الشاعرة دارين حوماني: بعض شعراء قصيدة النثر أولعوا بالغموض والإبهام فأوقعوا القارئ في كمين… والشعر بعافية
حاورتها: رنا محمد صادق
سهام القلم فتّاكة ما إن اعتمدت الكلمة الحق، ورماح الفكر حازمة ما إن سلكت درب المبدأ، مبدأ الإنسانية والرحمة، مبدأ العيش الكريم وصون النفس، بالقلم الجميل لا يكفي الكلام والتأثير. فعطاء الإنسان لا يقاس بعدد ما يقدّمه بل بنوعيّته ووجوده وتأثيره، كذلك كعمل الصحافي والشاعر والكاتب، أو أي عمل آخر.
مهما كانت الظروف صعبة وقفت مستقيمة، نزف قلمها أحياناً وغرّد كالبلبل أحياناً أخرى، لكن في كلتا الحالتين لم تنسَ الوعد الذي قطعته، فكانت وفيّة للكلمة، والإنسان وإنصاف الأمور.
صحافية، شاعرة وكاتبة هي دارين حوماني التي تجول حول قصائدها البراعم وتتفتح على أطراف أبيات الصدق والعاطفة، تشدّ القارئ وتأخذه معها في رحلة القصيدة، حزينة كانت أم فرحة، حتى لا يأبى العودة.
«البناء» التقت الشاعرة والصحافية دارين حوماني وكان معها هذا اللقاء، نعرضه في ما يلي.
بداياتها كانت مع دارين الطفلة التي تهوى الكتب، تحلم بمكتبة كبيرة في بيتها، تنتظر أن تأخذ عيدية من أمها يوم العيد كي تشتري القصص.. هذه الدارين الطفلة التي رافق نضوجها ولعها بالكتابة، فبدأت تقرأ جبران خليل جبران، ميخاييل نعيمة، نازك الملائكة وغيرهم الى أن بدأت في المراحل اللاحقة انجذبت نحو الشعر المترجم. تلقائياً بدأ وعيها الشعري يتبلور وكتاباتها تنصقل وتتطور.
شعاع اللحظة
تعتبر حوماني أن ثمّة شعاعاً في داخل كل شاعر، هذا الشعاع يولد معه، ولكنه في لحظة ما في مكان ما سيولد بقوة.
وتقول «أذكر من طفولتي أن المعلمة كانت تحدّد عنواناً لموضوع إنشائي، فأكتب ما تجمّع في ذهني إلا أنّه ذات يوم قبل فرصة الربيع في نيسان طلبت أن نكتب موضوعاً حرّاً، وذهبت الى قريتي وهناك وجدتني أكتب شعراً بدلاً من أن أكتب موضوعاً إنشائياً لمادة اللغة العربية.. لا أزال أذكر جيداً كيف أضاء شيء ما في صدري أشبّهه بالوحي الطفولي، كنت لأول مرة أكتب ما يشبه الشعر».
«العبور بلا ضوء» سيرة ذاتية نفسيّة
كل كتاب جديد هو بمثابة مولود جديد يُعطيك الكثير وقد يُعطيك ما لا تتوقّعه، ترى أنه مع مرور الزمن وتراكم التجارب الشخصية والنفسية تختلف الكتابات وتصبح الكتابة أعمق. حيث تعتبر حوماني أن ديوانها «العبور بلا ضوء» هو الجزء المكثّف في داخلها من الأحاسيس العميقة والتجارب المحزنة التي مرّت بها، كأنّه سيرة ذاتية نفسية عن مجموع المشاعر التي عاشتها.
أمّا عن العنونة، فتقول «قد تشعرين بنوع من التشاؤم إذا قلت إنني أحاول أن أصوّر حياتنا كلها، إنها تشبه عبورنا في الظلام وأن الموت وحده هو الضوء، هو طريقنا الى معرفة الحقائق الكبرى.. قلت مرة إن الإنسان يختار لكنه لا يختار بنفسه، أنا أؤمن أننا كائنات موضوعة في قدر مكتوب فإذاً هو عبور دون رؤية واضحة.. في «العبور بلا ضوء» ثمة تصوير أيضاً لحال كثير من النساء في مجتمعنا، وقد أكون أنا منهم، كأننا نمر في طريق بلا ضوء، وهو ما جعلني أختار هذا الغلاف للفنان الرائع محمد شرف الذي عرف كيف يمنحني ما أريد بمجرد أن قلت له العنوان».
التكثيف في المعنى صريح في قصائد حوماني، والاتجاه نحو القصيدة النثرية قرارها. فهي تعتبر أن ما يميّز قصيدة النثر عن الشعر الموزون هو كثافتها ورمزيتها الذي يعوّض في مكان ما عن الإيقاع والنظام الموسيقي الذي قد تفتقده.
وتضيف «كانت لي تجارب شعرية موزونة، لكني وجدتُ نفسي أسير بكثافة نحو قصيدة النثر التي تشبهني أكثر وقد يعترض البعض على غموضها، لكن كل متلقٍّ يفسّرها بناءً على إحساساته وأعتقد أن هذا ما يميّز قصيدة النثر التي قد تحمل عدداً من الوجوه في وجه واحد».
ما بين الشعر والصحافة يتأرجح مشوار حوماني الإبداعي والمهني، حيث ترى أنها موجودة في كل مكان تكتب فيه، كل مكان يمكنها من خلاله أن تعبر بما في داخلها الى الآخر المتلقي.
وتقول عن ذلك «الشعر كائن آخر في داخلي أبتعد عنه أحياناً ثم أحنّ إليه، فيأتيني حيث لا أتوقع، يقفز إليّ مثل طائر يسكنني.. الصحافة أعشقها هي جزء من حياة وددت لو أعيشها بالكامل، أتمنّى أن يأتي اليوم الذي أتفرّغ فيه للكتابة فقط للكتابة».
الشعر يُبقيها على قيد الحياة
وتقول عن الصدق في القصيدة «ثمّة مَن يكتب قصيدة كأنه يصنعها، يضع نفسه في مصنع للكلمات ويخرج بصنعته لنا. يفكر في المتلقي يريدها أن ترضيه، أن تلمسه، أن تطربه. لا أعرف كيف أفعل ذلك، أنا أكتب لنفسي أولاً، الشعر يبقي دارين على قيد الحياة، شعري يشبهني. فهو يخرج مني شفافاً على عذريّته ولا أفكر في المتلقي وهذا خطأ أرتكبه إذ عليّ أن أفكر بالآخر.
تعتبر أن القصيدة تفتح أمامها باب الضوء عند الشروع في الكتابة، وتقول «أشعر بسعادة بعد كتابة كل قصيدة، رغم أنك ستلحظين حزناً تاماً في كتاباتي، لكني أشعر بعد كتابة القصيدة بنشوة روحية تشبه ذلك الفرح الطفولي الكامل الذي لم نعد نشعر به في حيواتنا… وأحياناً أشعر أني أريد أن يشاركني فرحي أحد ما، أفتش عمّن يفهمني كي يقرأها ويعيد معي خلق دارين من جديد.
وتضيف «في داخل كل شاعر حقيقي انكسارات عميقة تحفّزه على الكتابة تبتعد به آلاف الأميال الضوئية عن الأرض، تجعله يعبر الى خارج الأرض بعيداً عن أولئك الذين يلتقي بهم ويتشارك معهم حياته وهو مجبر على ذلك.
في حضرة القصيدة…
تعتبر حوماني أن القصيدة الحقيقية لها رمزيّتها وعمقها، لكن عدداً من شعراء قصيدة النثر أولعوا بالغموض والإبهام بشكل مفرط معتقدين أنهم يلجون بذلك باب الفلسفة والوجود في حين أنهم أوقعوا القارئ في ما يشبه كمين الغموض في تحوّلات المفردات الشعرية، وكأنه أمام نوع من الغرابة اللغوية البعيدة عن الواقع الفعلي».
وعن سؤال ما اذا كان الشعر والفنّ بخير، أجابت «في كل عصر كان هناك مَن يُقدّم مستويات من الشعر والفن، لكن الأجمل بقي من مئات السنين حتى عصرنا هذا. وهذا ما يحدث الآن، يرى بعضهم أن أحوال الثقافة كانت في أوجها في القرن العشرين ثم هبطت في القرن الحادي والعشرين وأن الإنتاج الثقافي ليس بخير، أرى أنه دائماً هناك ما هو بخير وما سيبقى للأجيال اللاحقة. قلتُ مرة تكاثر الشعر قلّل من قيمة الشعر والشاعر، لكني أرى أنّ ما أفرزته التكنولوجيا واعتماد وسائل التواصل الاجتماعي لانتشار عدد كبير ممّن يطلقون على أنفسهم شعراء ويجدون من يشجّعهم. كلها ليست أزمة كما يصوّرها البعض، بل قد تكون دليل عافية على محاولات الخروج من الواقع المحزن وفي النهاية ما هو جيد سيخلد.
يقول مارليه «القصيدة سرّ، وعلى القارئ أن يبحث عن مفتاح»، حيث تعتبر حوماني أن غالباً ما تكون القصيدة مركبة من أوصاف بصرية وهي تدفع القارئ ليشارك الشاعر مشاركة خلاقة في تفسير النصّ… ثمة طاقة للخلق الفني تنتقل من الشاعر الى المتلقي الذي يبحث عن معنى للقصيدة.. إنّها فعلاً كالسرّ الذي يقول ابحثوا عن مفتاح لي.
«مقامات الخيبة» وجهاً لخيبات النساء
لكل واحد منا خساراته وانكساراته من الوجود كلّه حاولت حوماني في هذا الكتاب أن تنقل تلك المعاناة على الورق، فكانت مقامات لخيباتنا جميعاً…
وتقول «كان وجهاً لخيباتي ولخيبات نساء كثيرات في مجتمعنا، من كيفية ممارسة الدين من أصحاب القرار، من التقاليد، من القيود، من كل تلك السجون التي تعيش فيها المرأة».
وتختم حوماني الحوار بالقول «هذه السنة أنا مصابة بالابتعاد عن الشعر.. أكتب من وقت لآخر عندما تفيض مكنوناتي بي ولديّ رغبة عميقة أن أبتعد عن نشر كتاب أو عن إجراء حفل توقيع أو حتى مشاركات في أمسيات شعرية. لديّ دائماً ما أقدّمه لنفسي وللآخرين. فالكتابة هي جزء قد يسقط مني في المقهى على الشارع وأنا أدرّس طفليّ وحتى خلال عملي وسيكون ذات يوم بين يديك».
باقة من قصائد الشاعرة دارين حوماني:
«الذين فتشوا عن إخوتهم
على الصخرة القديمة
وجدوا نملاً وسحالي تلحسها..
والأب ينظر من ثقب في قبره
الى الأيدي الباردة
كلما لمسته..
الذين عبروا البحر
لحياة أفضل
وقعوا في صنّارة الموجة
وأكلتهم السمكة الكبيرة..
الذين ذهبوا الى الحقل عند الفجر
شعروا بثقل الحياة في جفونهم..
وبالقسوة..
ومع ذلك
عادوا محمّلين على ظهورهم
بالتبغ والعرق..
والفرح..
في الجوار
جذع شجرة مقطوع من وسطه
يخاطب نفسه
لم أعد أحمل شيئاً على ظهري
جسدي أخشاب مهملة
وعندما ينهض الربيع
لن تستيقظ العصافير على رأسي..
شقّ في اليد يدّعي الحياة
يفكر أنه كان ثمناً لشيء آخر
وأن جرعة من الحبّ قد تكفيه
لم يقل له أحد
إنّه وجه غصناً أجوف
أكلت النمال منه
ثم وضعت مخيلته على ظهرها
ورمتها في الصوت المدفون..
بالمجان..
الكلمات ترتجف من الخوف
لكني سطّرتها
كي تظلّ في ذاكرتي
تلك الطعنات «.
«النافذة التي كل صباح
أستعيد الرؤوس المقطوعة
أشجار تحت بيتي
لا أتوقف عن الغضب لأجلها
ولدي أشجار مقطوعة أيضاً
أربط رغباتي بها من الخلف
كي لا تهتز من جديد
ندم كثير».