الكاتبة الفلسطينية بشرى أبو شرار: رواياتي تكتب نفسها… وأنا أطاوع قلمي وثورتي

حاورها: أشرف قاسم

تتباين أشكال السرد الروائي وتختلف مستوياته من كاتب لآخر فلكل طريقته في إدارة خياله واستكناه الواقع المحبط الذي يحاصرنا مما يُثري في نفس الكاتب الرغبة في التعبير، في محاولات لخلق واقع مغاير لهذا الواقع كنوع من التمرّد والرفض لهذا التشوّه المجتمعي الذي أمسى سائداً.

في ظلّ هذا التخبّط والارتباك يكون لزاماً على المبدع أن يبحث عن معنى جديد لوجوده، معنى ليس بعيداً عن الواقع قدر قربه من الإنسان، للتعبير عن همومه ورؤاه ومشاركته حالات التشظي التي يعاني منها في ظلّ مناخ غير صحي لمجتمع أبرز عيوبه التشظي!

ثمة تساؤلات كثيرة لدى هذا الإنسان تحتاج إلى إجابات وثمة هواجس تتقاذفه بين شقى الرحى تحتاج إلى تحليل، وثمة حالة من فقدان التوازن تحتاج إلى وعي جديد للخروج من أسر الهذيان، وهنا يأتي دور الأدب للإجابة على تساؤلات الإنسان الحائر وتحليل هواجسه والتعامل معه بوعي جديد يخرجه من أسر هذيانه ويحرّره من قيود ظنونه وشكوكه في محاولة للبحث عن يقين، هكذا نستطيع أن نقرأ تجربة الكاتبة الفلسطينية بشرى أبو شرار في الحوار التالي:

بشرى أبو شرار حكاية الغربة والاغتراب من فلسطين إلى الأسكندرية وما بينهما، حكايا الحب والحرب، كيف بدأت الرحلة وما أهم ملامحها؟

ـ ما بين حكايات الحب والحرب، غربة واغتراب، من فلسطين حملت براعم الحب وعلى ترابها عشت مواقيت الحرب، حين أشاهد يوميّات المعارك التي تحيط بمنطقتنا تتداعى ذكريات الحرب. صيف 67 ومسميات لا تسقطها الذاكرة حرب الأيام الستة وأنا من طفولتي أكاد أراها عمراً بأكمله لأن دقائق الحرب كانت في عمر سنوات طويلة. من ينسى حكايا الحرب وتداعياتها، منع تجوال، مداهمات وخوف يحاصرنا، في فلسطين التحصيل العلمي كان هاجس كل بيت، الجميع ينتظر الالتحاق بالجامعات وأنا بدأ مشواري والغربة والرحيل عن أرض الوطن في أولى خطواتي للالتحاق بالجامعة، من فلسطين إلى الإسكندرية وما بينهما مشوار طويل، فقدان وحبّ وألم. من ملامح غربتي واغترابي وجدت عالماً موازياً التصقت به وكانت له بداياته في وطني منذ الطفولة وريعان الصبا. من القراءة كنت أجد ألف ألف حياة قد أستعيد منها بعضاً مني، وأرمم ما تهاوى وألملم ما تبعثر، صار عالمي عالم كتب وقراءة وكتابة، وأبرز الأعمال التي جسّدت هذه المعاناة روايتي «قمر في الظهيرة».

ست مجموعات قصصية، وأكثر من عشر روايات، هذا حصاد الرحلة الممتدة حتى الآن، القضية الفلسطينية هي كلمة السر في كل حرف تخطينه، كيف استطعتِ مزج طينة الوطن بطينة الإبداع؟

ـ هذا المزج لم يكن اختيارياً بل كان حتمياً، لم تكن لي إرادة فيه لأن ما قدّمته هو من طبيعة تكويني وطقوسي في كل مواقيتي التي أعيشها، الوطن والإبداع صنوان، لا أستطيع أن أفصل ما بينهما، الوطن حالة عشق وجمال وتماهٍ وتوحد في داخلي، غربتي وبعدي عن وطني كثف وأضاف لهذا العشق، وأخذني إلى قناعة لا تغادرني في حتمية تشكيل هذا الوطن الغائب الحاضر.

أين تجد الكاتبة نفسها في الرواية أم القصة القصيرة؟

ـ أجدني في القصة القصيرة، لحظة الدهشة التي أسكنها سطور أوراقي، القصة القصيرة هي لحظتي الهاربة مني أقبض عليها من مواقيت دهشتي، أما الرواية فهي حياة، تصاحبني مواقيتي، قد ترافقني أعواماً، أصير أنا من شخوصها وأتماهى وحالات أكتبها، وحين ترحل شمسها إلى أفول يسكنني الحزن لأني مفارقة لشخوص وحالة كانت تسكن شرايني، حين تبحث عني تجدني على صفحات كتبتها من دمي وروحي ووجداني…

من أين تستوحين أفكار رواياتك وقصصك؟

ـ الروايات تأتيني من بريق لحظة، تحوطني بنورها، تأخذني بعيداً وأنا أمضي إليها، حين قرأت الأخت كاري وجدتني فيها فكتبتني «قمر في الظهيرة». وحين قرأت الكاتب الصهيوني «إسحق سنجر» «شوشا» حرضني لأكتب روايتي «حنين» كي أدحض كل أكاذيبه، هو رأى فلسطين أرض بلل وطين، وحنين هي أنا، ترى فلسطين جنتها الأبدية، كتب عن فلسطين آخر صفحات من روايته «شوشا» ماتت في طريق ذهابها لسلب وطني، هو القادم من بروكسل وأنا القادمة من تراب الأرض.

«شهب من وادي رام» تداخل الأزمنة، مملكة الأنباط، كنعان، شآم شآم، ودحض كل زيف وتعرية مفاهيمهم المغلوطة…

«دورا» ملحمة كل من ضحى لأجل وطننا الغالي.

لكل رواية من رواياتي موطن وجع، أنطلق منه ولا أعود إلا منهكة، أسلم نفسي لمحطة مغادرة ألتقط فيها الأنفاس.

«مقاربات نقدية في روايات بشرى أبو شرار» عنوان الكتاب النقدي الذي صدر مؤخراً حاملا العديد من الدراسات والقراءات النقدية التي تناولت تجربتك الروائية، فكيف تنظرين إلى مواكبة النقد لتجربتك؟ وكيف رآها النقاد؟

ـ كتاب «مقاربات نقدية» هو حصيلة سنوات طويلة في ربوع الإبداع وفي مساحات نور من رؤى حركة نقدية كانت في أوجها في المشهد الأدبي، حيث أضافوا إلى رصيدي الإبداعي رصيداً موازياً من عالم النقد، كتاب لم يبخلوا لأن يضيفوا لإبداعي إبداعاً نقدياً أجمل وأجمل، الدراسات والقراءات وفكرة جمعها كانت صائبة لأنها توثق مرحلة في حياة ثقافية كانت ثرية بالكاتب والناقد والقارئ، كما أنها أفادت الباحثين والدارسين والمهتمين. كتاب هو رصيد من أقلام محبة، منتمية للأدب والإبداع، حركة نقدية واكبت أعمالي، هي حروف ماسية، لن يخبو بريقها، وأوسمة تسكن روحي ووجداني، وهي حياة لكلّ من مر بها، وشاهد على أعمال مرت ولكنها باقية من خلال المهتمين والمنتمين للحياة الثقافية.

ما سرّ حضور اسم شمس في العديد من أعمالك؟

ـ الشمس تسكن قلبي، بؤبؤ عيني، تتماهى وروحي لأنها دوماً تشرق في قلبي من روح الوطن، سر شمس أنها شمسنا الأبدية الحاضرة فينا، جميعنا تسكننا هذه الشمس، لكل منا شمسه، وأنا وشمس الطفلة كتبتها في ربوع بلادي، شمس المرأة «أنشودة شمس» حين نثرت أناشيدها ترنيمة شجن في فضاء الوطن «دورا» كانت شمسها على جدارية الوقت لا تغيب، شمسها من ملحمة البطولة في عشق وطننا.

غزارة الإنتاج عندك في القصة والرواية ما مردها؟

ـ أنا اكتب والكتابة حياة، تحرضني مستجدات الواقع من حولي على الكتابة، لا أركن للهدوء، الفكرة تحرضني، تسكنني حالات أرصدها، أجدني والرواية وقد كتبت نفسها، يصيبني تعب، أركن لمحطة التقاط الأنفاس، سكون وسلام وأعود من جديد ألملم ما تبعثر مني على أوراق رواية لا تكف تكتب نفسها، القصة القصيرة تأخذ مني دقائق حين أكتبها لأنها تعتمد على اللحظة والدهشة، أما الرواية أحسب عمري من زمانها ومن وقت وقفت على عتباتها.

كيف تستطيعين أن تخرجي من جعبتك في كل مرة الجديد لتفاجئي به القارئ؟

ـ حين أعود إلى ما كتبت من روايات أتعب كثيراً لأني أعود لحالات تعبت منها وتعبت مني، وأسأل عن دهشتي «هل أنا من كتبت كل هذا»؟ كيف أتت إليّ تلك القدرة؟! هو مشواري مع الحياة من روايات كتبتها هي مني وأنا منها، كتبت نفسي ولا أحد سواي، رواياتي تكتب نفسها وأنا أطاوع قلمي وثورتي، بروح منهكة أقاوم وأحث الخطى أكتب وأكتب، قد أقدم ما يستحق لأجيال مقبلة تقرأ عن زمن عشته ورصدته بقلبي وروحي ودمي.

«مرمرة أوصيك بالأرض لك ولأخواتك من بعدي، لا تفرطي في ذرة من ترابها، الأرض. الأرض. لن يرتاح جسدي في ثراه إلا حين يعبرن النهر إلى بلادهن في كنعان» وصية «سهيل» لـ«مرمرة» في ختام روايتك «شهب من وادي رام»، وصية ذات دلالة، في ظل هذه الوصية كيف تقرئين مستقبل القضية الفلسطينية؟

ـ في ظلّ هذه الوصية ويقين يسكنني ولم ولن يغادر أنني أحيا بها وفي أتونها، محارتها تهمس في أذني وأسمع صوت «سهيل» الأب، هاجسي في عقود حياة عشتها لأن لا أفرط في ذرة من ترابها من النهر إلى البحر، فلسطين وقضيتها كلها تختزل في وصية «سهيل» من جيل إلى جيل، ومن قبل ألف ألف عام، من زمن كنعان وآرام .

المكان عتبة مهمة في نتاج بشرى أبو شرار، الارتباط بالمكان والأرض وملاعب الصبا وأطلال الذكريات، تلح بشرى على استعادة كل هذا في كتاباتها، فهل هذا نوع من التوثيق للذاكرة والهوية الفلسطينة خوفاً عليها من الاندثار؟

ـ الأمكنة حياة، أتماهى والأمكنة والأرض، ذكريات أجدلها من براعم لا زالت على زهوها في وجداني وقلبي، ما أكتبه هو أنا المعجونة بتراب الأرض والأمكنة وملامح وجوه لأهل وأحبة حتى وإن رحلوا وطواهم الغياب. كل كاتب من بلادي كتب زمانه ووثق شخوصه من عالم هو شاهد عليه، وأنا أكتب أزمنة هي لي، ألونها بروح الأبيض وعبق وطن ومن خيوط شمس لن تغيب عن وطني وذاكرتي وهويتي، الأمكنة تكتبني، لأني منها وهي مني، وملامحي هي من ملامح وطني الذي لن يسقط من ذاكرتنا ولن تندثر معالمة لأنه فينا ومنا ونحن منه.

تعملين الآن على رباعية روائية متصلة منفصلة، أوشكت على الانتهاء منها، حدثينا عن هذه التجربة؟

ـ نعم، هي رباعية متصلة منفصلة، تعبت منها وتعبت مني ولكنها أنا، هي كينونتي من نزيف روحي ودمي ودمعات الغريبة، هي مواقيت بهجة وفقد وفرح، مواقيت عشق لوطن لن تغيب شمسه، مواقيت من روح مرايا نسجل فيها أحداثاً تحيط بنا تهدد وجودنا، نكتب عن أسماء، عن مدن، عن عشق وطن تراب تراب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى