وعيُ حقوقنا وتضامنُنا حولها أساسيٌّ لتحقيقها بتكريم الشهداء وإنصاف الضحايا
هاني الحلبي
في الحلقة الثانية من ملف الثورة السورية الكبرى المنشورة الأسبوع الماضي، وردت ردود عدة عليها، من متابعين على صفحات مواقع التواصل، منها هذا الردّ الذي يستغرب “العودة إلى التاريخ”، وسائلاً ماذا أعطانا؟ بينما الشعوب تحارب لتصنع المستقبل، كما قال.
وتابع: “لكن أليس دستور لبنان مَن وضعه الفرنسيون وما زلنا نسير عليه حتى يومنا هذا؟… نحن ما زلنا محتلين من قبل الفرنسيين؟… ماذا أعطانا التاريخ؟… تكريم الشهداء واجب… إنما اذا عدنا لديغول فقال عنا إننا أمة لا تُقهر وهي التي كسرت فرنسا. وإن الشرف والشهامة والأخلاق الحميدة سلاحنا… ما أقوله علينا أن نحارب من أجل مستقبل زاهر ومجتمع يساوي بين أبناء الوطن الواحد… انظروا إلى اليابان وهل تألمت شعوبنا أكثر منهم ماذا لو بقوا مثلنا؟ انظروا إلى الصين… كلها لها تاريخ احتلال… لكن أين نحن وأين هم؟”.
وفي هذا الردّ نقاط عدة، لا تخلو من تناقض، وما يهمّ منها هو ما له علاقة بموضوعنا الأساس، العدوان الفرنسي وأضراره في منطقة راشيا واستهدافه الآمنين والأبرياء في أرواحهم وأرزاقهم وبيوتهم، ثم انتهاجه نهجاً خطيراً بعد انتهاء العمل العسكري في أواخر تشرين الثاني 1925، ببناء بيوت لبعض الراشاويين بينما ترك بيوت البعض الآخر ركاماً من الحجارة خلفتها مدافعه وطياراته.. بهدف إثارة فتنة طائفية لم يحُل دونها إلا الوعي الوطني لوحدة الحياة التاريخية في راشيا بين أبنائها.
ردّ.. لماذا التاريخ وليس المستقبل؟
النقطة الأهم دعوة صاحب الردّ للعزوف عن التاريخ، ولماذا التاريخ؟ بخاصة عند فهم التاريخ وكأنه فقط الماضي من الزمن!! وهذا فهم جزئي ومحدود وعقيم. فالتاريخ ليس هو ما مضى وليس ما هو راهن وليس ما هو مقبل. واعتبار كل هذه الفترات مستقلة عن غيرها. التاريخ هو هذه الصيرورة الزمنية المتصلة المتسقة التي لا تقبل الانفكاك إلى ماضٍ وحاضر ومقبل. هو سير الحياة في انطلاقها القومي بلا حدود لجماعة وبتفاعلها الحيوي المنتج العمراني في بيئتها القومية الطبيعية. وصورته الذهنية الفكرية هي التي تكرّسها كتب وموسوعات ومراكز أبحاث حصيفة قابلة للتعديل والفحص المستمر بآليات العقل العام للأمة.
..وردّ: لتكريم الشهداء
ردّ آخر يؤكد ضرورة تكريم الشهداء والاحتفاء بما قدموه من بطولات وإحياء ذكراهم السنوية كروزنانة شعبية تتصاعد فاعلياتها باستمرار. وهذا رد من مئات الردود التي تجيش في عقول وقلوب آلاف المواطنين المعنيين مباشرة بالاستحقاق الوطني، وبخاصة أننا مقبلون نحو 21 تموز المقبل، ذكرى إطلاق الثورة السورية الكبرى.
رأي قانوني أولي
اتجهت إلى سؤال صديق. وهو خبير قانوني. في سياق التوجه نحو محامين كبار ومختصين في العلاقات الدولية في حلقات مقبلة. وتم تحديد مواعيد لإجراء مقابلات معهم لإجلاء آليات التوجّه نحو الاعتذار والتعويضات الممكنة. وعد بمساهمة تفصيلية مدققة، لكنه أجاب “في ما يتعلق بالاعتذار، فهذه مسألة سياسية.
أما التعويض فهذا أمر قانوني، وقبل الحديث بشأنه، مفترَض إثبات وجود فعل الإبادة الجماعية.
من حيث المبدأ، النصوص القانونية الدولية لا تتحدّث عن جرائم بمفعول رجعي. الاستثناء الأممي الوحيد كان الهولوكوست لاعتبارات سياسية….
مجلس الأمن سلطة يمكنها إحالة أي جريمة الى المحكمة الجنائية الدولية في حال توفّر الشروط المنصوص عنها في نظام المحكمة.
المحكمة تتحقق من المعطيات المقدّمة، وتبني قرارها بالمتابعة أو عدمه وفقاً لقناعاتها القانونية.
أنصحك بالتواصل مع باحثين مختصين في تاريخ الثورة السورية الكبرى، وتكون لهم أيضاً أبحاث في الجانب القانوني للإبادة الأرمنية ويمكنهم بالتأكيد الإطلالة على هذين الجانبين وترابطهما”.
أما لناحية توفر القرائن على الإبادة الجماعية فالقرائن أكثر من أن تحصى، بعضها ما تمّ عرضه في الحلقتين السابقتين. البيوت المدمّرة، الأحياء المسوّاة بالأرض، بقايا الجثث والأشلاء للناس والمواشي. حرق بلدة العقبة كاملة، ومعظم راشيا الوادي وغيرهما.. وتصفية ميدانية أسر بكاملها..
وكل تمّ تنفيذه العام 1925، أي بعد 7 أعوام من مجازر الإبادة الأرمنية التي ارتكبتها القوات التركية العام 1915.
الإبادة الأرمنية نموذج صارخ
لإحياء الاستثناء من العقاب الدولي
والإبادة الأرمنية تسمّى كذلك باسم المحرقة الأرمنية والمذبحة الأرمنية أو الجريمة الكبرى، وهي فعل القتل المتعمّد والمنهجي الذي استهدف السكان الأرمن من قبل الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى وبعيدها.
وقد تمّ تنفيذها بالمجازر وعمليات الترحيل القسري بمسيرات في ظل ظروف قاسية مصممة لتؤدي إلى وفاة المبعَدين جوعى وعطشى.
ويقدّر الباحثون أعداد الضحايا الأرمن بين 1 مليون و 1.5 مليون شخص. خلال هذه الفترة هاجمت الدولة العثمانية وقتلت مجموعات عرقية مسيحية أخرى منها السريان والكلدان والآشوريين واليونانيين وغيرهم، ويرى العديد من الباحثين أن هذه الأحداث جزء من سياسة الإبادة نفسها التي انتهجتها الدولة العثمانية ضد الطوائف السورية المسيحية.
وأقيمت منشآت تذكارية تضمّ بعض رفات ضحايا المذابح، ويُعتبر يوم 24 نيسان من كل عام ذكرى مذابح الأرمن، وهو اليوم نفسه الذي يتمّ فيه تذكار المذابح الآشورية باعتقال أكثر من 250 من أعيان الأرمن في إسطنبول. وبعد ذلك، طرد الجيش العثماني الأرمن من ديارهم، وأجبرهم على المسير لمئات الأميال إلى الصحراء والحدود السياسية لسورية الحالية، وحرمانهم من الغذاء والماء. بحيث أدى هذا إلى انتشار جاليات الشتات الأرمني؛ وهو نتيجة الإبادة الجماعية.
ومن المعترف به على نطاق واسع أن مذابح الأرمن تعتبر من جرائم الإبادة الجماعية الأولى في التاريخ الحديث.
ويشير الباحثون إلى الطريقة المنهجية المنظمّة التي نفذت بها عمليات القتل وكان هدفها القضاء على الأرمن.
وتُعتبر مذبحة الأرمن ثاني أكبر قضية عن المذابح الجماعية بعد الهولوكست.
وصيغت كلمة الإبادة الجماعية لأجل وصف هذه الأحداث الدموية. كما وأطلقت الرابطة الدولية لعلماء الإبادة الجماعية على الحملة العثمانية التي قام بها الأتراك ضد الأقليات المسيحية في الدولة العثمانية بين عامي 1914 و1923 أنها إبادة جماعية.
وتَعتبر أغلبية المؤسسات الأكاديمية أن ما قامت به الدولة العثمانية بحق الأرمن يرتقي إلى الإبادة الجماعية، ومن بين هذه المؤسسات الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية، والتي أصدرت في 2007 ثلاثة اعترافات تشمل أيضاً المذابح بحق الآشوريين والمذابح بحق اليونانيين البنطيين والتي ارتكبتها بها الدولة العثمانية، على أنها إبادة جماعية.
من جهة أخرى، تنفي تركيا، الدولة التي خلفت الدولة العثمانية، وقوع المجازر التي تؤكدها الأمم المتحدة.
ووجهت دعوات متكرّرة لها للاعتراف بالأحداث بأنها إبادة جماعية. حتى الآن، فقد اعترفت أكثر من عشرين دولة رسمياً بمذابح الأرمن، بأنها إبادة جماعية، ويقبل معظم علماء الإبادة الجماعية والمؤرخين بهذا الرأي.
ولكن يؤثر في الاعتراف الدولي من عدمه، علاقة تلك الدول بتركيا، كدولة وسيطة كبيرة ومؤثرة في العالم، فأحياناً تعترف الدولة ثم تتراجع، حسب الظروف السياسية، وأحياناً أخرى تلوّح بالاعتراف ثم تقدم عليه وتصدقه او تضعه على الطاولة للابتزاز.
قانونية الإبادة الأرمنية
لكن بما أن الاعتراف الدولي يشكل مرحلة ضرورية في آلية تكريس حق الشهداء والضحايا، مقدّمة للمطالبة بالمسؤولية عنها والتعويض على المتضررين، حيث لا بد للمؤسسات القانونية الدولية من محاكم وغيرها، أن تعيد النظر بالاستثناء عندما يشكل هذا الاعتراف حجية واضحة تستوجب الاستنكار والإدانة.
..ومن فم فرنسا إدانة تركيا:
اعتراف بالمسؤولية عن الإبادة
وفي يوم الاثنين 13 كانون الثاني من عام 2012 اجتمع مجلس الشيوخ الفرنسي وأقرّ قانوناً يجرّم إنكار إبادة الأرمن وهذا أدى إلى تفاقم الأزمة مع الدولة التركية.
وتبنّى البرلمان الفرنسي مشروع القانون الذي ينصّ على معاقبة إنكار “الإبادة” الأرمنية في العام 1915، بعد تصويت أخير في مجلس الشيوخ، ما يهدّد بتفاقم الأزمة بين باريس وتركيا.
وعلى الرغم من أن قسماً من الغالبية اليمينية ومجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه اليسار تحفّظ على النص الذي يدعمه الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، إلا أنّه تمّ تبنّيه.
وكان تصديق مجلس الشيوخ بغالبية 127 صوتاً مقابل 86 على مشروع القانون الذي كانت تبنّته الجمعية الوطنية في 22 كانون الأول/ديسمبر 2011. ومع اعتبار مجلس الشيوخ أن النص مناسب (من دون تعديل). يكون البرلمان قد تبنّى القانون نهائياً.
وذكرت وسائل الاعلام التركية ان رئيس الوزراء التركي حينذاك رجب طيب اردوغان تابع عن كثب مع معاونيه المناقشات في مجلس الشيوخ الفرنسي واضعاً اللمسات الأخيرة على الإجراءات الانتقامية المقرّرة من قبل حكومته في حال تبني اقتراح القانون.
ودانت وزارة الخارجية التركية “بشدّة” تصويت مجلس الشيوخ الفرنسي على اقتراح قانون معاقبة إنكار الإبادة الأرمنية واعتبرته “عملاً غير مسؤول” من قبل فرنسا. وقالت الوزارة في بيان إن “تركيا لن تتردّد في ان تطبّق سريعاً ما تراه صائباً من الإجراءات المتوقعة” ضد فرنسا، وذلك في اشارة الى عقوبات جديدة ضد باريس. واتهم البيان ايضاً فرنسا بتحويل العلاقات التركية الفرنسية الى “ضحية” لأهداف انتخابية.
وفور صدور نتائج التصويت، واعتبر وزير الخارجية الأرمني حينذاك ادوارد نالبانديان أن تصويت مجلس الشيوخ هو “مبادرة تاريخية ستساهم في الحؤول دون ارتكاب جرائم أخرى ضد الانسانية”. وقال في بيان “هذا اليوم سيكتب بحروف من ذهب ليس فقط في تاريخ الصداقة بين الشعبين الأرمني والفرنسي، وانما ايضاً في سجلات حماية حقوق الانسان في العالم”. واضاف ان هذا التصويت “سيعزز الآليات القائمة لناحية الوقاية من الجرائم ضد الانسانية”.
ونصّ مشروع القانون على فرض عقوبة بالسجن سنة ودفع غرامة بقيمة 45 الف يورو على كل مَن ينكر الإبادات المعترف بها امام القانون الفرنسي وبينها “الإبادة” الأرمنية. وكانت باريس اعترفت في 2001 بـ”ابادة” الأرمن في الاناضول بين 1915 و1917 (مليون ونصف المليون قتيل بحسب الأرمن). وأصبحت بالتالي تعترف بـ”إبادتين”. وحاولت تركيا حتى اللحظة الاخيرة الضغط على البرلمان الفرنسي للتراجع عن ذلك. وترفض تركيا تعبير “إبادة” ولا تعترف سوى بمجازر أدت الى مقتل حوالى نصف مليون أرمني.
الوعي والقوة هما القول الفصل
وعي الحقيقة، حقيقة الوقائع وقوة المعرفة التي تحدّد اتجاه الأحداث ومسارها، يشكلان القوة الحقيقة للحق. لكن الحق أيضاً يلزمه قوة نفسية واجتماعية وقانونية ليفعل وينتج.
ومنذ سنوات كانت معظم دول العالم تطالب بإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد وتتوهم ان سورية ساحة استباحة.. لكن على وقع الانتصارات التاريخية بدأ العالم يخطب ودّ الدولة السورية ويتهافت للتنسيق معها بهدف كعكة المنافع المتوقعة. لأنها قوية وأثبتت وجودها وحضورها فعلياً بما أدهش العالم.
مثال فرنسا نفسها. حيث صباح الأربعاء الماضي 27 حزيران الحالي كتب روبرت فيسك في جريدة “الإندبندنت” البريطانية مقالاً ورد فيه أنها “لحظة تاريخية تتخلى فيها (فرنسا) عن إسقاط الأسد”. ومعظم المعطيات تؤكد هذا الاتجاه، وأبرز تطوّراتها كان فرنسياً، حيث قرّر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بدء التطبيع بأشكاله الاولى مع الدولة السورية برئاسة الرئيس السوري الدكتور بشار الاسد رسمياً بإعلان قصر الأليزيه أنه سمّى سفير فرنسا في طهران مبعوثاً خاصاً وشخصياً إلى سورية.
(يتبع الأسبوع المقبل)