام أيّ صلح مع «إسرائيل» أو تطبيع معها. باعتبار هذا الكيان يشكل نقيضاً تاماً لمصالح العالم العربي وحقائق الحياة فيه.
في موضوع العالم العربي كان جمال عبد الناصر مؤمناً بأنّ المصالح المشتركة والعدو المشترك يفرضان التنسيق والعمل بين الدول العربية كافة. من ضمن مضامين اقتصادية وسياسية وأمنية وإعلامية موحّدة، لكن في إطار الأعراف والقوانين لكل دولة.
لم يكن عبد الناصر مقتنعاً بقيام الوحدة بين مصر وسورية، وكان يعرف أنها وحدة غير واقعية، ولكنه استجاب لنداءات من ضباط سوريين ومصريين كان يرون في الوحدة تحصيناً للجبهة السورية ضدّ العدو الإسرائيلي. وسرعان ما تبيّن له أنّ نظرته كانت في مكانها. فهذه الوحدة بقيت شعارات مجردة، بالرغم من قيام دولة الوحدة بين مصر وسورية. ولم تتحوّل وحدة حقيقية لفقدانها الشروط الطبيعية للوحدة بين الأمم. والتي هي حقائق تقوم على التاريخ الواحد والجغرافيا الواحدة. لذلك لم تستمرّ الوحدة بين مصر وسورية وهي بقيت أقرب إلى التوكيل أو الوصاية من الإقليم المصري على الإقليم السوري إلى أن أعلن الانفصال بين «الإقليمين».
كان عبد الناصر أول من وعى بين قادة دول العالم العربي أهمية قيام نظام عالمي جديد تستنفر فيه طاقات الشعوب الفقيرة والمسحوقة لإنقاذ تاريخها وثرواتها ومصالحها من نهب وسيطرة الاستعمار. ومن هنا كان تأسيس منظمة دول عدم الانحياز والتي كان جمال عبد الناصر من أبرز العاملين على وضع أهدافها ومبادئها.
بعد أن تكلمنا عن جمال عبد الناصر انطلاقاً مما ورد في هذا الكتاب يبقى أن نشير ولو بإيجاز الى «الناصرية» باعتبارها نتاج فكر واضح وتجربة غنية لقائد طموح أدرك بعمق وجه الصراع ومضمونه في العالم العربي وظروف التحوّلات الإقليمية والدولية في العالم.
ولكن هل كان الناصريون على قدر آمال جمال عبد الناصر بهم؟ قد يحتدم السجال حول هذه النقطة وتتعدّد الآراء وقد يأتي من يقول إنّ الناصرية ليست حزباً بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. ربما يكون هذا الكلام صحيحاً، ولكن هذا لا يبرّر تشظّيها أحزاباً وتيارات ومنظمات بحيث خرجت عن المشروع الحقيقي لجمال عبد الناصر وتحوّلت أداة وموقفاً بيد بعض حكام الأنظمة العربية.
بعد هذا الاستعراض السريع والمكثف لكتاب «جمال عبد الناصر الحلم والحضور». يبقى أن نقول إنّ هاني الحلبي قدّم لنا كتاباً فريداً من نوعه. هو كتاب هادئ ورصين كشخصية مؤلفه بالضبط. كتاب نجح فيه بتوظيف المنهج التحليلي لشخصية جمال عبد الناصر وتجربته السياسية. مما مكّنه من إغناء مادته وإعادة تراث جمال عبد الناصر بشكل شبه كامل إلى الواجهة من جديد.