سمبوزيوم بعلبك الدولي مساحة حوار حضارات وملتقى ثقافات اجتمع فيه 19 فناناً اختلفوا في أوطانهم ولغاتهم وأساليبهم وألوانهم لكن وحّدهم الفن

عبير حمدان

يُشرق اللون بين تفاصيل المدينة التي تعشقها الشمس وهي العصية على أي تشويه مفتعل لتاريخها، بعلبك قلعة الحب المزنّر بالصبر والأيدي المجبولة بتراب الزمن، والوجوه العابقة بالحنين والعطاء، يليق بها الفن ويكبر.

ليس بعيداً عن هياكل بعلبك ومعابدها المشرّعة لكل مَن يدرك سحر المكان وجذر الحضارة المغروس على هذه الأرض، كان لقاء الثقافات أشبه بمهرجان لوني ونحتي لأكثر من 16 دولة، حيث شكلت اللغات المختلفة فسفيساء تبعث على الدهشة ويبقى الفن هو اللغة التي توحّد هذا الكوكب على اختلاف شعوبه ومعتقداته.

نجحت الدكتورة ديما رعد رئيسة جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت بالتعاون مع اتحاد بلديات بعلبك وبدعم معنوي من وزارة الثقافة بطبع بصمة بارزة على الساحة الثقافية والفنية من خلال ملتقى سمبوزيوم بعلبك الدولي الأول للرسم والنحت لتثبت بأن مدينة الشمس رقم صعب ومساحة جامعة للحضارات والثقافات في عصف تجلّى بصيغته الإبداعية على مدى سبعة عشر يوماً ليكون الحفل الختامي في الأحد التاسع من أيلول عبارة عن تظاهرة من اللوحات والمنحوتات التي ستزين شوارع بعلبك في محاولة لمحاكاة عظمة قلعتها وآثارها.

رعد: الثقافة الجادّة

تؤكد الدكتورة ديما رعد أن الفنانين المشاركين في السمبوزيوم لديهم تاريخهم الفني والاحترافي وعن معايير الاختيار، تقول: «من موقعنا كفنانين يمكننا تقييم مَن يمتلك المقدرة على نحت صخرة طولها ثلاثة أمتار في فترة قياسية، نحن نتكلّم عن سبعة عشر يوماً يتم فيها إنهاء منحوتة بالمعايير والمقاييس الفنية الدقيقة وتقنية عالية المستوى. هؤلاء الفنانون يتم حجزهم من قِبل دول كبرى وأنا تواصلت معهم منذ سنة ونصف مدة التحضير لهذا الحدث الفني الذي ترينه اليوم تحت عنوان «سيبموزيوم بعلبك الدولي للرسم والنحت» وقد تستغربين إذا قلت لك إن الفنان الأجنبي يقّدر القيمة التاريخية والحضارية لبعلبك، في مقابل ذلك من المؤسف أن هناك فنانين لبنانيين يرون بعلبك بصورة نمطية لا تشبهها. وهنا أريد القول إن بعلبك أخرجت أهم الفنانين واستقبلت أهم الفنانين، بعلبك مدينة نخلة المطران ورفيق شرف وغيرهم، وعليه يجب أن تكون مكاناً يستقطب جميع الفنون سواء الرسم والنحت والموسيقى، وحين نتكلّم عن الثقافة الجادة والفعلية التي لا تنال الكثير من الأهمية في هذا الزمن، فذلك يعني أن نعمل على تنمية الرؤية حتى لدى الأطفال من خلال الميني سمبوزيوم وبالفعل لمسنا تفاعلاً كبيراً وحضوراً لا يُستهان به». وتضيف رعد: «لكل فنان مشارك أسلوبه الخاص، ومن يأتي من خلفية حضارية مختلفة يقدّم رؤيته، ولكنهم لمسوا مدى سحر المدينة وطبيعة أهلها المضيافة، وفي المقابل من غير المنطقي أن يتغير أسلوبهم من الناحية الفنية في فترة قصيرة إلا إن المدينة ستترك بصمتها في ذاكرتهم».

وعن دور الإعلام في إنصاف هذا النشاط تقول رعد: «من جهتي لا أعتب على أحد، ربما كان التقصير من قِبلنا، ولكن برأيي على الإعلام أن يركّز على صورة بعلبك الحقيقية وباعتقادي لا أظنّ أن أهل بعلبك متقبلين للصورة النمطية التي يروّجها البعض إعلامياً عن مدينتهم».

وفي ما يتصل بالجهات الرسمية المعنية بتظاهرة فنية ثقافية من هذا النوع تقول: «هذا السمبوزيوم من المفترض أن يكون من ضمن أولويات وزارة الثقافة لكونه يحتاج إلى جهد كبير وإمكانيات مادية ضخمة، ونحن تواصلنا مع الوزارة وهي بدورها منحتنا الرعاية المعنوية، مع العلم أن هذا الملتقى من المفترض أن يكون محطة سنوية، حيث سيتم توزيع المنحوتات في شوارع المدينة فتصوّري أن يأتي فنانون من دولة مختلفة كل عام ويتركون منحوتاتهم هنا، بحيث تصبح بعلبك عبارة عن متحف كبير يضيف إلى جمالها جمالاً ورقياً».

وتشير رعد إلى أن الصخور الكبيرة تم جلبها من مدينة جبيل لكون النحت يتطلب نوعية خاصة يسهل التعامل معها وعن التحضير الذي سبق حضور الفنانين تقول: «هذا المكان لم يكن مهيأ على هذا النحو، لكننا سعينا لتحضيره بشكل جيد وتم إحياء المكان بطريقة تريح المشاركين، وهذا الملتقى كان فرصة ليتعرّف جزء من الفنانين اللبنانيين على بعلبك والمفارقة أن الفنان الإيطالي على سبيل المثال لا الحصر يعرف قيمة بعلبك الحضارية بشكل كبير».

الطفيلي: تلاقح حضارات وثقافات

ترى الفنانة خولة الطفيلي أن هذا السمبوزيوم خطوة رائدة جداً في عالم الفن والثقافات، وتقول: «سمبوزيوم بعلبك الدولي للرسم والنحت خطوة رائدة في عالم الفن والثقافة وتلاقح الحضارات والثقافات، بعلبك مدينة عريقة بالقِدم، وبغض النظر عن وجود الهياكل العظيمة فيها، العلم يقول إنها مدينة الحضارات بدءاً بالفينيقية واليونانية والرومانية وصولاً إلى العهد الإسلامي، ومشكورة الدكتورة ديما رعد على جهودها التي أثمرت هذا اللقاء بين فنانين من كل أنحاء العالم سواء من المكسيك وفرنسا وجورجيا ومصر وإيران وسورية وإيطاليا وغيرها من الدول التي قد لا أتمكن من إحصائها، إذاً هذا المكان العريق يليق به حدث بهذه الضخامة حيث تصبح اللغة الفنية هي المقياس الذي يجمع بينهم جميعاً».

وعن التفاعل بين المشاركين تقول الطفيلي: «التفاعل رائع والفنان قادر على خلق جو من التخاطب، طبعاً كل واحد منهم لديه خلفيته ورؤيته، ولكن من البديهي أن يتأثروا ببعلبك وما تختزنه من حضارة وجمال، من جهتي اعتمدت النمط البقاعي فترين السهل والفلاح وهذا موضوع محبّب بالنسبة لي، ومن موضوعي الأساسي أقطف فكرة لتأليف لوحة تحاكي العصر. وبالعودة إلى طرحك حول التفاعل بين الفنانين من الجميل أن نرى هذا التلاقح والتخاطب بين المشاركين، وباعتقادي تم اختيارهم بعناية فائقة خاصة أن هذا السمبوزيوم ليس وليد لحظة بل أخذ وقته من التحضير، وإضافة إلى الرسم هناك النحت الذي يأخذ مساحة كبيرة من الحدث، وبالفعل هذا العمل تطلب جهداً جباراً من الدكتورة رعد واتحاد بلديات بعلبك الذي فتح أبوابه لاستضافتنا جميعاً، ومن الجميل أن نرى هذه المنحوتات بعد أن يتم توزيعها في ساحات بعلبك، هذه هي بعلبك». وتشير الطفيلي إلى أن الحضور الإعلامي خجول، فتقول: «هذا العمل كبير جداً ويتطلّب مواكبة إعلامية على مدار الساعة، ولكن للأسف الحضور الإعلامي خجول نسبياً، وكلنا أمل أن يتغير الواقع في السنوات المقبلة حيث من المفترض أن يكون هذا السمبوزيوم محطة سنوية دائمة».

الديراني: حلم تحوّل حقيقة

من جهته أعتبر الفنان ياسر الديراني أن سمبوزيوم بعلبك الدولي حلم تحوّل حقيقة: «هذه التظاهرة الفنية عبارة عن حلم تحقق بفضل الجهد الذي بذلته رئيسة الجمعية اللبنانية للرسم والنحت الدكتورة ديما رعد، ولعل خصوصيته تمثلت بإقامته في مدينة التاريخ والفن والإبداع، بعلبك، حيث أتى الفنانون من ثماني عشرة دولة أوروبية وعربية واجتمعوا على أدراج قلعة بعلبك ومنها توجّهوا إلى مركز اتحاد بلديات بعلبك ليترجموا إبداعهم في الرسم والنحت». ويضيف الديراني: «أنا كمشارك في اللجنة التشاورية مع مركز قضاء بعلبك الثقافي شاركت في السمبوزيوم ورسمت لوحة بأسلوبي الخاص المتنوع بالمدارس الفنية. ولعل ما يميز هذا الملتقى الفني هو التفاعل بين الفنانين المشاركين والتعرف إلى أساليبهم المختلفة خاصة العالميين منهم، ويبقى الأمل بأن يكون هذا الحدث محطة سنوية ثابتة حيث إن استمرارية أنشطة من هذا النوع ينصف بعلبك ويبرز وجهها الحقيقي».

الرمحين: بين الجنة والنار

يعمل الفنان والنحات السوري لطفي الرمحين على منحوتة تختصر الواقع، وعنها يقول: «حين بدأت العمل على منحوتتي كنت أسأل نفسي أين نحن مما يحيط بنا من تناقض، وهي كمن يبحث عن مكان بين الجنة والنار، وليس بالمفهوم الديني طبعاً إنما بالمفهوم الإنساني، وفق ما يأتي في قصيدة الشاعر نزار قباني، رغم أني لم أكن أفكر بهذه القصيدة تحديداً، لكن حين بدأت بتنفيذ منحوتتي تذكّرت هذه القصيدة. ويبقى السؤال الأبرز إلى أين يسير بنا كل ما يجري من حولنا ولذلك علينا الاختيار بين أن نسقط إلى الحضيض ونسمح لمن يريد لنا هذا السقوط بكسرنا، أو أن نبلغ القمة ونتفوّق على أي أمر مرسوم ضدنا». وعن السمبوزيوم يقول الرمحين: «هناك أسماء مهمة مشاركة في هذا الملتقى، وهذه محطة لافتة وتمّ العمل عليها بشكل مدروس، أنا سوري، ولكني مقيم في فرنسا إنما أزور الشام على الدوام، بعلبك تضمّ تناقضاً عجيباً فيها نخبة من المثقفين والمبدعين وفيها أشخاص مغلوب على أمرهم، وربما المشكلة تكمن في كيفية تعاطي الأنظمة مع مواطنيها مما يفرز مجتمعاً متناقضاً، ولكن يبقى الفن لغة جامعة ومساحة راقية لا بد منها».

بودان: تجربة جميلة

تزور الفنانة الفرنسية إمانويل بودان بعلبك للمرة الأولى ويظهر حماسها من خلال ألوانها، وعن مشاركتها في السمبوزيوم تقول: «لدي حشرية في التعرف إلى حضارة وثقافة جديدة، ولذلك تحمّست لفكرة المشاركة في سمبوزيوم بعلبك الدولي للرسم والنحت. وهذه هي المرة الأولى التي أزور فيها لبنان وتحديداً مدينة بعلبك، ولكوني أقيم في قبرص منذ سنتين اعتبرت مجيئي إلى بلدكم رحلة جميلة وقريبة».

لكن هل شعرت بودان بأن زيارتها فيها نوع من المخاطرة، تقول: «المخاطر موجودة في كل مكان وحتى في فرنسا، وأنا زرت الكثير من البلدان وليس لديّ أي مشكلة مع احتمال وقوع حوادث، الشيء الوحيد الذي أتعبني بعض الشيء هو قسوة المناخ، ولكني أعتبر مشاركتي في هذا الحدث تجربة جميلة، وبكل صراحة سأكرر زيارتي إلى لبنان وبعلبك تحديداً، والتواصل مع الفنانين المشاركين في السمبوزيوم كان جيداً بشكل كبير، حيث تمّ تبادل الثقافات بإيجابية واضحة، وقد رسمت لوحة من وحي مدينة الشمس حيث اخترت أن تشبه ألواني الشمس، واللوحة الثانية هي رسم وتركيب يقارب النحت وستكون منجزة قبل اليوم الأخير من الملتقى». خلال تجوالنا بين اللوحات والمنحوتات رأينا كيف يمكن لفكرة أن تختصر عالماً كاملاً بعيداً عن الزمن الافتراضي الذي يضجّ بالألقاب والخطوط والتغطيات الإعلامية التي تتسم بالاستعراض من دون أدنى بحث جدّي عن واقعيتها، وكانت بعلبك حاضرة بتاريخها وجذرها الضارب في عمق الجغرافيا بمنأى عن التقارير المتلفزة الرنانة حول مشكل هنا وحادثة هناك، وكان الفن هو الهوية الوحيدة في مقابل الخطط الأمنية التي شغلت وسائل الإعلام طويلاً، والمفارقة أن هذا الإعلام الذي يطبل ويهلل للحوادث والأمن على مدار الساعة تأخر بعض الشيء ليضيء على حدث فني يعلن وبكل وضوح أن وجه بعلبك الحقيقي لا يختلف عن أي بقعة من هذا الوطن، لا بل إنّه يتفوق على كل ما عداه من وجوه لديها من يسوّق لها على الدوام بالأفضلية.

نغادر مركز اتحاد بلديات بعلبك مع الكثير من الغبار الأبيض المنبعث من الصخور التي ستتحول منحوتات بتواقيع عالمية وفيض من الخطوط اللونية التعبيرية والتشكيلية والصوفية، وبعض من ضحكات الأطفال الذين شكلوا نواة لجيل يسعى لقراءة الأيام المقبلة بلغة فنية تنبذ التفرقة وتسقط حاجز الخوف لدى البعض من مدينة تلقفت الشمس وأشرقت بحضارتها إلى العالم رغم سياسة التهميش والعزل.

الفنانون المشاركون في سمبوزيوم بعلبك الدولي للرسم والنحت، هم:

شربل فارس، بسام كيرلس، عبير عربيد، خولة الطفيلي، ياسر الديراني من لبنان، تيسير بركات من فلسطين، لطفي رُمحين من سورية، ليلى سلماوي من تونس، خالد زكي من مصر، محمود شوبر من العراق، حمزة بونوا من الجزائر، ماي لاشاوري من جورجيا، آرا شاهوميان ورافايل مانوكيان من أرمينيا، ايمانويل بودان من فرنسا، شهريار ريزاي من إيران، زاو لي من الصين، فابريزيو دييسي من إيطاليا، لاورا ماركوس من الأرجنتين وفرانسيسكو كارديناز مارتينيز من المكسيك.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى