الثامن من تموز ليلة يخجل التاريخ أن تضمّها صفحاته…

محمد ح. الحاج

الثامن من تموز ليلة قيل إنها يجب أن تخجل من التاريخ، وأصحّ القول إنّ التاريخ هو من يخجل من وجودها بين صفحاته، يخجل التاريخ أن يذكرها فهي ليلة الجريمة حالكة السواد التي ارتكبها النظام الطائفي المتخلّف في لبنان بدفع من النظام الماسوني العالمي لتصفية رجل بات وجوده خطراً على مشاريع المستعمر الطامع بالأمة، بموقعها، بكلّ ما تملك من ثروات وقدرات، الرجل الذي أراد إيقاظها لتدافع عن مصالحها وتستعيد ذاتها.

يذكر التاريخ القديم والحديث العديد من عمليات التصفية لمعارضين في كثير من دول العالم، أو لقادة محليين سجلوا مواقف رافضة لمشاريع الاستعمار والتبعية، لكن أياً من تلك العمليات لم تكن بحجم ما تمّ ارتكابه بحق أنطون سعاده كمفكر وقائد وطني حاول، بل تصدّى لعمليات تفتيت الأمة ورفض الوصاية عليها، وحذر من مشاريع الغرب الاستعماري وأهداف هذا الغرب من وضع فلسطين تحت الانتداب وهو من كان سباقاً في التحذير من وعد بلفور واستنكاره، ومعترضاً على اتفاقية تقسيم الأمة بين فرنسا وبريطانيا بموجب اتفاقية سايكس بيكو.

أنطون سعاده الذي استشرف مبكراً المخططات المعادية، ووضع خطة دقيقة ونظامية للتصدّي لها، واصطدم مراراً بأدوات التنفيذ المحلية، أدركت القوى الكبرى مدى خطره إنْ استمرّ وبدأت ترسم للتخلص منه.

لم يكن ما فعله سعاده جريمة في المنظور الوطني، بل هو عمل سياسي لم يتفق مع سياسة الكيان الواقعة تحت الوصاية الفرنسية، ومعلوم أنّ بريطانيا صاحبة مشروع الوطن القومي لليهود شريكة فرنسا صاحبة النفوذ الكبير في المنطقة التي كانت وصية منتدبة عليها، والتي لم تخرج منها إلا بعد تجنيد الكثير من قيادات الكيانات المستحدثة وربطها بسياستها الدولية، سعاده كان يدعو الى استعادة وحدة الأمة الجغرافية ورفض كلّ النتائج المترتبة على الانتداب والوصاية الدولية، أراد إعادة الوحدة القومية والجغرافية ليكون لأمته التي نذر نفسه لخدمتها مكاناً تحت الشمس وليس قبراً في الظلال الاستعمارية.

اللعبة القذرة التي مارستها القيادات المحلية في الشام واستجابتها لمطالب عملاء الغرب، وتسليم سعاده لحكومة العمالة في لبنان، التي حاولت تصفيته خلال نقله من دمشق إلى بيروت ولم تفلح، اضطرت لمحاكمته صورياً، أصدرت حكماً جاهزاً، ونفذته خلال أربع وعشرين ساعة في سابقة لم يسجل التاريخ مثلها بحق خصم سياسي من قبل ولا من بعد.

كان سعادة يدرك النتائج بحسه المرهف وهو قال: أنا لا أعدّ السنين التي عشتها، بل الأعمال التي نفذتها… وهو عمل الكثير لصالح أمته، والدليل ثقته بصلابة الفكر الذي وضعه وقدرته على البقاء… أنا أموت أما حزبي فباق.. وفي هذا نفي قاطع لصحة اعتقاد من أراد التخلص من فكر سعاده بالقضاء على شخصه فجاء الاعتقاد مجرد وهم.

بعد تسع وستين عاماً على اغتيال سعاده، الزعيم السوري والمفكر والفيلسوف الذي تعتزّ بأمثاله الأمم الحية، نجد أنّ فكره ما زال متألقاً، في مضامينه الحلول الكفيلة بإنهاض الأمة والارتقاء بفكرها وواقعها لتلحق بالأمم المتقدّمة، ولكن، ما زال الأعداء هم ذاتهم، بل تكاثروا وبعضهم تجذر في الأرض، ونجح في خطته النظامية بعد أن تعاون معه حكام الكيانات العربية من مشيخات وممالك وإمارات، وجمهوريات هيكلية، فكانوا الحراس لمشاريعه، ولنستمرّ في محاولتنا الحفاظ على عقيدتنا وفكرنا ونشر الوعي في مجتمع تخدّره قوى كبرى بأفيونها الذي اكتشفته قبلاً وما زالت تعتبره الدواء الأنسب للشعوب المتخلفة التي تقول إنها عالم ثالث، هي من ساهم في صنعه والحفاظ على تخلفه وتمنع أيّ محاولة لنهوضه.

المجد لسعاده الفادي الأول للنهضة في ذكراه، المجد لأبناء سعاده من النسور المدافعين عن الأمة، فمنهم من ردّ الوديعة ومنهم من يستمرّ وما بدّلوا.. ولن يبدّلوا أبداً عاملين لمجد سوريانا، وخلود فكر سعاده.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى