محمّد باقر جابر المجبول أصالةً… المسكون حداثةً!
جهاد عدنان الزغير
لم يعد النقد الأدبيّ وصفاً للمادّة موضوع النقد، ولا هو تسليط الضوء عليها بغية الكشف عن حسناتها وسيّئاتها، وإظهار نقاط القوّة والضعف فيها فالنقد، اليوم، رؤيةٌ منهجيّةٌ، وحركةٌ تأويليّةٌ تحليليّةٌ، يهدف الناقد بها إلى إعادة إنتاج النصّ من جديد، ليتحوّل الناقد من جلّادٍ فوضويٍّ لا يجيد التعامل مع وعي المنشئ، ورؤاه الكيانيّة الحاضرة في نتاجه، أو الغائبة عنه، إلى قارئٍ مستجيبٍ، فكاتبٍ رديف حيث يعمل أدواته في الخطاب الأدبيّ لكونه مادّةً حيّةً تحتاج إلى رعايةٍ لتنمو، وتتكاثر، وتنتظم في شكلها الدائريّ الأمثل، تلك الدائرة الّتي لا تحتاج، بعد اكتمالها إلى من يعيد تشكيلها، حيث تكتسب إمكانية تطوير نفسها بنفسها، من طريق عدّ كلّ نقطةٍ فيها كائنًا حيًّا تربطه علاقةٌ وثيقةٌ بكائناتٍ أخرى سبقته، وكائناتٍ جاءت بعده، فلا يمكن بعد ذلك الاستغناء عن أيّ نقاط تلك الدائرة، أو تقديمها، أو تأخيرها، لأنّ ذلك من شأنه أن يورث الخلل في العمارة النصّيّة على المستويات كافّة، وهذا ما نسمّيه الوحدة العضويّة، والتماسك البنيويّ والرؤيويّ.
من الرائع أن نحسب الشعر ملاذنا الأوّل والأخير لنتفلّت من ذواتنا المتعبة، ومن المخيّب أن نظنّه أسهل الكلام، فلا يوجد مجتمعٌ تجرّأ عليّه المتطفّلون كمجتمع الشعر، حيث صار كلّ من ملك دواةً وورقةً شاعراً إلّا الشعراء، وهنا يأتي دور النقد، لا ليصنّف ما لا حاجة له إلى تصنيف، بل ليعوّم الحقيقيّ، ويغرق الزائف ولهذا، تجدنا نعيد قراءة قصيدة «سهى» للشاعر محمّد باقر جابر.
يقول كريفل إنّ «العنوان بمثابة السؤال الإشكاليّ، والنصّ إجابةً على هذا السؤال»، وأكثر وظائف العنوان أهميّةً الوظيفة الإحاليّة، حيث يحال العنوان إلى النصّ من طريق استقراء وحداته التكوينيّة. وقد أراد جابر عنواناً صادماً لنصّه، فجاء كلمةً واحدةً «سهى»، وإذا سلّمنا جدلاً بأنّ العنوان عتبةٌ من عتبات النصّ الّتي تفضي إليه، صار لزاماً علينا تتبّعه فيه، وقد عثرنا على اسم «سهى» في هذا النصّ الشعريّ معرّفًا بـ«ال»، ما فتح باب التأويل على مصراعيه، فهل المقصود بالعنوان حبيبته، فكانت «سهى» منادًى لفعل النداء المحذوف؟ أم أنّ الشاعر أراد ذلك الكويكب الصغير الخفيّ الضّوء؟
يأتي محمّد باقر جابر بقصيدته «سهى» من مقلع الأصالة، حيث نظمها على واحدٍ من بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو بحر الخفيف، وقد اتّكأ الشاعر في أضرب قصيدته على القافية من المتواتر، الّتي تعكس، بوقوع متحرّكٍ بين ساكنين، حالته النفسية لكنّه، على الرغم ممّا تقدّم، فقد اختار الشاعر لنصّه نسقاً طباعياً يخالف النسق المألوف للقصيدة العاموديّة، ما يوحي بانتمائه إلى عالم قصيدة التفعيلة الحديثة وكلمة السرّ الّتي استخدمها في بنائه الموسيقيّ وصله الشطر الأوّل بالثاني غير مرّة، ومن الشواهد على ذلك قوله:
«أن يؤمّ الحروف دون مزامير
تناجي السنا، ليمسح حزنا»
وكذلك قوله:
«حين زرت السماء
خاطبني الوحي الموشّى:
فتى الجمال، تأنّ»
بنى جابر قصيدته لبنةً لبنةً، ليدخل معها وبها عالم الحداثة من بابه الواسع، حيث ربط الصوتيّ بالدلاليّ ربطاً غير مألوف، وذلك من طريق تركه الأخير يتحرّك بحرّيّة خارج دائرة التلفظ، ليعود إليها أرحب بعداً، فيفتح النصّ بعدها، مع كلّ قارئٍ جديدٍ، على جديدٍ لم يقله الشاعر فالألفاظ معه لم تعد مجرّد دوالّ تفضي إلى مدلولاتٍ مقيّدةٍ، بل صارت مرايا عاكسةً ما يقع عليها، منتجةً ما يخالف الأصل، ويتجاوز جوهره، وهذا ما قال به رومان جاكبسون Roman Jakobson حين أكّد «وجود علاماتٍ شعريّةٍ عديدةٍ لا تنتسب فقط إلى عالم اللغة»، الأمر الّذي يظهر، بشكلٍ ملحوظٍ، التشكل الجماليّ والبنائيّ الّذي يميّز نصّ جابر الشعريّ من غيره من النصوص. فحين سئل عن مناه، كان من المتوقّّع أن يجيب، لكنّ الشاعر خالف المتوقّّع ليعزّز بنية الحنين على حساب بنية الجواب، ولينقل الحوار من الخارج إلى الداخل، الأمر الّذي يوحي بأنّ ما جاء بعد الفعل الماضي «سألوا» كان كلاماً لم يبح به الشاعر إلّا لذاته، ما يرجّح فرضيّة أنّ السؤال لم يسأل، بل كان من نسج خيال الشاعر، وقد ابتدعه ليكون مدخلًا إلى كون قصيدته، حيث يقول:
«سألوا القلب عن مناه، فحنّ
لصباحٍ تدثّر الحبّ معنى
لأريج الوصال،
للشفق المسفوح من ضحكة المساء
وأنّى».
اتّكأ جابر على الصور المركّبة، ليبتعد من الصور الأحاديّة المكرورة، أو الأسلوب التقريريّ، فالصورة عنده لا تصدر عن متسرّعٍ، بل هي عملٌ هندسيّ يلزمه الكثير من التأنّي والصبر من غير تكلّفٍ، ليضيع فيها ما يعزّز حضور طرفٍ على آخر، وذلك من طريق تآزر مكوّناتها اللفظيّة، وحمولاتها الدلاليّة، الأمر الّذي يعيد إلى الأذهان موقف الإمام عبد القاهر الجرجاني الّذي عدّ النظم تضافر بلاغيّات الجملة مع نحوها لتأسيس جماليّاتها بعيداً من قيد المدلولات ومن نماذج صور جابر المركّبة:
«لفتًى علّم النجوم مهارات الحنين الشجيّ
حين تغنّى»
الفتى، الّذي هو الشاعر، يعلّم النجوم الجامدة غير العاقلة، فيؤنسنها بوقوع فعل التعلّم عليها يعلّمها مهارات الحنين الّذي لم يعد مجرّد عاطفةٍ، بل صار مهارة، ما يدلّ على عمق رؤية الشاعر الشموليّة، فلو بقي الحنين عاطفةً لما استطاع جابر نقله من طريق التعلم كما أسند الشاعر صفة «الشجيّ» للحنين، وكأنّه ندم على جعله مهارةً تكتسب، وأخيراً قيّد صورته زمنيّاً حين قال: «حين تغنّى». فالانزياح الدلاليّ، هنا، لم يأت من طريق الاستعارة التقليديّة، بل جاء من طريق استعارة تحتوي كوناً من الاستعارات، كلّ استعارةٍ فيها تفضي إلى أخرى أكثر عمقاً… الأمر الّذي جعل نصّه مادّةً غنيّةً تصلح للتأويل.
محمّد باقر جابر شاعرٌ مجبولٌ أصالةً، مسكونٌ حداثةً، فهو من القلائل الّذين إن فتّشت عمّا لم يقولوه وجدته، فقد استطاع أن يوسّع دائرة المعنى حين قلّص دائرة التلفظ.
وهذا نصّ قصيدة «سهى» مرفقًاً:
«سألوا القلب عن مناه، فحنّ
لصباحٍ تدثّر الحبّ معنى
لأريج الوصال،
للشفق المسفوح من ضحكة المساء
وأنّى!
لفتًى علّم النجوم مهارات الحنين الشجيّ
حين تغنّى
أن يؤمّ الحروف دون مزامير
تناجي السنا ليمسح حزناً
كان لا بدّ من شغافٍ شفيفٍ
وانبلاجٍ لما بقلبي استكنّ
حين زرت السماء
خاطبني الوحي الموشّى:
فتى الجمال تأنّ!
دلّل الريح، واسترق كلّ سمع
قاب حلمين من رؤاك… وأدنى
فمراياك لا تماري سراباً
وأمانيك ليس تغمض جفنا
وارتقب في المدى الذي ذبت فيه
يتراء «السهى» وما تتمنّى!
يا انعتاق النايات،
يا دفقة الحسّ بحرفي:
لكم تثيرين لحنا!
كنت طيراً مبعثر القلب،
لا موطن عشق لديه آنس غصنا
كم ركبت الهيام دون دليلٍ
وخضمّ الأيام يغرق سفنا
كلّما قلت: يا بحار خذيني
واتركيني في لجّة الحلم أفنى
أيقظتني نسائم الشوق
حين اشتعلت مقلتاك نوراً وحسنا
واخضراراً يخيط للضوء تاجاً
وصلاةً تبعثر الحبّ مزنا
وابتهالات عفّةٍ،
وانتماءً للحياة الّتي تضوّع فنّا
وزكاةً لكلّ عشق زكيٍّ
بعث الروح في لواعج مضنى
وفراتاً لكلّ لحن ظمئٍ
يتغاوى بين الحروف مرنا!».