د. يوسف حنّا… صوت جميل في دوحة الشعر
شاكر فريد حسن
في دوحة الشعر الفلسطيني في هذه البلاد ثمة أصوات جميلة تجيد التغريد لكنها لا تعرف التسويق الإعلامي، ولذلك بقيت في دائرة الظلّ ولم تنتشر كما يجب.
من هذه الأصوات صوت شعري وارف قادم من أعالي الجليل، من الرامة الشامخة المتربعة على صدر جبل حيدر، ويعيش في مدينة الناصرة، هو الدكتور يوسف حنّا، الذي عرفته من خلال صديقة عزيزة، حيث أطلعتني على قصائده التي ينشرها على صفحته «الفايسبوكية»، فشدّتني وجذبتني أشعاره لما تطرحه من قضايا انسانية ووطنية، ولأسلوبه البديع الراقي، وغنى مفرداته، وثراء قاموسه، ولغته الشفافة الحية المنمقة. ومن يقرأها يحس وكأنه يقرأ لروّاد القصيدة الحديثة من شعراء لبنان وفلسطين والعراق.
وأعترف أنني ذهلت من مستواها الفنّي والجمالي الرفيع، فهي شديدة الاختزال، وتعبق بالوجدان الفلسطيني، وتتدفّق من بين كلماته أحلاماً إنسانية، تنبض بالروح، بحيث يشدّنا إلى إعادة قراءة قصيدته لأكثر من مرة لنكتشف كل مرة إحساساً جديداً يقوي اليقين بالإنسان لا يمكن أن يتخلّى عن إنسانيته، وعن كونه كائناً اجتماعياً قبل كل شيء.
د. يوسف حنّا شاعر قضية حالم، يحمل هموم شعبه ووطنه والإنسانية جمعاء، وبالأخصّ قضية الحرية في كلّ مكان، وقصائده ملأى بالإحساس السياسي الفلسطيني، ولا يصل إلى القارئ من دون الإحساس الغنيّ بالثورة.
وما يميّزه، ثقافته الواسعة العميقة الشمولية، وانغراسه بالجذور الكنعانية، ويبرز بوضوح إلمامه بلغة الضاد وقدرته على اصطياد الكلمات والإبحار في مياهها العذبة، فلا تجذبه الكلمات الجوفاء من المعاني، ولا التعابير السفسطية المتفذلكة، فهو يكتب ويصوغ عباراته من دون تصنّع ولا تكلّف، وبلا نحت يتعب ويرهق الذهن، بعيداً عن السطحيّة والمباشرة والغموض والرمزيّة.
إنه شاعر مسكون بالحلم والشمس، قصائده متنوعة الأغراض، تفيض إحساساً صادقاً وألفاظاً جزلة سهلة، وصور شعريّة محفوفة بخيال مجنّح واسع استمده من مشاهداته وقراءاته وتجاربه في الحياة.
إنه يحاكي الواقع ويحكي قصة أرض وإنسان، بل وشعب، كلماته آتية من عبق التاريخ ومتجذّرة في واقع الحاضر، منبثقة من أشعة الشمس كخيوط متناسقة لتحيك أثواب مجد وكرامة الأمة، وتلهمنا نشوة الأمل والانتصار.
وهو يكثر من استخدام الصور والأخيلة والاستعارات، التي تطغى على نصوصه مما يضفي جمالية عليها، ويضيف إلى رصيده الفنّي، لا سيما أن الاستعارة هي بنية مجازية أساساً، والمجاز يشكّل ركناً أساسياً في القصيدة الحديثة.
وجمالية اللغة هي مرتكز شعري يقوم الشاعر به في إعطاء نصّه بعداً حيوياً، وتخليصه من جمود الشعر، وهنا يكمن الاختزال والتكثيف، والانفتاح الثقافي في اللغة الشعرية هو العالم المسيطر على بنية قصيدته، ودليلاً على أقوالي اخترت هذا النصّ الجمالي بعنوان «أسوار الذاكرة» كنموذج من نصوصه، حيث يقول:
«في غَبش الفجرِ…
تتكاسلُ أَسرابُ الشِّعر…
تدُقّ أَبواب السماءِ
وتأتي كالمطر المُتَأَخِر
أَذكر نشيد السيّاب للقطَرات
الحبلى بأَجِنّة الزَّهر
ومطر «درويش» الناعمِ
في خريفٍ بَعيد
وزُرقِ العَصافير
والأَرضُ عيد
أَذكرُ وهل لي ألّا أَذكُر
زَفَراتِ قيثاره الزَّاهد
في مَعابد بلادِهِ التي
سَقَطَت مِن زُجاج القطار،
غَير منديل أُمّي/ وأسباب موتٍ جديد .
مشاهدٌ… ما زالت شاخصةً
تنمو في تضاريسِِ الذّاكِرَة
وأخيِلة الطفولَة الساحِرَة…
أَيامٌ تسحرُني…
بنبيذِ أَفكارِها العذريّة
تعيد عافِيَة زمنٍ إنقَضى
في نَشوةِ الحُبِّ النَّدِي
وتأَمُّل الحقائقِ الأَزَليَّة
مشاهدٌ أُخرى… بائسةٌ… رمادِيَّةٌ
سُرعانَ ما تمرّ كالسُحب
وتنسى خلف الأفق…
تكدّست في عُزلتِها موحِشةً
تنتظر إقتحام طفلٍ نزِق…
يمتَطي الريح لتُحَلِّقَ روحه
فَوقََ الأَماكِنِ التي عَشِق…
يرثي طقوسَ الأُرجوانِ
تكسَّرت على نصال القَهرِ
وباتت رُكاماً يَشي بالوجع
لا تُستعاد مِن رمادٍ إِحترق!
سفرٌ للماضي الأَليمِ
ألمحمّل بمشاعر الغُربَة…
يَحكي دُموع العابرينَ
بِصَمتِ الخاشِع وهمس العاشِق…
رَغبَةٌ جارِفَةٌ تَشُدُني إليه،
كلهفةٍ على قارعةِ الزَّهرِ
المُتراكمِ على ضِفافِ الأَرَق…
ذاكرةٌ صَلَبناها على جُدران الأَمسِ
تولِّد الحزن والألمَ والتَّفَكُّر…
جادك الغَيثُ إذا الغيثُ هَما
يا زَمانَ الوصل في الأَندَلُس
حَمراء غِرناطة رصَّعت بياقوتِها
تاجاً يَعلو هامة الفِردَوسِ
خَبَت أَعراس مُدُنٍ،
كانت تمتهنُ صِناعَةَ الفَرَح…
فيها أَقاصيص الطفولة
والذكرَيات البيض والأَسرار…
باتت تلوِّح للسَّماء بدمعِها
فقست عليها كـلُّ الجهات
وضاقت بنا من هولها الدّار
الأُرجوان نسبة للكنعانيين، حيث اشتهروا بصناعة الأصباغ الحمراء الأُرجوانية، ويرى بعض المُؤرخين أن الفينيقيين هو الإسم الذي أطلقه الإغريق على الكنعانيين حيث تعني كلمة phoinikie عند الإغريق: ذو اللون الأَحمر الأُرجواني.
الفردوس المفقود: تسمية لبلاد الأندلس، بعد إنكسار وخروج العرب منها.
هنيئاً لك أيها الشاعر الملهم المجيد الرائع د. يوسف حنا، الذي لا يعرف التزاحم على الميكروفونات، ولا يجيد فن التسويق والتلميع، لكنه سيجد له مكانة في المشهد الشعري وسيحفر اسمه على صخرة الإبداع.
ولا أبالغ اذا قلت الرائع، فنصوصه ولغته هي نبض لحياة في الكلمات، وهي أن اللغة تحمل مدلولات أبعد من معانيها المألوفة.
فتحياتي للدكتور يوسف حنا، مع أطيب الأماني، ومزيداً من العطاء والتألّق أيها الشاعر الموهوب المتميّز.