عالم جديد… فأين العرب منه؟
د. رائد المصري
بهدوء… قلنا سابقاً وفي أكثر من مناسبة بأنّ وصول رئيس يحمل مواصفات، كتلك التي تنطبق على ترامب الى البيت الأبيض ليس صدفة، وليس كما يدّعي البعض أو يجتهد بأنّه يحكمه الغرور والجنون والتعصّب والعنصرية. وهي كلّها صفات موجودة وتلازم الرئيس الأميركي بشدّة، لكن يجب التنبّه إلى أنّه أتى نتاجاً لصورة مأزومة في المجتمع الأميركي ولتصدّع في مؤسسات الدولة الأميركية العميقة، والتي سارت منذ الحرب العالمية الثانية مسار حفر وتثيبت مشاريعها الاستعمارية والسيطرة والاستحواذ على ثروات الشعوب، وكذلك الحفاظ الدائم والأبدي لتأمين وجود الكيان الصهيوني الغاصب على أرض فلسطين وديمومته…
أسوق هذه المقدّمة لأستعرض تسارع وتطوّر مسار العلاقات الدولية أقلّه منذ عام 2008 الى يومنا هذا. وللنّظر بدقّة لنهج ولسياسات الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وكيفية تعاطيه مع أزمات العالم المفتوحة وأزمات المنطقة، سواء مع الكيان الصهيوني وزعمائه الذين كان دائماً في حالة تصادم وتنابذ معهم ولم يستفد العرب منها ولو بسياق أو مشروع واحد صغير، أو في تعاطيه مع ما أسموه الربيع العربي في مصر وتونس وأخيراً في الحرب على سورية وبعد اتفاقية الكيماوي عام 2013.
الافتراق الحاصل في أنماط وسياسات الدول وعلاقاتها الكلاسيكية اختلفت اليوم كلياً، فها هو الرئيس ترامب يضرب عرض الحائط بكلّ ما هو تقليدي في علاقات الدول وفي الاتفاقيات المعقودة وفي التحالفات التاريخية، سواء مع دول الإقليم ونخصّ بالذكر منها دول الخليج وبعض الحلفاء من دول الرجعيات العربية أو بما يربطه مع دول الغرب الأوروبي والحلف الأطلسي، وأخيراً علاقات ترامب وسياساته الخارجية المتعلّقة بروسيا والصين وإيران وكوريا التي كانت أول صفحة تفتح في الأجندة الدولية حول كيفية التعاطي والنمط الذي يجب أن يتعوّد عليه العالم بعد ذلك.
فلم تعد الإيديولوجيات والعقائد التي كانت سائدة، ما نجح منها وما أخفق، ستكون قادرة وحدها وبمفردها على السّير في تطبيق أجنداتها السياسية والاقتصادية على الأقلّ، حيث صار هناك مزيج وخليط لمجموعات من الأفكار والأنساق والسياسات والإيديولوجيات المتعددة والمركبة تفرض نفسها على العالم كله، وليس بمقدور نمط واحد أن يتعايش أو يتفرّد بطرح نموذجه وتعميمه أو فرض تعميمه حتى لو لزم الأمر بالقوة. فهذه سياسات أثبتت فشلها الذريع وفجّرت المجتمعات الإنسانية وخرّبت كيانات الدول التي أنشئت من معاهدة وستفاليا عام 1648 إلى اليوم.
لا أحد يستطيع إنكار أنّ علاقات الإنتاج في الاقتصاد العالمي تبدّلت وصارت لها أولويات مختلفة. فهذه العلاقات التي كانت تحكم نمط العلاقات الرأسمالية في الولايات المتحدة أو بينها وبين أوروبا افترقت اليوم ومزّقت من خلالها عصب العولمة الاقتصادي المتفلّت، فبتنا أمام سياسات أميركية حمائية مناقضة ورافضة كلّ ما تمّ إنتاجه خلال عقود. وكذلك عودة الصناعات الأميركية الى الداخل بعد أن أخرجها نمط العولمة الاقتصادي بفعل علاقات الإنتاج المشوّه على الأقلّ، وسياسات الهجرة وغيرها من الاتفاقيات التي بات ضرورياً التملّص منها بحسب الرؤية الترامبية الجديدة، كذلك السياسات الروسية وعلاقاتها مع أوروبا والصين وربط تحالفاتها الاقتصادية والسياسية سواء بدول بريكس أو بمنظمة شنغهاي أو بتفاهماتها حول قضايا الأمن والاقتصاد مع أوروبا، ومن دون أن ننسى السياسات التركية التي خرجت عن طوع الأطلسي وباتت تبحث عن مصالحها وفق المعطى الدولي الجديد. وما أزمة الملف النووي الإيراني الأخيرة وانفضاض أميركا عن هذه الاتفاقية إلاً المسمار الأخير الذي دقّ في نعش السياسة الدولية الكلاسيكية التي يرفضها ترامب وتتلقاها أوروبا بحسرة ويجيّرها بوتين بما يخدم مصالحه ومصالح حلفائه.
لم يعد هناك من ثابت في فكر وحكم العلاقات الدولية من الآن فصاعداً، بل هناك مزيج وتعدّد من مجموعات وأفكار بما يتناسب ومصالح الدول أو المجموعات الإقليمية التي بدأنا نشهد توحّدها. فالأخذ بما يناسب من سياسات واقتصادات هذه الدول وبما يقوّيها ويشدّ من عضدها هو الأجدى، فلن يضير العالم والعرب ودول المشرق بعد اليوم اعتماد تقوية وتثبيت كيانات الدول والحفاظ على دور قوي للدولة فيها مع سياسات انفتاحية داخلية تعترف بالآخر وبسيادة القانون، ومع الخارج منها ما يمكن أن يكون حمائياً ومنها ما يكون معولماً أو ليبرالياً، ومنها ما ينفعها في الإطار الإيديولوجي بما يتعلّق بالوعي الجمعي للشعوب وتثبيت هوياتها ومنع فقدانها، مع الأخذ بالاعتبار منطق وسياسة تكافؤ الفرص التي تتيحها أو يتيحها مبدأ الشراكة في إدارة النزاع وكذلك في إدارة المصالح بين الدول… هذه الأنماط يبدو أنها تتجسّد في الأوساط الدولية والإقليمية.
فهل العرب بنخبهم السياسية وأوساطهم الشعبوية مستعدّون لتلقّف هذا النوع من السياسات؟
التجارب تقول: للأسف لا…
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية