أردوغان يُدمِّر تركيا عند العرب
د. وفيق إبراهيم
ينسجمُ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع أسلافه سلاطين بني عثمان في التعامل الدموي والماكر مع العرب، متجاوزاً كلّ العناصر المشتركة في التاريخ والحاضر، فما يجذبه مجرد احتلال أراض سورية وعراقية ودعم الإرهاب لتفتيت هذين البلدين وتحقيق نفوذ سياسي واسع فيهما من خلال «عالمية» الإخوان المسلمين والتركمان المنتشرين في المشرق.. لكن هاجسه الأساسي هو القضاء على كلّ نزعة استقلالية عند الأكراد في سورية والعراق، خشية أنّ يصل صداهم إلى إخوانهم «كرد تركيا».
لم يتعظ اردوغان من رفض الاتحاد الأوروبي إلحاق تركيا عضواً فيه. وانهيار مشاريعه لتفتيت سورية والعراق ومصر واليمن بواسطة الإرهاب والإخوان المسلمين بالشكلين المباشر وغير المباشر باعتراف عالمي بهذا التورط.
ولم يكتفِ بذلك، فأرسل جيشه التركي لاحتلال أراضٍ في شمال العراق وسورية متذرّعاً بالخطر الكردي على بلاده وبضرورات ضد إرهاب إقليمي.. تجمع القوى العالمية على اختلاف هوياتها أنّ «تركيا أردوغان» هي التي رعت نموه منذ سبع سنوات وحتى اليوم على كل المستويات.. خلال هذا المرحلة.. حوّل أردوغان تركيا بسياساته الرعناء عدواً للعالم العربي بأسره باستثناء قطر.. مصر بثورة مواطنيها أولاً، وتوجيه سرّي أميركي لقيادات عسكرية سدّدت ضربة مميتة لأحلام أردوغان بقيادة المنطقة، فأقصت الاخوان المسلمين عن الحكم.. وكانت سبقتها هزيمة «الاخوان» على أيدي الجيشين السوري والعراقي، بشكل نهائي.. وتواكبت هذه الهزائم مع بروز تعارض بين طموحات أردوغان والمشروع الأساسي الأميركي للمنطقة الذي رأى في الطموح الكردي معبراً لتلاعب واشنطن بالدول الأربع التي ينتشر فيها الأكراد وهي إيران والعراق وسورية وتركيا.
تركيا الآن على عداوة مع مصر وتناقض مع السعودية وخلاف داخل البيت الواحد مع واشنطن ونزاع مميت مع الكرد.. وانهيار كامل في العلاقات مع سورية والعراق.. فما هي هذه السياسات الأردوغانية التي تجعل خط مرور أنقرة نحو العالم العربي مقفلاً بالبوابتين السورية والعراقية إقفالاً محكماً.
يبدو أنّ أردوغان يعتقد أنّ حبل الخلاص بالنسبة لأزمات بلاده، هي باستمرار احتلال شمال سورية والعراق للوصول عبر تحالفه مع روسيا وإيران في «إطار هيئة الدول الضامنة»، إلى تحقيق نفوذ يعيد لأنقرة شيئاً من نفوذها. ويقضي على الطموح الكردي مؤمناً إعادة بعض حلفائه في سورية والعراق إلى دائرة التفاعلات السياسية فيهما.
وهذا يقود مباشرة إلى المفاوضات الدائرة حول منطقة إدلب التي تحتوي على نفوذ تركي سياسي وعسكري يرعى نحو خمسين ألف إرهابي سمحت إنقرة بدخولهم إلى المنطقة تدريجياً. وتراوغُ اليوم لاستثمارهم في إعادة بناء نفوذها السياسي وإجهاض مشروع الكرد، فهل هذا ممكن؟
وما هي العوامل التي تحاول أنقرة استغلالها لتحقيق مآربها؟
يلعب أردوغان على الصراع الأميركي ـ الروسي، بتقديم دولته كحاجة لهما.. لجهة واشنطن، تبدو أنقرة آخر الأوراق «الأميركية» القوية في الشرق الأوسط، على الرغم من التناقضات المندلعة بينهما على الموضوع الكردي، ويعتقد اردوغان أنّ بإمكان واشنطن بيع الأكراد، لأنها تمسك بهم في العراق بشكل مباشر ومن دون وسيط وعجزت عن التأثير عليهم في إيران إلا بشكل نسبي. أما في سورية، فهناك مؤتمر هلسنكي التي أقّر فيها ترامب نيابة عن بلاده بصعود الدور الروسي في سورية وحصريته، وهذا يعني توقف المشروع الكردي عن طموحه بدولة مستقلة واقتصاره على مشروع إدارة ذاتية تتبع لدولة سورية يسعى الروس إلى أنّ تكون فدرالية أو أقل بقليل.
لذلك يجنح اردوغان إلى الاعتقاد بالعودة الأميركية المرتقبة لاعتماد ورقة الأتراك في وجه الموقفين الروسي والإيراني.
ويرى الرئيس التركي أنّ روسيا نفسها لن تتخلى عنه وتصادمه في الشمال السوري، حرصاً منها على استمرار التناقض التركي مع واشنطن.
وكذلك بالنسبة لإيران تعتقد انقرة أنّ إيران لن تسمح لنفسها بمطالبة تركيا بالانسحاب من الشمال إلا بعد سحب قواتها الإيرانية وقوات حزب الله من سورية.
هذه هي الأسباب التي تجعل من أردوغان يميل إلى المماطلة في موضوع إدلب وجيب جرابلس ـ الباب، علماً أنّ طهران ابلغته أنّ قواتها موجودة في سورية بطلب من حكومتها الشرعية. ويسري الأمر نفسه على حزب الله الذي قاتل الإرهاب على الأراضي السورية لسببين:
حماية الدولة السورية ومنع الإرهاب من الانتقال إلى لبنان والمنطقة بأسرها، وهذه حججٌ قانونية أثبتتها معارك السنين السبع، التي نجحت فيها الدولة السورية مع تحالفاتها الإيرانية والروسية وحزب الله في تدمير أكبر إرهاب شهده التاريخ منذ أكثر من قرنين من الزمان أنّ ما يمكن استنتاجه من طلبات اردوغان في موضوع إدلب يتلخّص بضرورة قتال إرهابيي إدلب بواسطة الجيش التركي فقط على أنّ يتم التمييز بين النصرة وباقي الفصائل، وهي بمعظمها موالية لأنقرة، والمطلب الثاني يتعلق ببقاء الجيش التركي في ادلب وجرابلس حتى انتهاء الإرهاب من جهة والمشروع الكردي من جهة ثانية.. يبقى المطلب التركي الثالث والأخير وهو سحب قوات إيران وحزب الله من سورية كاملة.
فهل لدى الروس ما يقولونه في هذا الشأن؟ يعرفون أنها ذرائع واهية لا تستند إلى خلفية قانونية واضحة. بل تخفي بهشاشة طموحات تركية بفك أزماتها وإعادة تأمين نفوذ جديد لها، لذلك يمرحل الروس مطالبهم من أنقرة بإدلب أولاً، وهذا يتطلب رفع الغطاء التركي عن الإرهاب في إدلب مع ترك فرصة لانقرة كي تجد حلاً نهائياً تحت عنوان ضرب الإرهاب وتوزيع ما تبقى منه على البلدان التي ينتمي إليها.
أما إذا استمرت أنقرة بالمماطلة، فإن هجوماً عسكرياً سورياً بمساندة من الروس والإيرانيين لن يتأخّر، ومن شأنه تحقيق مسألتين: تحرير إدلب مع إرباك الاحتلال التركي لجرابلس ـ الباب إلى جانب تعميق العداء العربي لتركيا أكثر مما هو حالياً.
لذلك، فالواضح أنّ هناك قراراً نهائياً باسترجاع كامل سورية، ما يؤدي إلى استقرار الدولة وإعادة الكتلة الأكبر من النازحين في إطار دولة قد تكون الدولة الأكثر أهمية في المشرق العربي، على الرغم مما ينتظرها من عمليات إعادة إعمار وبناء وتطوير سياسي.
وهذا أمر يريده السوريون وتصرّ عليه روسيا المهتمة بحلفها السوري لما يمثله من تاريخية ترقى إلى العصر السوفياتي، وأهمية في قلب منطقة يسعى الروس إلى التقدم التدريجي فيها لكسر الأحادية الأميركية المتسلطة على القرار الدولي.
وكذلك فإن إيران مصرّة على دولة سورية متمكنة تواصل التصدي للنفوذ الأميركي والكيان الإسرائيلي في إطار حلف إقليمي كبير من شأنه، تثبيت إقليمية الدولة السورية وسط انهيار دول عربية كبيرة أصبح أدوات صغيرة في الجيوبولتيك الأميركي. الأمر الذي يُظهر أهمية إنقاذ ادلب وجيب جرابلس المحتل، من مشروع تركي يحاول إعادة إنتاج «عثمانية» معاصرة ترتدي القلنسوة اليهودية والجينز الأميركي وعمامة الاخوان المسلمين.