هل تدفع أزمة التشكيل نحو دستور وطني جديد؟
د.وفيق إبراهيم
الرئيس المكلف سعد الحريري متمنّع عن تشكيل حكومة جديدة أو عاجز عن إيجاد حلول ترضي قادة الكتل النيابية وترغمها على القبول بحصص توازي أحجامها النيابية باستبعاد مصادر قوة أساسية تردها عادة من العاملين الإقليمي والدولي وتمنحها «ورماً» غير طبيعي.
لقراءة هذه الأزمة الخطيرة بتمعّن تجب العودة السريعة الى تاريخية تطوّر الآلية الدستورية الميثاقية التي تنتج الحكومات.
قبل 1990 كان الدستور اللبناني يمنح رئيس الجمهورية صلاحيات تعيين الوزراء وتسمية أحدهم رئيساً لهم، وبما أن رئيس الجمهورية من الطائفة المارونية فقد تمتعت بموجب هذه الصلاحية بحكم مطلق للدولة شمل جناحيها التنفيذي على مستوى رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء محولاً ولاءات رؤساء ومديري المؤسسات الاساسية في البلاد ومن دون استثناء لرئيس الجمهورية الماروني.
أما الجناح الميثاقي في هذا الدستور فتجسد بعدم قدرة اي رئيس على الاستبعاد الكامل لأي طائفة ضمن الولاء للرئاسة المارونية.
بالمقابل أدت السلطة التشريعية دوراً هامشياً فولكلورياً للزوم الديموقراطية الشكلية حتى ان صلاحياتها اقتصرت على دور «عريف صف ابتدائي» يتباهى بحمل مطرقة يضرب بها على الطاولة لإسكات المتكلمين من دون إذن.
هذا الاستحواذ الكامل على مواقع انتاج القرار سياسياً وقضائياً واقتصادياً وعسكرياً وعلى مستوى اقرار تحالفات الخارج الذي ذهبت نحو استعداء العالم العربي والانصياع للغرب ادت الى ثورة 1958 التي دفعت باتجاه القبول بمشاركة نسبية للمسلمين السنة إعلامياً فقط ومن دون الاستحواذ على مصادر قوة دستورية أو عرفية فعلية.
لكن تراجع الدور الغربي وصعود المقاومات في وجه «إسرائيل» وانسحاب القوات المتعددة الجنسية «وانتفاء الحاجة الغربية للاطراف اللبنانية بعد مرحلة الاعتراف بـ»إسرائيل» من مصر والسلطة الفلسطينية والاردن، ان الدور الذي ادته المقاومة منذ 1982 مع انسحاب القوات الإسرائيلية الغازية الى الجنوب وطردها من لبنان في الألفين، اسهمت في التوصل الى دستور جديد رعت انطلاقته سورية والسعودية بمظلة اميركية في 1989.
لقد شكل هذا الدستور سحباً شبه كامل للهيمنة الدستورية والعرفية للموارنة التي تعود الى دولة لبنان الكبير في 1920. فأصبح رئيس الجمهورية ملزماً بالدعوة الى استشارات نيابية ملزمة تختار رئيس الحكومة المكلف الذي يشكل الحكومة بمفرده.
هذا ما أدّى الى إمساك المرحوم رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري بالبلاد بديلاً عن الموارنة، ومستعملاً إمكاناته الإقليمية السعودية وسورية والدولية أميركا والاتحاد الأوروبي والداخلية عبر استرضاء الرئيس نبيه بري والوزير وليد جنبلاط في مؤسسات الداخل وجذب الكهنوت المسيحي بواسطة النفوذ الغربي ومعه الأحزاب الموالية للغرب والسعودية.
هذا التطوّر من «الماروني الى السني الحريري» ليس اتهاماً طائفياً بقدر ما هو واقع الحال، لأن حزب الله انقلب في 2006 على هذه المعادلة التي حاولت إلغاء دوره المقاوم مطيحاً حكومة السنيورة ومحاولتها إرباك المقاومة بقرارات خطيرة، فكان مؤتمر الدوحة الذي أبقى على دستور الطائف انما في إطار تعزيز «الولايات المذهبية اللبنانية» بشكل عرفي، بما لم يعد جائزاً أو مقبولاً انتقاء اي وزير من اي مذهب الا بعد قبول الطرف السياسي الأساسي والأكبر في مذهبه.
أما الأداة الدستورية التي جسدت بعمق هذه الولايات المذهبية فهو قانون الانتخابات الأخير الذي عكس فيه صاحبه الوزير جبران باسيل إبداعات الدوحة المذهبية دستورياً حتى بات مستحيلاً نجاح أي مرشح الا على اساس تعمقه في انتماءاته المذهبية اولاً واخيرأً.
نحن اذاً في عصر كونفدرالية المذاهب اللبنانية لأصحابها الزعماء التقليديين الذين اوصلوا البلاد الى دين عام تجاوز المئة مليار دولار والحبل على جرار الفساد، لم ينفق منها شيء على البنى التحتية الاكثر فساداً في العالم، بقدر ما تسللت الى جيوب المسؤولين غير المبالين بردة فعل من شعب قسموه مذهبياً وامتصوا قواه بالفتن الطائفية والإفقار والتجويع.
لذلك فإن مهمة الرئيس المكلف شديدة الصعوبة لأنه لا يستطيع تجاوز مسألتين: نتائج الانتخابات الاخيرة وهي لصالح التيار الوطني الحر والثنائي الشيعي وتحالفاته، وثانياً ليس بوسعه انتقاء وزراء من دون العودة الى المرجعيات الاساسية في مذاهبهم.
هناك معوق جديد وهو أن الاقليم الذي يواليه الرئيس الحريري يريد حكومة ليس فيها حزب الله أو لا يمتلك فيها أدواراً رئيسية. وهذا مستحيل في ضوء العاملين المذكورين: اي نتائج الانتخابات والمرجعيات المذهبية التي لا يمكن تجاوزه بواقع الاتفاق العرفي في الدوحة.
كيف الحل اذاً؟
إما باعتراف الرئيس الحريري بنتائج الانتخابات والتشكيل على اساسها وفق 11 وزيراً للتيار الوطني الحر مع حصة رئيس الجمهورية العرفية ايضاً بموجب اتفاق الدوحة، و9 للثنائي الشيعي يملأها بستة مقاعد هي حصته العرفية المذهبية ومقعد للسنة المستقلين من حصة مذهبهم الميثاقية وآخر للقومي السوري الاجتماعي من حصة المسيحيين مع مقعد للموارنة المستقلين من كتلة فريد هيكل الخازن وحزب المردة.
فيبقى عشرة وزراء خمسة منها للمستقبل وثلاثة للقوات واثنان للأرمن والمستقلين والكتائب.
لكن دون هذه التسوية موقف السعودية الرافض أي تشكيلة حكومية فيها غالبية لعون حزب الله ما يتسبب بأزمة دستورية لأن دستور الطائف واتفاق الدوحة لم يحدد مهلة لتشكيل الحكومة ما يتسبب بأزمة وطنية كبيرة، لأن لبنان يعيش حالياً وسط لهيب إقليمي كبير تَفُرُ فيه المجموعات الارهابية من ميادين سورية والعراق نحو البلدان المجاورة ومنها لبنان، بدليل أن الأجهزة الأمنية اعتقلت منذ أيام عدة خلايا ارهابية كانت تستعد لتنفيذ اعتداءات على الجيش والكنائس ومقار دينية اخرى.
فإذا كان اعتذار الحريري مستحيلاً في هذا الوقت فما العمل؟ خصوصاً أنه يعتبر أن دعوة حزب الله الى تشكيل حكومة على أن تتم مناقشة التطبيع مع سورية لاحقاً بمثابة كمين لإخراجه من التكليف وفق السيناريو التالي: يشكل الحريري حكومة يوافق عليها الرئيس عون فتذهب الى المجلس النيابي ولا تحظى بثقة أغلبية نوابه، فيصبح الحريري مستقيلاً بالضرورة غير مستبب بأزمة دستورية أو وطنية. وعندها يجري الرئيس عون استشارات نيابية جديدة تؤدي الى تكليف رئيس جديد من تحالفات عون الحزب يحترم نتائج الانتخابات والمسألة الميثاقية معاً.
هذا ما يدفع للدعوة الى طاولة لبنانية جديدة تَنسُف الطائف والدوحة في آن معاً.
فإذا كان المطلوب صون الطوائف فلتبقَ الرئاسات طائفية كما هي مع اضافة مجلس شيوخ كما يطالب الوزير جنبلاط الذي يستند بذلك الى الطائف والدوحة معاً.
أما سُبُل التغيير فموجودة في انتاج قانون انتخاب وطني وفق الدائرة اللبنانية الكبرى، ما يشجع اللبنانيين من الجنوب الى الشمال على الاندماج السياسي والاجتماعي في ضوء الحاجة الانتخابية المتبادلة لبعضهم بعضاً فننتقل تدريجياً من كونفدرالية الولايات المذهبية اللبنانية الى بلد منتج لمواطنين مستاوين في السياسة والاقتصاد والاجتماع ومحاسبين طبقة سرقت لبنان ولا تزال تسطو عليه حتى إشعار وطني آخر، فما هو موعده؟