عندما يستفرد رجل واحد بقرار الحرب والسلم
رضا حرب
عندما يستفرد «الحاكم المطلق» المحكوم برغباته ونزعته العدوانية وطموحاته التي تفوق قدرات دول إقليمية كبرى بقرار الحرب والسلم، لا بدّ أن يتحوّل ثوراً هائجاً. لكن، تلقي الضربات المتتالية وانكشاف الحقائق المدفونة مع القتلى وفي أدراج «جهاز أمن الدولة» السيّئ الصيت الذي يترأسه اللواء خالد بن محمد بن زايد، يمكن على المدى المتوسط أو البعيد أن تُطيح بالثور الهائج. طبعاً هذا يحدث في دولة طبيعية تحكمها قوانين ودساتير.
في شهر شباط/ فبراير عام 1968 عُقد اجتماع على مدى ثلاثة أيام ضمّ حكام الإمارات السبع، إضافة إلى قطر والبحرين اللتين رفضتا لاحقاً الانضمام إلى الاتحاد. في ذلك الاجتماع الشهير وقّع المجتمعون اتفاقية مكوّنة من إحدى عشرة نقطةً حدّدت حدود السلطات الداخلية لكلّ إمارة، والسلطات الاتحادية، والتي أصبحت قاعدة لتشكيل الهيكل الدستوري لدولة «الإمارات العربية المتحدة». رسمياً، قام الاتحاد في 2 كانون الأول/ ديسمبر 1971 ويتكوّن من سبع إمارات هي: أبو ظبي ودبي والشارقة وعجمان وأم القيوين والفجيرة ورأس الخيمة انضمّت الى الاتحاد في شباط/ فبراير 1972 . ووفقاً للدستور يُعتبر «المجلس الأعلى» الذي يضمّ حكام الإمارات أعلى سلطة تشريعية وتنفيذية، ومن ضمن اختصاصاته اتخاذ القرارات الاتحادية ورسم السياسات العامة في الشؤون الخارجية والأمن والدفاع، بأغلبية خمسة أعضاء من أعضائه شرط أن تكون إمارتَا أبو ظبي ودبي ضمن الغالبية، بمعنى امتلاكهما للفيتو، ولكن هذا الفيتو لا يمنح أيّاً من الإمارتين تفويضاً باتخاذ قرار الحرب تتحمّل الإمارات الفقيرة كالفجيرة غالبية الخسائر.
من الناحية الجغرافية، إمارة أبو ظبي الأغنى بسبب ثروتها النفطية والأكبر مساحةً، 90 من المساحة الكلية للدولة. ستّ من الإمارات التي تشكل الدولة تطلّ على الساحل الغربي لمياه الخليج، باستثناء الفجيرة التي تطلّ على خليج عُمان خارج مضيق هرمز الذي يمنحها موقعاً استراتيجياً مهماً، إذ لفت انتباه الصين لأهميته في طريق الحرير البحري طريق واحد ممرّ واحد واحتياجات الفجيرة القليلة نسبياً يمكن أن نشهد أول تمرّد على سلطة بن زايد، فضلاً على الانتكاسة الكبيرة التي سيتعرّض لها ميناء دبي وميناء جبل علي مما قد يثير غضب آل مكتوم، خصوصاً أنّ اقتصاد دبي يعاني من تراجع حادّ في الاستثمارات وهروب رجال الأعمال وانخفاض حادّ على الطلب.
أخطأ محمد بن زايد عندما ظنّ أنّ الدعم الأميركي السياسي والعسكري، والتحالف مع «إسرائيل» على حساب القضية الفلسطينية، يمنح الإمارات القدرة على أن تكون لاعباً جيواستراتيجياً على امتداد المنطقة الساحلية من حدود قطر المحاصرة الى البحر الأحمر والسيطرة على الموانئ والممرات البحرية متمرداً على الفرضية التاريخية التي تقول «في لعبة الكبار لا مكان للصغار». وأخطأ مرة أخرى، عندما ظنّ أنّ انقلاب الأوضاع في المنطقة تؤهّله ليلعب دور «العراب» وكأنّ الدول مجرد شوارع في شيكاغو خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي. وارتكب الخطأ الأكبر عندما ظنّ أنّ الثروة النفطية هي العامل الجيوسياسي الأوحد في ملء الفراغات الناتجة عن الفوضى التي سادت المنطقة. لكن في الواقع، مغامرات محمد بن زايد لا علاقة لها باستراتيجية ملء الفراغ، بل في خلق فراغات كلها تشير الى اهتمامه المفرط بالتآمر وإثارة الفوضى في دول غير مستقرة نسبياً، ومن السهل ملاحظة أنّ مغامراته متعدّدة الأوجه على شكل تمويل انقلاب على سلطة منتخبة تركيا ، أو تحريض فريق على فريق لوأد ديمقراطية وليدة حديثاً تونس ، أو تقديم دعم مالي وعسكري لفريق ضدّ فريق ليبيا ، او تمويل الإرهاب سورية ، او التدخل المباشر لقمع انتفاضة شعبية سلمية البحرين ، او إعلان الحرب غير المباشرة فك شيفرة حزب الله . ومن السهل أيضاً ملاحظة أنّ انخراطه في الأزمات ليس وفق قواعد القانون الدولي أو وفق الدستور الذي قامت عليه دولة الإمارات، بل وفق المعايير التي تفرضها طموحاته ونزعته وشكوكه التي ولدت مجموعة من الفوبيات تارة إيران تهدد الأمن القومي للإمارات، وتارة أخرى السعودية وتارة ثالثة الإسلام السياسي .
بسبب استفراد محمد بن زايد في اتخاذ القرارات المصيرية من غير الرجوع الى المجلس الأعلى وعدم الاستناد إلى فهم حقيقي لواقع الدولة ومكانتها في التوازنات الدولية والإقليمية، تعرّضت الإمارات لانتكاسات طالت المجالات العسكرية، والسياسية والاستراتيجية، والاقتصادية وحتى الأخلاقية. فمن الطبيعي أن يكون لها تداعيات خطيرة بدأنا نشهد بوادرها ومؤشراتها الأولية في انشقاق راشد بن حمد الشرقي، ابن حاكم الفجيرة والمرشح لولاية العهد.
على المستوى العسكري، تعرّضت القوات الإماراتية لهزيمة عسكرية في معركة الساحل الغربي للسيطرة على ميناء ومطار الحديدة، علماً أنّ قوات النخبة الإماراتية حاولت عام 2017 السيطرة على المنطقة ذاتها إلا أنها تعرّضت لخسائر جسيمة في معركة وصفها جنود إماراتيون بـ«الجهنمية». في المحاولة الأخيرة للسيطرة على الميناء الاستراتيجي استخدمت الإمارات قوات وكيلة من المرتزقة السودانيين والسلفيين والجنوبيين والكولومبيّين، يقبضون رواتبهم من أبو ظبي، تحت إمرة ضباط إماراتيين. تعرّض مرتزقة ابو ظبي لخسائر كبيرة وصل فيها عدد القتلى الى المئات فضلاً عن الجرحى بالمئات أيضاً. الخسائر الكبيرة أثارت غضب القيادات الانفصالية في عدن، والرأي العام السوداني الذي اتهم حكومة عمر البشير بإخفاء العدد الحقيقي للقتلى الذين سقطوا في المحرقة اليمنية، وكذلك اتهام المنشق راشد بن حمد الشرقي لابن زايد عدم كشف العدد الحقيقي لخسائر الإمارات.
الانتكاسة السياسية والاستراتيجية جاءت على يد دول القرن الأفريقي، الصومال وجيبوتي اللتين اتهمتا الإمارات بمحاولة السيطرة على القرار السياسي من خلال الرشى، وإثارة الفتن الداخلية، خصوصاً دعم الانفصاليين، الأمر الذي كشف أنّ الاتفاقيات الاقتصادية تتحوّل سراً انتشاراً عسكرياً ومخابراتياً. بعد عشر سنوات من العمل للسيطرة على موانئ القرن الأفريقي انهار حلم بن زايد خلال أيام، ألغت جيبوتي الاتفاقية الموقّعة مع شركة موانئ دبي، وكذلك فعلت الصومال. لم يبق للإمارات سوى قاعدة في اريتريا، فلا بدّ من طرح السؤال: هل الحكومة الاريترية مستعدة لتحمّل تبعات التعذيب الوحشي الذي تمارسه الإمارات في القاعدة العسكرية الإماراتية في اريتريا؟ طرد الإمارات من اريتريا مسألة وقت.
الانتكاسة الأخلاقية على مسارين. المسار الأول التعذيب الوحشي في سجن الوثبة وسجن الرزين. الأول مخصص للنساء والثاني للرجال. والمسار الثاني في 18 سجناً سرياً في جنوب اليمن والقاعدة الإماراتية في اريتريا. نشرت المنظمات الحقوقية العالمية على رأسها منظمة العفو الدولية، تقارير موثقة للتعذيب الوحشي في سجن الوثبة على يد مجندات نيباليات وفي سجن الرزين على يد مجندين نيباليين. الأسلوب الوحشي للتعذيب يوحي بأن المجندات والمجندين تمّ اختيارهم بعناية لأنهم خبراء في التعذيب، ولا يتكلّمون اللغة العربية لمنع أيّ تواصل مع السجينات والمساجين يمكن أن يولد تعاطف معهم. أما في اليمن، فأكدت المنظمات الحقوقية أنّ التعذيب يُمارس بسادية منقطعة النظير نيابة عن الولايات المتحدة، أيّ أنّ الأسئلة للمخابرات الأميركية والتحقيقات البشعة للقوات الإماراتية، باعتراف المسؤولين الأميركيين. هذا السقوط الأخلاقي ستكون له تداعياته، عاجلاً أو آجلاً، إذ انّ التقارير الحقوقية مثيرة للرعب، والاتهامات الموثقة تؤكد أنّ الانتهاكات المريعة لحقوق الإنسان ترتقي الى «جرائم حرب».
الانتكاسة الكبرى جاءت نتيجة لأزمة داخلية قادت شخصية مهمة ومثقفة الى الانشقاق، هو الشيخ راشد ابن حاكم إمارة الفجيرة الشيخ حمد الشرقي، خوفاً على حياته وفقاً للقاء الذي أجرته معه صحيفة «نيويورك تايمز»، ومنها تصبح المقارنة الموضوعية أساساً لتشخيص الوضع الداخلي وحالة الخوف التي تُفرض على شعب الإمارات: إذاً الخوف فرض على شخصية كالشيخ راشد بن حمد الشرقي الهرب خوفاً على حياته. فكيف بالمواطن العادي؟ حالة الخوف المفروضة على شعب الإمارات تؤكد أننا لم نخطئ عندما أطلق المركز على الإمارات والسعودية والبحرين «دول الخوف».
المركز الدولي للدراسات الأمنية والجيوسياسية