الإعلام الإلكتروني.. سلاح متفلِّت بيد العابثين
د. إيمان مرداس
يُعتبر لبنان رائدًا في صناعة الإعلام، ومحور الحركة الفكرية النهضوية في العالم العربي، حمل شعلة حق حرية الرأي والتعبير، وضمان ممارسة هذا الحق على اعتباره ركنًا أساسيًّا، ومبدأً جوهريًّا في بناء مجتمع ديمقراطي.
في ظل التطورات التي أحدثتها ثورة المعلومات منتصف القرن العشرين، شهدت وسائل الإعلام اللبنانية قفزة نوعية، وأصبح الحاسب الآلي يتحكّم بمختلف العمليات الإعلامية، بدءًا من إعداد المادة التحريرية مرورًا بتنظيم صفحاتها وصولاً إلى عرضها على الجماهير. وانتقلت من مرحلة وسائل الإعلام المتعارف عليها صحافة، إذاعة، تلفزة ، إلى مرحلة تكنولوجيا الإعلام المتمثلة بالإنترنت التي أصبحت أداة مساعدة للتغطية الإخبارية، ووسيلة لتحقيق غايات متعدّدة قد تكون شخصية، تجارية وسياسية، في ظل فسيفساء طائفية وحزبية.
وبالعودة إلى التاريخ، حمل الإعلام اللبناني مسؤولية الكلمة وأمانة القلم. وساهم منذ نشأته في القرن التاسع عشر بدور وطني كبير في مواجهة الاحتلال العثماني، ثم الانتداب الفرنسي. فكان قوة محرّكة في إثارة اهتمام الجماهير بالقضايا الوطنية، وفي تشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي، والارتقاء بقيم وأفكار واتجاهات المجتمع اللبناني، إلا أن هذا الدور اختفى مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عندما انتشرت المحطات المأجورة سياسيًا والمنحازة لأيديولوجية معينة، موزعة وفقًا للانقسام الجغرافي والعسكري الذي أفرزته الحرب. وأنشئت هذه المحطات لأهداف تحريضية سياسية وطائفية، وأصبح الإعلاميون طرفًا في النزاعات يروّجون للحزب المنتمين إليه أو إلى الجهة الداعمة عسكريًا وسياسيًا والمموّلة ماليًا، وذلك على حساب المصلحة الوطنية، ويمكننا القول إن عددًا قليلاً من الوسائل الإعلامية حافظت على موقف حيادي إبان الحرب.
مع توقيع اتفاق الطائف عام 1989م، الذي أعلن نهاية الحرب، ونهاية المحطات غير الشرعية، حدّدت وثيقة الوفاق الوطني إعادة تنظيم جميع وسائل الإعلام في ظل القانون، وفي إطار الحرية المسؤولة بما يخدم التوجُّهات الوفاقية.
وفي الآونة الأخيرة برزت ظاهرة إعلامية جديدة وهي المواقع الإخبارية الإلكترونية على شبكة «الإنترنت»، والتي تتمتع بمرونة أكبر من الصحافة التقليدية، بسبب سرعة انتشار المحتوى الإعلامي ووصوله إلى أكبر عدد من القراء والتفاعل معه، وبالتالي توجيه الرأي العام، والخطورة في الموضوع التناسل المتسارع لهذه المواقع من دون قيود تُذكر، أو تشريعات تحدِّد طبيعة عملها ومجالات التفاعل معها، والأخطر من ذلك اختفاء الكلمة المسؤولة وانتشار الكتابة تحت الطلب من خلال التلميع والقدح وفبركة المعلومة أو الخبر حسب درجة المنح المادية، واعتماد هذه المواقع في الغالب على إعلاميين غير محترفين، أو منتحلي صفة إعلامية، والأغلبية من أصحاب هذه المواقع غير حاصلين على شهادات جامعية أوحتى ثانوية عامة.
واللافت، السهولة في إنشاء هذه المواقع والتكلفة المادية الزهيدة، والسماح للاشتراك في منظومة الشبكات الإلكترونية لكل من هبّ ودبّ، إذ لا يحتاج أي فرد يرغب بانتحال صفة إعلامي لأكثر من تسجيل اسم موقعه ضمن نطاقات متعدّدة مثل : com أو net، لذا يعمل أصحاب هذه المواقع على نيل بركة شبكات التواصل ومحركات البحث، ويلجأون أحيانًا إلى شراء قراء وهميين من أجل تصدر قائمة المواقع، وبث أخبار كاذبة بقصد الشهرة.
يُفترض في الدول الديمقراطية أن يتمتع إعلامها بالشفافية، لكننا نعيش في زمن اختلطت فيه المعايير، وانقلبت المقاييس، بعد أن تجرّأت بعض هذه المواقع وأصحابها على استباحة حرمة الصحافة وانتهاك قدسيتها، في ظل غياب شبه كامل للدولة التي تخلّت عن مسؤوليتها، لكون الإعلام الإلكتروني في لبنان والذي لم ينشأ من فراغ، لا يخضع للترخيص، بل فقط ما يُسمّى علم وخبر من المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع. وهو نوع من الترخيص الضمني، ليصبح الموقع رسميًا ومعترفًا به، ويحظى بالحماية من السلطة، وبذلك أطلقت الدولة العنان لعناصر غير منضبطة، غير خاضعة لميثاق شرف إعلامي، ولا تعمل في الإطار العام لوسائل الإعلام، لذا أصبح البعض منها عبئًا على المجتمع.
وإذا كان الإعلام الإلكتروني خياراً لا بُد منه، لذا وجب إيجاد قانون واضح وصريح يُحدّد وظيفة المواقع الإخبارية الإلكترونية، على أن تمتلك هذه المواقع الكوادر المؤهلة من أصحاب الاختصاص، وتتمتع بالصدق والأمانة، لكونها تمسّ صلب العمل الإعلامي في لبنان.
أستاذة جامعية مقيمة في الإمارات