نحتاج لفهم سعاده بعمق
ناصر قنديل
– بعيداً عن حقه بالتكريم في ذكرى رحيله المدوّي مع قرار الإعدام الأقرب للاغتيال، يحتاج زعيم نادر في بلادنا هو أنطون سعاده لأن نفهمه بعمق، والـ «نحن» هنا المعنيون بالفهم، أبناء بلاده التي عرّفها بالأمة السورية، ونخبها بكل تلاوينهم، ومؤيّدوه والمؤمنون بعقيدته والمخالفون لها، حيث يبدو الجهل سمة جامعة لكثيرين يتجاهلون معنى المرور التاريخي لهذا الزعيم النادر في حياتنا. كما هو الجهل سمة بعضٍ من المريدين وكثيرٍ من المخالفين، والفهم العميق يبدأ عادة بالتساؤلات التي تبدو بديهية ونقفز عنها بداعي بديهيتها، في ما يكمن فيها الكثير من المعاني:
– أول التساؤلات هو: هل نعلم أننا نتحدّث عن شاب نضجت فلسفته للحياة والوجود والوطن والأمة والسياسة والاقتصاد والمجتمع والحب والموسيقى، وهو في الخامسة والعشرين من عمره، بعد سبع سنوات أمضاها في الكتابة والنشر والتجارب الحزبية لإطلاق نهضة قومية في بلاده وأمته، ليعود من المغترب إلى بلاده حاملاً هذه الفلسفة والعقيدة والرؤى الجامعة لكثير من المناهل والعلوم وقواعد الحياة ليحاضر ويناقش ويكتب وينتهي بتأسيس حزب عقائدي وهو في الثامنة والعشرين من عمره، ويمنح هذا الحزب ما تبقى من عمره قيادة وتثقيفاً وانتباهاً لكل مقتضيات العمل السياسي والنضالي والفدائي، والمناقبية الأخلاقية، والمقدرات الحوارية والتواصلية، لسبعة عشر عاماً متواصلة، ويغادر وهو في الخامسة والأربعين تاركاً خلفه ميراثاً في الفكر والممارسة، مواجهاً الرصاص بصدره بثقة المنتصر والفرح بأن حزبه وعقيدته ذاهبان إلى نصر أكيد؟ والسؤال هو لأبناء هذا الـ»لبنان» وأبناء الأمة التي ناداها سعاده للنهضة، مَن يمكن التباهي بقدرته على الجمع النابغ بين العبقرية الفلسفية والتنظيمية والاستعداد النضالي وصولاً للتضحية الفدائية على منصة الإعدام؟ وهل يستحقّ هذا التفرد النادر تكريماً يصل حد التباهي بالانتماء لوطن وأمة أنجبتا هذا النادر والمتميّز والاستثنائي؟
– مصداق ما قاله وما فعله سعاده، يبدأ من صدق إيمانه بما قال وفعل، وصولاً لبذل النفس على مذبح هذا الإيمان بلا أن ترتعش قدم أو يرتجف لسان، فكان وهو يتلقى الرصاص يوثّق بالدم وكلماته الأخيرة صدق الثقة بصواب ما بشّر به وجعله قضية حياته، وصولاً للشهادة، لكن هنا يصير السؤال الثاني، وهو: هل السيرة انطوت وانتهت برحيل سعاده، فالفكرة الحيّة كالبذرة الحيّة، تنمو ولا تموت، وهكذا كانت فكرة سعاده، وهنا تتواصل شهادات المصداقية للقول والفعل، فبعد رحيل سعاده كنّا أمام حزب يصير عمره بعد عام سبعين سنة بعد سعاده، حزب بقي حاضراً في حياة وطنه وأمته، حيث الزلازل والبراكين والعواصف والأعاصير، ولم تهزّ كيانه العاتيات، ولم تهمّشه الأزمات، ولا غيّبته التطورات، وبجواره خلال هذه السنوات أحزاب نالت الكثير من أمجاد محلية وإقليمية ودولية لتصدّر الحياة الوطنية والقومية، هزُل بعضها ومات بعضها وهُمّش بعضها وذبُل بعضها، وبقي بينها قوة حاضرة فاعلة ومؤثرة في كل حدث كبير يهزّ الوطن والأمة. وهذه شهادة عظيمة لمصداقية القول والفعل عند سعاده، وقلبها مصداقية البناء. لقد بنى سعاده مؤسسة على قواعد أشد قوة من المتغيّرات، وأشد صلابة من التحولات.
– السؤال الثالث هنا هو: هل البناء المؤسسي الذي وهبه سعاده فكره وعمره، تأقلم مع المتغيّرات وتلوّن بالتحوّلات حتى تحقق له الصمود، أم أنه بقي بقوة ما زرعه فيه سعاده وما رسمه له وما كتب وقال وفعل، يجد في كل تطوّر وحدث وزلزال وعاصفة نداء تحقق من المصداقية والرؤية والفهم والاستشراف تزيده حيوية للبذل والتمسك بالمنطلقات. وكل ما في عمر الحزب الذي أسسه سعاده يقول إن قوة الحزب وصموده كانا نتاج بذاره وزرعه، ومعهما وهج شهادته، لكن مَن يقرأ لسعاده كتاباً أو مقالاً، في شأن عقائدي أو فلسفي أو اقتصادي أو سياسي أو وطني أو قومي أو اجتماعي أو ثقافي، وصولاً لما كتب عن نقاشات اللجان المالية في المجلس النيابي وعن الموسيقى وعن المتشرّدين والطائفية والدين، يجدها كتابات ليومنا هذا تضجّ بالحيوية وتنضح بالحياة، تأتي الأحداث لتمنحها قوة البصيرة، وتجعل من كلمات سعاده مصدراً لفهم ما يجري، أكثر مما تكون الأحداث سبباً لمنح سعاده شهادة الفيلسوف العبقري.
– السؤال الرابع هنا هو: هل الحزب استطاع الحفاظ على ما رسم له سعاده من قواعد في المناقبية والحزم في مقاربة القواعد الوطنية والقومية والأخلاقية، وفي مقدّمتها اندماج الانتماءات والهويات التي يأتي منها المحازبون إلى الحزب، طائفية ومناطقية وطبقية وثقافية، في انتماء جديد وهوية جديدة هي هوية الحزب والعقيدة، من دون نكران لما قبلها ولا عداء معها، والجواب في سيرة الحزب واضح بقوة، حيث يشهد العدو والصديق بأن اندلاع العصبيات وانفجارها حروباً، كما انفلات القيم الاجتماعية والأخلاقية في الحروب قد اجتاحت الجميع إلا حزب سعاده، بحيث لا تستطيع أن تميّز بين قوميّ وآخر على أساس طائفة أو منطقة أو طبقة أو ثقافة، فمجتمع القوميين بقي النموذج الذي طالبهم سعاده بأن يشبه ما يبشّرون الأمة بأنه خلاصهم، فأخلصوا بطريقة مذهلة لا يفسّرها إلا عميق انتمائهم للفكر وتشبّعهم بالمبادئ، واشتغالهم على الوعي والثقافة بديلاً للعصبية، وعلى الأخلاق والقيم مثلاً للقدرة على مقاومة إغراءات التفلّت منها التي أغرقت كثيرين غيرهم.
– السؤال الخامس هنا هو: هل حزب سعاده الذي عاش وسط أحزاب كان بينها دائماً مَن هو أوسع منه انتشاراً وأكثر منه نفوذاً واتصالاً بمصادر القوة، نجح كما بشّره سعاده بأن يبقى فاعلاً في قضايا الوطن والأمة؟ وهل تلكأ عن تصدّر الصفوف عندما تهبّ الرياح ويدقّ جرس المخاطر؟ ووقائع حياة الحزب تقول إن ما من صفحة مضيئة في تاريخ وطنه وأمته إلا وكان في سطورها الأولى فاعلاً لا منفعلاً، يبذل الدم كما بذله سعاده بسخاء، واثقاً كما وثق سعاده بأن النصر حليفه الحتميّ، مهما اشتدت العواصف وتعقّدت سبل الخلاص. فكان في مقاومة الاحتلال منذ رصاصات خالد علوان وشهادة سناء محيدلي طليعياً لا يتأخر عن تلبية النداء. وها هو في المقاومة الشعبية للحرب على سورية طليعياً ومؤسساً. وها هي حقائق ما يجري في المنطقة تقول إن المتحد الاجتماعي القومي الذي رسمه سعاده مدعو للاتحاد، كما قال سعاده قبل سبعين عاماً. وها هي فلسطين تتقدّم كنداء لسقوط وصفات المساومة التي رفضها سعاده ودعا لنبذها، سالكاً طريق الحديد والنار لاسترداد فلسطين بكامل ترابها. وها هي العصبيات والطائفيات تنهش جسد «المجتمعات»، وتقول إن وحدة النسيج الاجتماعي تحتاج لهوية توحّد بقوة الإنتماء لأمة.
– السؤال السادس هو: هل نحن نتحدّث عن نبي ومبشّر ديني أم عن صاحب نظرية وضعية؟ والجواب معلوم بأن سعاده ليس صاحب دعوة دينية ولا عقيدة غيبية، لكنه من القلائل بين الفلاسفة في العالم الذي نجح بتقديم وصفة فكرية وفلسفية واقتصادية في قمة المعاصرة ولم تقع في التصادم مع الديانات، لكنها أصرّت على تحييدها من الحياة المدنية، وتحييد الدولة عن انتماءات مواطنيها إلى الديانات. فجمعت نظرة الاحترام للدين والتدين إلى عقيدة مدنية علمانية لا لبس فيها. والغريب هو: كيف يمكن لمن ينتمي لوطن سعاده وأمته مهما كان انتماؤه وموقفه ألا يفخر بالانتساب إلى وطن وأمة أنجبا هذا العبقري الفريد وهذا الفيلسوف العظيم، وهذا المناضل الاستثنائي، وهذا المستشرف البصير، وهذا السياسي الحكيم، وهذا الحزبي المتنسّك، فيرفع له القبعة وينحني إكباراً، ويقول لسعاده في ذكرى رحيله المدوي، يليق بك التكريم؟
– القوميّون مدعوون لإعادة تقديم سعاده كنابغة وفدائي وبطل من هذا الشرق، يصعب إيجاد ما يوازيه في تاريخ الشرق الحديث، ولم ينجب الغرب مثله، وأن يكفيهم هذا فخراً، وأن يبحثوا عن كثير كثير في فكر سعاده ما يجعله رمزاً للجمع بين القوميين أنفسهم على اختلاف اجتهاداتهم، وبصورة أقوى رمزاً للجمع بين أصحاب المشارب الفكرية والعقائدية والسياسية المختلفة، وأن يترجموا سعيه لتشكيل تيار قومي اجتماعي مشرقي يضم نخباً وهيئات وجمعيات ومؤسسات تلتقي على الكثير من القواعد التي وجد فيها سعاده وصفة الخلاص، لأن ما سعى إليه سعاده أن يكون الحزب عصباً للنهضة لا أن تكون العقيدة ديناً بين الديانات، ولا أن تكون الحزبية عصبية بين العصبيات.
– هذا غيض من فيض نداء يوم تاريخي من أيام تموز ومن أسئلة تدعونا لفهم أعمق لسعاده.